نُفتن جميعاً بالأفكار الجديدة وبقدرتها على أسر عقولنا والتأثير في أسلوب تفكيرنا وكيفية عملنا. كيف يقنعني أتول غواندي (الطبيب الذي اشتهر باعتماده على قوائم المراجعة) ويفشل مؤلفون آخرون في ذلك؟ وكيف تدفعني غوينيث بالترو إلى تعديل سلوكي دوناً عن غيرها؟
يتميز مجال الأعمال على وجه الخصوص بوفرة الأفكار الجديدة وتنوعها، حتى إننا نجد صعوبة في استيعابها أو تقييمها.
لا بد أنك تدرك مدى صعوبة عرض فكرة جديدة على أفراد شركتك أو مجتمعك وإقناعهم بها، خاصة إذا كانت فكرة مجردة مثل الاستدامة أو التنوع أو الابتكار؛ فقد يستمعون إلى فكرتك فيتجاهلونها أو يقللون من أهميتها أو يسرقونها في حين أنك خصصت لها جهدك وعرّضت سمعتك وربما مستقبلك للخطر من أجلها.
ومع ذلك، عندما تمتلك فكرة تؤمن بقيمتها وقدرتها على تحسين الأمور ستدفعك قوة لا تفسير لها إلى "الإعلان" عنها، فأنت ترغب في تغيير العقلية السائدة ومستعد لتحمل مخاطرة السعي لتحقيق هذا الهدف.
ولكن، كيف يمكنك تحقيق تغيير داخلي في مؤسستك أو شركتك، خاصةً عندما تفتقر إلى براعة غاواندي أو بالترو في الإقناع ولا تمتلك بالضرورة السلطة والصلاحيات اللازمة؟
أمعن النظر في أسلوب "رائد الأفكار"؛ نحن أمام نوع جديد من الفاعلين الثقافيين؛ أي الأفراد الذين تحركهم أفكارهم، مثل غاواندي وبالترو، ومايكل بولان (الذي يهتم بمجال الطعام)، وسيزار ميلان (الذي يهتم بمجال تدريب الكلاب)، وبليك ميكوسكي (الذي ينادي بأن تكون الأعمال التجارية مرآةً للعمل الخيري)، وغيرهم ممن يصلون بمحتواهم الفكري إلى جمهور عريض ويوقعون أثراً واسع النطاق.
إنهم مستقلون في عملهم ونشاطهم وهم أثرياء ومشاهير ينشرون كتباً ويحلون ضيوفاً على البرامج التلفزيونية. فهل تنطبق أساليبهم في نشر الأفكار على مجتمع الشركات؛ أي على الموظفين والمدراء والمسؤولين التنفيذيين؟ نعم يمكن تطبيقها، ولكن بشيء من التعديل.
كي أوضح لك مقصدي، دعني أقدم لك الموظفة في إحدى الشركات الرئيسية في خدمات تخزين السجلات وإدارة المعلومات، شركة آيرون ماونتن (Iron Mountain Incorporated). سامانثا جوزيف، وهي شابة طموحة تحفزها أفكارها المبتكرة؛ فهي تعتقد أنه بمقدور الشركات الهادفة للربح تحقيق قيمة تجارية كبيرة باتباع نهج استراتيجي تجاه كل من الاستدامة الاجتماعية والبيئية. وبعد حصولها على ماجستير إدارة الأعمال من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في العام 2009 لم تجد عملاً في مجال الاستدامة، لذلك انضمت إلى شركة آيرون ماونتن وأصبحت مديرة الاستراتيجية، وهي تعلم أن الاستدامة ليست من بين المسارات الوظيفية في الشركة ولكنها أملت أن تتمكن من بناء مسار لها.
أي أن سامانثا وجدت فرصةً سانحةً لتحقيق غايتها، فاستغرقت في عملها الاستراتيجي وشرعت في الوقت نفسه في التحضير لعرض فكرة الاستدامة على شركة آيرون ماونتن، وكانت هذه مهمة مثيرة لا تخلو من المشقة بالنظر إلى كثرة أعداد موظفي الشركة ومقارها ومنشآتها وأسطول شاحناتها وغير ذلك من أصولها الحقيقية ذات الصلة بفكرتها.
فيما يلي، أعرض عليك الخطوات التي ينتهجها أشهر رواد الأفكار التي كيّفتها سامانثا لتحقيق مسعاها:
- اجمع الأدلة. كي تصبح مؤثراً بفكرتك تحتاج إلى كم كبير من المواد الداعمة؛ أي البيانات والمراجع والنماذج والقصص والتحليلات التي ربما تحتاج إلى عقود من الزمن لتجميعها. لم يكن أمام سامانثا متسع من الوقت لكنها جمعت من المواد ما يكفيها لتكون "الخبيرة المقيمة" في الشركة، واستغرقت عاماً لبلورة نموذجها الذي عملت عليه خلال وقتها الخاص غالباً، قبل أن تبدأ الحديث عن الاستدامة على الملأ. لكنها كانت تتحدث على انفراد مع العديد من الموظفين طيلة الوقت، وتجمع آراءهم وتنقح أفكارها وتطور ممارساتها وتنشئ الروابط وتكسب المؤيدين.
