كيف يمكن أن تتحول إلى شخص مؤثر يصغي إليه الآخرون؟

30 دقيقة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

كان رئيس أحد الأقسام الأساسيّة في شركة متعدّدة الجنسيات يدير اجتماعاً مخصّصاً لتقويم الأداء. وخلال هذا الاجتماع، كان كلّ مدير مسؤول يقف ويُجري مراجعة لأعضاء مجموعته، ويقدّر مدى استحقاقهم للترقية. ورغم وجود نساء في كلّ مجموعة، إلا أنّ أيّاً منهن لم تتمكّن من الحصول على الترقية. كان المدراء واحداً تلو الآخر يعلنون عمليّاً بأنّ كل امرأة في هذه المجموعة لم تكن تمتلك الثقة المطلوبة بالنفس لكي تحظى بالترقية. وقد بدأ رئيس القسم يشكّ بما تسمعه أذنيه. كيف اتفق على أنّ كل النساء الموهوبات في القسم يعانين من غياب الثقة بالنفس؟

تشير كلّ الاحتمالات إلى أنّهن لم يكنّ يفتقرن إلى الثقة بالنفس. لنأخذ مثلاً كلّ هذا العدد من النساء اللواتي تركن الشركات الكبيرة وأنشأن شركاتهن الخاصّة، مُظهراتٍ ما يكفي من الثقة بالنفس للنجاح بمفردهن. كما أنّ الأحكام المتعلّقة بالثقة بالنفس لا يمكن استقاؤها إلا من الطريقة التي يقدّم بها الناس أنفسهم، ومعظم هذا التقديم يأخذ شكل الكلام.

أخبرني الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات الرئيسية بأنّه غالباً ما يضطر إلى اتخاذ القرار في خمس دقائق بخصوص مسائل ربما يكون الآخرون قد عملوا عليها لأكثر من خمسة أشهر. وقال بأنّه يستعمل القاعدة التالية: إذا بدا الشخص الذي يقدّم المقترح واثقاً، فإنّ الرئيس التنفيذي يوافق على المقترح. وإذا لم يكن يبدو بمظهر الواثق، فإن الرئيس التنفيذي كان يرفضه. قد تبدو هذه المقاربة معقولة. لكنّ المجال الذي أمارس أبحاثي فيه، وهو علم اللسانيات الاجتماعية، يشير إلى العكس. فالرئيس التنفيذي يعتقد بوضوح بأنّه يعلم ما هو شكل الشخص الواثق من نفسه. ولكن هذا الحكم الذي قد يكون صائباً تماماً في حالة بعض الناس، قد يكون خاطئاً تماماً في حالة أشخاص آخرين.

ليس التواصل ببساطة أن تقول ما تعني. فالطريقة التي تعبّر بها عن قصدك حاسمة، وتختلف من شخص إلى آخر، لأنّ استعمال اللغة هو سلوك اجتماعي مكتسب: فالطريقة التي نتكلّم بها والطريقة التي نصغي بها تتأثّران بعمق بالتجربة الثقافية. ورغم أنّنا قد نعتقد بأن أساليبنا في التعبير عمّا يجول في خاطرنا هي أساليب طبيعية، فإنّنا يمكن أن نتعرّض لمشكلة إذا ما فسّرنا الآخرين وقوّمناهم كما لو أنّهم بالضرورة كانوا سيشعرون بذات الشعور الذي سنشعر به لو تحدّثنا بذات الطريقة التي تحدّثوا بها.

منذ العام 1974 وأنا أدرس تأثير الأسلوب اللغوي على المحادثات والعلاقات البشرية. خلال السنوات الأربع الماضية، وسّعت أبحاثي لتشمل مكان العمل، حيث لاحظت كيف تؤثّر طرق الكلام المكتسبة في الطفولة على الأحكام المطلقة بخصوص الكفاءة والثقة، إضافة إلى تحديد من الذي يحظى بآذان صاغية، ومن ينسب إليه الفضل، وما هي الأشياء التي تنجز.

