أصدرت معظم شركات الطيران الدولية الكبرى في السنوات الأخيرة تقارير عن أرباحها الصافية، إلا أن حساباتنا تظهر مقدار الوهم الذي تعيشه تلك الشركات. على سبيل المثال، تُظهر حسابات التكاليف البيئية البالغة 2.3 مليار دولار في شركة "لوفتهانزا" (Lufthansa) و4.8 مليار دولار في شركة "أميركان إيرلاينز" أن الشركتين غير رابحتين.
ما الذي يفسر ذلك التناقض؟ لا توجد حتى اليوم طريقة تمكّن الشركات من حساب فوائدها وتكاليفها نحو المجتمع والبيئة، وهو ما دفعنا إلى العمل على تغيير ذلك الوضع.
وحظيت قضية التأثير الحقيقي للشركات باهتمام كبير في شهر يوليو/تموز مع قيامنا بنشر تكاليف التأثير البيئي لعدد 1,800 شركة من خلال "مبادرة حساب التأثيرات المرجّحة" (IWAI) في كلية هارفارد للأعمال. وستنشر المبادرة في العام المقبل تكاليف تأثير المنتجات وسياسات التوظيف أيضاً، وهو ما يوفر صورة متكاملة للتأثير الذي تُحدثه الشركات.
لماذا الاهتمام بقضية التأثير الحقيقي للشركات؟
وبذلك يكون عصر شفافية التأثير قد بدأ، ناقلاً مراكز أهداف الشركات والمستثمرين إلى وجهة أخرى، حيث تضافرت الأدوات التكنولوجية والبيانات الكبيرة مع جهود طويلة الأمد يقودها العديد من الأفراد والمؤسسات في سبيل جعل قياس تأثير الشركات الكبيرة وإجراء تقييم عليها حقيقة واقعة. ومع اتباع نهج شفافية التأثير، أصبح عاملا التأثير والربح هما من يحدد قواعد التقييم الجديدة.
وأدى تحليل مجموعة بيانات "مبادرة حساب التأثيرات المرجحة" الشاملة لعام 2018 من خلال عدسة التأثير إلى ظهور وجهات نظر جديدة لمفهوم الربح الحقيقي للشركات. وأصبح من الواضح أن العديد من الشركات تخلق تكاليف بيئية تتجاوز إجمالي أرباحها (هامش الأرباح قبل خصم الفوائد والضرائب والاستهلاك وإهلاك الدين). ومن بين 1,694 شركة من الشركات التي حققت هامشاً إيجابياً في الأرباح قبل خصم الفوائد والضرائب والاستهلاك وإهلاك الدين في عام 2018، ستشهد 252 شركة (15%) تلاشي أرباحها نتيجة الأضرار البيئية التي تسببت فيها، بينما ستشهد 543 شركة (32%) انخفاض هامش الأرباح قبل خصم الفوائد والضرائب والاستهلاك وإهلاك الدين بنسبة 25% أو أكثر.
وبالنسبة لبعض القطاعات، بما في ذلك شركات الطيران والشركات المصنعة لمنتجات الورق والأخشاب وشركات الكهرباء وشركات مواد البناء والحاويات والتغليف، ستشهد جميع الشركات تقريباً إلغاء أكثر من ربع هامش الأرباح قبل خصم الفوائد والضرائب والاستهلاك وإهلاك الدين، وذلك وفقاً لحسابات مجموعتنا.
وتبيّن لنا في القطاعات الأخرى وجود تباين كبير في الضرر البيئي الذي تحدثه الشركات. في المنتجات الغذائية على سبيل المثال، تتراوح التكاليف البيئية من 5% من هامش الأرباح قبل خصم الفوائد والضرائب والاستهلاك وإهلاك الدين (شركة "نستله"، 1.6 مليار دولار) إلى 62% ("أسوشيتد بريتش فودز" (Associated British Foods)، 1.8 مليار دولار). أما في قطاع النفط والغاز الذي يواجه تحديات عدة، فتشهد 75% من الشركات انخفاضاً يزيد عن 25% من هامش الأرباح قبل خصم الفوائد والضرائب والاستهلاك وإهلاك الدين، ولم تتفوق إلا نسبة قليلة من الشركات الأفضل أداء فقط على منافساتها. وبالمثل، يوجد تباين كبير بين الشركات الرائدة والشركات ضعيفة الأداء في قطاع صناعة أشباه الموصلات ومجمعات الشركات الصناعية وتجارة المواد الغذائية والسلع الأساسية بالتجزئة والمشروبات.