- طور الممارسات. الفكرة مجردة، ولن تؤدي إلى تغيير ما لم تزود الموظفين بأساليب عملية محددة لتطبيقها يومياً. تستمد أفكار سيزار ميلان قوتها من طرقه في التدريب على "إثبات الذات بهدوء". تعاونت سامانثا مع زملاء من أقسام آيرون ماونتن كلها لتصميم برنامج تطوعي ومشروع تجريبي لتوليد الطاقة الشمسية وشراكة خيرية استراتيجية، ما دفع الموظفين إلى تحقيق الاستدامة دون الحاجة إلى التعهد أولاً بالولاء لنظرية بعينها.
- ضع فكرتك في قالب قوي جذاب. من دون نظرية لا يتعدى التطبيق محض نصائح وتقنيات. عليك تحديد أفضل قالب لفكرتك أو نظريتك؛ قد يكون محاضرة أو مقطع فيديو أو مقالة أو محتوى بصرياً ليمثل التعبير الأكثر اكتمالاً وموثوقية وإقناعاً عن فكرتك. صنعت سامانثا مقطع فيديو قصيراً لتوضيح فكرتها، وأظهرت فيه نشاط آيرون ماونتن المجتمعي فتحمس الموظفون للفكرة وتفاعلوا معها عاطفياً.
- تحدث إلى الجميع عن الفكرة، فيتحدث الجميع عنها. أدركت سامانثا أنها ليست مشهورة كي توجه لها دعوة لإلقاء محاضرة من محاضرات "تيد" أو يستضيفها برنامج حواري، لكنها تؤمن بضرورة التواصل مع الجمهور الأشد تأثراً بفكرة الاستدامة والأقدر على تنفيذها، وما من سبيل فعال لبث الحياة في فكرة أفضل من أن تخرج بشخصك إلى الناس بها. لذلك أعدت سامانثا جولة ترويجية وزارت العديد من إدارات آيرون ماونتن ومنشآتها، حيث تحدثت وأجابت عن أسئلة الحضور. وبعد مغادرتها أثارت فكرتها نقاشاً بين من استمعوا إليها. وهكذا بدأت الفكرة تنتشر.
- تطرّق إلى قصة نجاحك الشخصية. يعرض رائد الأفكار فكرته في سياق قصة حياته. يروي طبيب الأطفال الأميركي الأشهر ومطور مقياس التقييم السلوكي لحديثي الولادة، الدكتور بيري بريزلتون، نوادر من طفولته، وعلى المنوال نفسه تحدثت سامانثا عن اهتمامها بالاستدامة وكيف بدأ من واقع علاقة أسرية قديمة؛ بعد أن عرضت فكرتها عملياً، أكسبتها شخصية مميزة عندما حكت قصتها.
- حدد الفكرة بمقياس. لا يمكن قياس التأثير بالمقاييس المالية، ولكن لا بد من تقديم طريقة لتقييم أثر فكرتك. يربط الناس فكرة مالكولم غلادويل عن الإتقان بمقياس "10,000 ساعة تدريب"؛ وعندما استقرت ممارسات الاستدامة في أعمال شركة آيرون ماونتن، عمدت سامانثا إلى قياس مؤشرات الأداء الرئيسية وإعداد التقارير عنها، وخاصة التوفير في التكلفة، إلى جانب المقاييس غير المالية التي أثبتت نجاح الفكرة، مثل معدلات مشاركة المتطوعين.
- توقع رد الفعل السلبي. توقع أن يلقى عرض فكرتك الجديدة رداً حاداً يتنوع ما بين الجدال البنّاء والانتقاد اللاذع الذي لا طائل منه. لم تواجه سامانثا رد فعل سلبياً مباشراً، لكنها واجهت تحديات؛ إذ أمضت نحو عام في حوارات ومناقشات وجدال ساخن قبل أن تبدأ فكرتها الانتشار بقوة، وأدركت مثل رواد الأفكار كافة أن رد الفعل الحاد سواء كان إيجابياً أو سلبياً يدل على أن الناس يحملون الفكرة على محمل الجد، فلا نجاح حقيقي من دون التغلب على التحديات.
لكل مسار أثر ولكل تغيير في العقلية تجربته الفريدة المميزة. في غضون عامين، قلصت شركة آيرون ماونتن بصمتها الكربونية وساعدت في أرشفة مخططات العمل في مجموعة من المواقع الأقدم في العالم، وتبرعت بنحو 65,000 ساعة تطوعية في الجهود المجتمعية إلى جانب مبادرات أخرى. واليوم، ينفذ الموظفون أنشطة المسؤولية الاجتماعية للشركة في جميع أنحاء البلاد.
توقن سامانثا أن فكرتها حققت أثرها المنشود عندما تسمع من أحد الموظفين عبارةً مثل: أنا فخور جداً بما نفعله. فما من مقياس لتأثير الفكرة أقوى من مصادقة الأفراد عليها بصورة فردية.