ولعلّ رئيس القسم الذي دُهش لسماع أنّ كل النساء الموهوبات في المؤسسة كنّ يفتقرن إلى الثقة كان على حق في تشكيكه. فكبار المدراء كانوا يحكمون على النساء في مجموعاتهم بناءً على معاييرهم اللغوية في حين أنّ النساء – حالهن حال الناس الذين نشأوا في ثقافة مختلفة – كنّ غالباً قد تعلّمن أساليب في الكلام مختلفة عن أساليب الرجال، ممّا قد يجعلهن يبدين أقل كفاءة وثقة بالنفس ممّا هنّ عليه فعلياً.

فكرة المقالة بإيجاز

تكمن المشكلة في اعتقاد بعض المدراء أن النساء يفتقرن إلى الثقة المطلوبة للترقية.

حكم كبار المدراء على النساء بناءً على معاييرهم اللغوية، في حين أنّهن كنّ غالباً قد تعلّمن أساليب في الكلام مختلفة عن أساليب الرجال، ممّا قد يجعلهن يبدين أقل كفاءة وثقة بالنفس ممّا هنّ عليه فعلياً.

إن طرق الكلام المكتسبة في الطفولة تؤثر على الأحكام المطلقة بخصوص الكفاءة والثقة، إضافة إلى تحديد من الذي يحظى بآذان صاغية، ومن ينسب إليه الفضل، وما هي الأشياء التي تنجز.

يجب أن يكون هنالك أسلوب لغوي معين للحديث، فكلّ ما يُحكى يجب أن يُقال بطريقة معيّنة – بنبرة معيّنة، وبسرعة معيّنة، وبقدر معيّن من علو الصوت، إذ إنّ استعمال استراتيجية لغوية صغيرة جدّاً حتى مثل اختيار ضمائر معيّنة يمكن أن يؤثّر في تحديد هوية من ينسب الفضل في شيء معيّن.

إن النساء مغبونات، لأن إحدى طرق الحكم على ثقة شخص ما بنفسه هي من خلال سلوكه، وتحديداً سلوكه اللفظي.

على الرغم من عدم وجود طريقة محددة وثابتة للتواصل اللفظي، إلا أن ما يمكن قوله في هذا الصدد أن المهارة الأساسية للمدراء تتمثّل في أن يتعرّفوا على آليات عمل الأسلوب اللغوي وقوّته، وفي ضمان الإصغاء إلى الناس الذين لديهم إسهامات هامّة يرغبون بتقديمها.

ما هو الأسلوب اللغوي؟

كلّ ما يُقال يجب أن يُقال بطريقة معيّنة – بنبرة معيّنة، وبسرعة معيّنة، وبقدر معيّن من علو الصوت. وصحيح أنّنا غالباً ما نتعمّد دراسة ما سنقوله قبل أن نفتح أفواهنا، إلا أنّنا نادراً ما نفكّر في الطريقة التي سنقوله بها، ما لم يكن الوضع مشحوناً بكل وضوح – كما هو الحال مثلاً في مقابلة عمل أو أثناء الخضوع لمراجعة الأداء في الوظيفة في جوّ غير معتاد. ويشير الأسلوب اللغوي إلى نمط الكلام الذي يميّز الشخص. وهو يشمل صفات مثل المباشرة أو عدم المباشرة، والإسراع أو التمهّل في الكلام، واختيار الكلمات، واستعمال بعض العناصر مثل النكات، والتشبيهات البلاغية، والقصص، والأسئلة، والمجازات. بعبارة أخرى، الأسلوب اللغوي هو مجموعة من الإشارات المكتسبة ثقافياً والتي لا نستعملها فحسب لتوصيل ما نقصده، وإنما لتفسير مقاصد الآخرين أيضاً وتقويم بعضنا بعضاً.