عواقب شفافية التأثير
إلا أن الوضع ليس بذلك السوء، إذ تخلق الشركات أيضاً تأثيرات إيجابية من خلال منتجاتها وسياسات التوظيف التي تتبعها، دون أن تظهر تلك التأثيرات في صافي مبيعاتها. تأمّل تأثير شركة "إنتل" (Intel) على التوظيف كمثال على ذلك، إذ حققت الشركة في عام 2018 ما يقرب من 3.6 مليار دولار من التأثير الإيجابي في الولايات المتحدة من خلال الأجور التي دفعتها والوظائف التي وفرتها في مناطق تشهد ارتفاعاً في معدلات البطالة. ويمكن لشركة "إنتل" زيادة ذلك التأثير من خلال تحسين مستوى تنوعها وتقديم مزيد من الفرص المتكافئة للأقليات العرقية والنساء للتقدم داخل الشركة.
وقد يكون لشفافية التأثير عواقب بعيدة المدى. أولاً، بدلاً من فرض ضرائب علينا جميعاً لمعالجة التأثيرات السلبية مثل التلوث، ودفع رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور، والمنتجات التي تسبب السمنة واعتلال الصحة، ستكون الحكومات قادرة على فرض ضرائب مباشرة على الشركات مقابل الضرر الذي تحدثه. وستكون قادرة أيضاً على تقديم حوافز مباشرة للشركات التي تُحدث تأثيرات إيجابية من خلال منتجاتها وعملياتها وممارسات التوظيف التي تتبعها، وتكون تلك الحوافز في شكل ضرائب مخفضة أو إعانات مالية أو عمليات شراء تفضيلية.
ثانياً، سيُجري المستثمرون تقييماً على التأثيرات البيئية والاجتماعية للشركات في تحليلهم الاستثماري. ويُنفق اليوم بالفعل أكثر من 30 تريليون دولار استثمارات لتحقيق أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة والتأثير، أي ما يعادل أكثر من ثلث الأصول المدارة بشكل مهني في العالم، وكل ذلك في سبيل دمج قضايا التغير المناخي وتنوع الموظفين وصحة الزبائن في القرارات الاستثمارية، على الرغم من قلة البيانات الوافية في ذلك الصدد.
في المقابل، لا تحظى الشركات ذات التأثير السلبي الأكبر باهتمام كبير من قبل المستثمرين، وهو ما يقلل من تقييم سوق الأسهم ويرفع تكلفة رأس المال. وبالتالي، ستحفز شفافية التأثير الإدارة على تحسين تأثير الشركات من أجل زيادة القيمة السوقية للأسهم، وزيادة التعويضات التي تحصل عليها في بعض الأحيان.
وتكشف ملاحظات "مبادرة حساب التأثيرات المرجحة" حول التأثير البيئي البالغ عددها 13,000 ملاحظة عن وجود علاقة ترابطية كبيرة بين التأثيرات البيئية السلبية وتقييمات سوق الأسهم المنخفضة في العديد من القطاعات، بما في ذلك قطاع المواد الكيماوية والملابس ومواد البناء. في المقابل، لم نشهد مثل ذلك الارتباط حتى اليوم في القطاعات الأخرى، مثل قطاع المرافق أو المطاعم أو مجمعات الشركات الصناعية، لكن يمكننا توقع ظهوره بمجرد أن تتيح شفافية التأثير للمستثمرين أخذ تلك التأثيرات بعين الاعتبار عند إجرائهم عملية التقييم.
ثالثاً، ستتيح الشفافية للزبائن، سواء كانوا أفراداً أو شركات، وللموظفين المواءمة بين خياراتهم الشرائية والمهنية وبين قيمهم، لاسيما بعد أن أصبحت عملية "طمس التأثير" منتشرة على نطاق واسع اليوم لندرة بيانات التأثير ذات الصلة. على سبيل المثال، تدّعي جميع الشركات المصنعة للسيارات أن منتجاتها تفيد المجتمع أكثر من منتجات منافسيها. لكن عندما نقيّم تأثير جميع منتجات الشركات المصنعة وفقاً لعوامل السلامة والقدرة على الاقتناء ورضا العملاء وكفاءة استهلاك الوقود والانبعاثات، نجد أن عدداً قليلاً فقط من تلك الشركات، مثل "تيسلا" و"رينو" و"هيونداي" و"نيسان" قادرة على تقديم مثل تلك الادعاءات وامتلاكها مبررات تدعم ادعاءاتها.