لنأخذ على سبيل المثال انتظار دورنا في الكلام كأحد عناصر الأسلوب اللغوي. فالمحادثة هي عبارة مشروع يتكلّم كل واحد منّا فيه بحسب دوره: يتكلّم شخص ثم يجاوب الآخر. لكنّ هذا الحوار البسيط ظاهرياً يحتاج إلى تفاوض مبهم على الإشارات، بحيث تعلم متى يكون الشخص الآخر قد انتهى من الكلام ويكون دورك قد حان لكي تبدأ أنت. وتؤثّر العوامل الثقافية مثل البلد الأصلي أو الخلفية الأثنية على مدى طول فترة الانتظار التي تبدو طبيعية. فعندما يدور حديث بين باسم القادم من ديترويت وزميله جاد المتحدّر من مدينة نيويورك، سيكون من الصعب عليه أن يدلي بدلوه في الحديث لأنه ينتظر فترة توقف أطول بقليل بين الأدوار بالمقارنة مع الفترة التي ينتظرها جاد. وفترة التوقف التي بهذا الطول لن تأتي أبداً لأنّه قبل أن تسنح لها الفرصة، يشعر جاد بوجود صمت غير مريح، فيملأه بالمزيد من كلامه هو. يخفق كلا الرجلين في إدراك وجود فروقات في أسلوب الحوار تقف حجر عثرة بينهما. باسم يعتقد بأنّ جاد ملحاح وغير مهتم بما يريد قوله، وجاد يعتقد بأنّ باسم ليس لديه الكثير ليدلي بدلوه. وعلى المنوال ذاته، عندما انتقلت سالي من تكساس إلى العاصمة واشنطن، ظلّت تبحث عن الوقت المناسب لتتدخّل وتتكلم خلال اجتماعات الموظفين – ولم تكن تجد هذا الوقت أبداً. ورغم أنّها كانت تعتبر منطلقة وواثقة من نفسها في تكساس، إلا أنها اعتبرت في العاصمة واشنطن خجولة ومنكفئة على نفسها. لا بل أنّ مديرها اقترح عليها أن تأخذ دورات تدريبية في الجزم وتوكيد الذات. وبالتالي فإنّ وجود فروقات طفيفة في أساليب الحديث – في هذه الحالات بضع ثوان من التوقف – يمكن أن يترك أثراً مدهشاً في تحديد من يلقى آذاناً صاغية، وفي إطلاق الأحكام، بما في ذلك الأحكام النفسية، التي تطلق على الناس وقدراتهم.

تعمل كلّ كلمة منطوقة على مستويين. ونحن جميعاً مطلعون على المستوى الأول: فاللغة توصل الأفكار. أمّا المستوى الثاني فهو بمعظمه خفي بالنسبة لنا، لكنّه يؤدّي دوراً قوياً في التواصل. وبما أنّ اللغة هي شكل من أشكال السلوك الاجتماعي، فإنها تستخدم في التفاوض على العلاقات. فمن خلال طرق الحديث والكلام، نرسل إشارات – ونخلق إشارات – حول المقام النسبي للمتكلّمين ومستوى الألفة معهم. إذا قلت: "اجلس!" فإنك ترسل إشارة بأنّك في مقام أعلى من مقام الشخص المُخاطب، أو بأنّك غاضب. وإذا قلت: "يشرّفني إذا تفضّلت بالجلوس" فأنت تبعث بإشارة احترام – أو سخرية – اعتماداً على نبرة صوتك، والحالة، وما تعرفه أنت والشخص الآخر عن مدى قربكما من بعضكما فعلياً. وإذا قلت: "يبدو أنّك متعب – فلماذا لا تجلس؟" فإنّك إما تعبّر عن قرب من الشخص المعني والشعور بالقلق بشأنه أو الازدراء. وكل طريقة من هذه الطرق لقول "الشيء ذاته" – أي الطلب إلى شخص ما بالجلوس – يمكن أن تكون ذات معنى مختلف تماماً.

في كلّ مجتمع معروف لدى اللغويين، هناك اختلاف نسبي في الأنماط التي تشكّل الأسلوب اللغوي للرجال والنساء. فما هو "طبيعي" بالنسبة لمعظم الرجال الذين يتحدّثون لغة معيّنة مختلف، في بعض الحالات، عمّا هو "طبيعي" بالنسبة لمعظم النساء. ويعود السبب في ذلك إلى أنّنا نتعلّم طرق الكلام ونحن أطفال في طور النمو، وخاصة من أقراننا، والأطفال يميلون إلى اللعب مع أطفال آخرين من الجنس ذاته. وقد أظهرت أبحاث علماء الاجتماع، والأنثروبولوجيين، وعلماء النفس الذين راقبوا الأطفال الأميركيين وهم يلعبون بأنّه على الرغم من أنّ البنات والصبيان يجدون طرقاً لخلق حالة من الألفة والتفاوض على المقام، إلا أنّ الفتيات يملن إلى تعلّم الطقوس الكلامية التي تركّز على بعد الألفة في العلاقات، في حين ينزع الصبيان إلى تعلّم الطقوس التي تركّز على البعد الخاص بالمقام.

تميل البنات إلى اللعب مع صديقة واحدة مقرّبة أو ضمن مجموعات صغيرة، وهنّ يقضين الكثير من الوقت في الكلام. ويستعملن اللغة للتفاوض بهدف تحديد مدى التقارب فيما بينهن، فعلى سبيل المثال، الصديقة التي تخبرينها بأسرارك تصبح أعز صديقة لديك. وتتعلّم الفتيات كيفية التقليل من شأن الطرق التي تسمح لشخص ما بأن يتفوّق على الآخرين، وإلى التأكيد على الطرق التي تسمح بالمساواة بين الجميع. تتعلّم معظم الفتيات منذ الطفولة بأنّ ظهورهن بمظهر الواثقة جدّاً من نفسها سيجعلهن أقل شعبية بين أقرانهن – وإن كان أيّ أحد لا يأخذ هذا التواضع فعلياً بالمعنى الحرفي. وسوف تقوم مجموعة من الفتيات بتجاهل أي فتاة تسترعي الانتباه إلى تفوّقها، وسيوجّهن إليها سهام النقد قائلين: "تعتقد بأنها شيء مهم"، والفتيات اللواتي يخبرن الأخريات بما يجب عليهن فعله يقال عنهن بأنهنّ "متأمّرات" أو "متحكّمات". وبالتالي تتعلم الفتيات التكلّم بطرق توازن ما بين احتياجاتهن واحتياجات الآخرين – لإنقاذ ماء وجه بعضهن البعض بالمعنى الواسع للكلمة.

أمّا الفتيان فيميلون عادة إلى اللعب بطريقة مختلفة تماماً. فهم يلعبون ضمن مجموعات أكبر يمكن أن ينضمّ إليها عدد أكبر من الفتيان، ولكن لا يُعامل الجميع على قدم المساواة. والفتيان الذين يتمتّعون بمقام أرفع ضمن مجموعتهم يُنتظر منهم التشديد على مقامهم وليس التقليل منه، وعادة ما يكون هناك فتى واحد أو مجموعة من الفتيان يُنظر إليه كقائد أو إليهم كقادة. والفتيان عموماً لا يتّهمون بعضهم البعض بأنهم متحكّمون، لأنّ القائد يُفترض به أن يخبر الفتيان الأدنى مقاماً ما الذي يتوجّب عليهم فعله. ويتعلّم الفتيان استعمال اللغة للتفاوض على مقامهم في المجموعة من خلال إظهار قدراتهم ومعرفتهم، ومن خلال تحدّي الآخرين ومقاومة التحدّيات. فإعطاء الأوامر هو إحدى طرق منح المقام العالي والمحافظة عليه. وهناك طريقة أخرى هي تصدّر السيطرة على الأجواء من خلال إلقاء النكات أو رواية القصص.