ومن المهم إدراك أن الشفافية وتحمّل المسؤولية هما أمران متلازمان. ولا تزال مشكلة غياب التقييم الفاعل تُسفر عن عدم تحمّل الشركات المسؤولية عن الضرر الذي تُحدثه اليوم. إلا أن إعادة صياغة القوانين المتّبعة في إعداد الحسابات لتشمل التأثير ستسفر عن تغيير الإجراءات التي يتّبعها المستثمرون في تقييم أداء الشركات، وهو ما يجعلهم يتجنبون الشركات ذات التأثير السلبي ويسعون وراء الشركات ذات التأثير الإيجابي، محفّزين الشركات بذلك على إحداث تغيير في سلوكها.
التأثير المرجح
ما مدى بعدنا عن إضافة تأثير إلى نموذج الربح الذي قاد نظام الرأسمالية منذ نشأته؟ حددنا في العام الماضي 56 مؤسسة رائدة حول العالم تمارس بعض حسابات التأثير المرجح، ولا تزال تلك القائمة في تزايد كل أسبوع. ونشرت شركة "دانون" (Danone) الفرنسية والرائدة في مجال الأغذية مؤخراً أرباح الأسهم المرجحة بعد تقييم تأثيرها البيئي. وتوجد اليوم منهجيات ومجموعات من البيانات والإرشادات التوجيهية المفصلة حول كيفية إعداد حسابات التأثير المرجح التي تعكس تأثير العمليات التشغيلية وسياسات التوظيف وطبيعة المنتجات التي تتبعها الشركات تجاه الناس والبيئة. ومن المؤكد أن جائحة "كوفيد-19" ستؤدي إلى تفاقم حالة عدم المساواة الفادحة بالفعل، وتكثيف الحاجة إلى تعزيز حالة التعافي العادلة والمستدامة، وتسريع التحول إلى الاقتصادات الهادفة لإحداث تأثير.
وقد يجري تسريع إعداد حسابات التأثير المرجح من خلال شبكة عالمية من المبتكرين والشركات والمستثمرين والمنظمات غير الحكومية وأصحاب المصلحة الآخرين، حيث اجتمعت تلك الجهات الفاعلة من خلال "فريق توجيهي عالمي للاستثمارات ذات التأثير" وفريق "مشروع إدارة التأثير" اللذين شرعا في إعداد مبادرة حسابات التأثير المرجح في كلية "هارفارد للأعمال". وتساهم العديد من المؤسسات الأخرى في مختلف القطاعات في تسريع التحول إلى النموذج الجديد بشكل مباشر وغير مباشر.
وكلما أسرعت الحكومات في فرض نشر حسابات التأثير المرجح، ومواءمة الشركات والمستثمرين مع الجهد الكبير اللازم لمعالجة قضايا تغير المناخ وعدم المساواة وجائحة "كوفيد-19"، سيصبح مجتمعنا أفضل.
في الوقت ذاته، لكل منا دور مهم يؤديه. فإذا كنت قائد شركة ما، فابدأ في قياس أداء التأثير المرجح وشاركه مع الآخرين. أما إذا كنت مستثمراً، فاطلب الحصول على تقرير شفافية التأثير من الشركات التي تستثمر فيها واستخدم بيانات تقرير التأثير المرجح تلك لتقييم الفرص والمخاطر. أما إذا كنت جهة تنظيمية أو حكومية، فافرض نشر حسابات التأثير المرجح، واستخدم الضرائب والحوافز الأخرى لتحفيز الشركات والمستثمرين على إحداث تأثير إيجابي. وبما أننا جميعاً مستهلكون، تنطوي مهمتنا على شراء منتجات وخدمات الشركات التي تحقق تأثيراً إيجابياً لتحسين عالمنا ومجتمعنا.
في النهاية، ستعيد شفافية التأثير تعريف مفهوم الرأسمالية؛ كما أن تحويل مفهوم الربحية من نهج يخلق مشكلات نتيجة الإهمال إلى نهج يوجد الحلول القيّمة للعالم بطريقة هادفة ويعيد تعريف النجاح، بحيث لا يقتصر تحقيقه على تحصيل المال فحسب، بل على إحداث تأثير حقيقي إيجابي في حياتنا.