ليس المقصود من هذا الكلام بأنّ كل الفتيان والفتيات يربون بهذه الطريقة، أو يشعرون بالارتياح ضمن هذه المجموعات، أو ناجحون بالتساوي في التفاوض على هذه المعايير. ولكن في الغالب الأعم تُعتبرُ مجموعات اللعب الطفولية هذه المكان الذي يتعلّم فيه الفتيان والفتيات أساليبهم في الكلام. وبهذا المعنى، فإنهم يكبرون في عوالم مختلفة. ونتيجة لذلك، تتكوّن لدى النساء والرجال عادات مختلفة في قول ما يعنونه، والأحاديث التي تدور فيما بينهم يمكن اعتبارها نوعاً من التواصل العابر للثقافات: ليس بوسعك أن تفترض بأنّ الشخص الآخر يقصد ما تقصده أنت فيما لو قلت الشيء ذاته وبالطريقة ذاتها.

تظهر أبحاثي التي أجريتها في شركات في عموم الولايات المتحدة الأميركية بأنّ العبر المستخلصة في الطفولة تستمر معنا إلى مكان العمل. ولنأخذ المثال التالي: نظّمتُ مجموعة مركّزة في شركة رئيسية متعدّدة الجنسيات بهدف تقويم سياسة جديدة طبّقت حديثاً تسمح بالمرونة في الدوام. وقد جلس المشاركون فيها ضمن حلقة وناقشوا النظام الجديد. وقد خلصت المجموعة إلى أنّ هذا النظام ممتاز، لكنّهم اتفقوا على مجموعة من السبل لتحسينه. وقد سار الاجتماع على ما يُرام واعتبره الجميع ناجحاً بحسب ملاحظاتي وتعليقات الجميع المقدّمة إلي. ولكن في اليوم التالي حصلت مفاجأة.

كنت قد غادرت الاجتماع بانطباع مفاده أنّ فريد كان مسؤولاً عن معظم الاقتراحات التي تقدّمت بها المجموعة. ولكن عندما طبعت ملاحظاتي على الكمبيوتر، لاحظت أن شادية كانت قد قدّمت معظم هذه الاقتراحات. كنت قد اعتقدت بأنّ الأفكار الرئيسية قد جاءت من فريد لأنّه كان يتلقف أفكار شادية ويدعمها، متحدّثاً لفترة أطول من الفترة التي استغرقتها شادية لطرح الفكرة.

سيكون من السهل اتهام فريد بأنّه قد سرق أفكار شادية وحضورها القوي. لكنّ ذلك الكلام سيكون غير دقيق. ففريد لم يزعم قط بأنّ أفكار شادية كانت أفكاره. وشادية نفسها كانت قد أخبرتني بأنّها غادرت الاجتماع واثقة من أنّها قد قدّمت إسهاماً كبيراً، وبأنّها كانت تقدّر دعم فريد. وقالت من تلقاء نفسها وهي تضحك: "لم تكن تلك واحدة من المرّات التي تقول فيها امرأة شيئاً وتُقابل بالتجاهل، ليأتي بعدها رجل ويقول ذات الشيء فيؤخذ به". بعبارة أخرى، كان فريد وشادية يجيدان العمل كفريق واحد، وكانت المجموعة قد أنجزت المطلوب منها، فيما كانت الشركة تحصل على ما تريد. فماذا كانت المشكلة؟

عدت وطرحت على جميع المشاركين السؤال التالي: من كان برأيكم أكثر عضو مؤثّر في المجموعة، أو المسؤول عن أكبر عدد من الأفكار التي جرى تبنّيها؟ وقد كان نمط الإجابات شديد الدلالة. فالسيدتان في المجموعة قالتا أن شادية كانت هي ذلك الشخص. رجلان من الرجال الثلاثة وقع اختيارهم على فريد. ومن بين الرجال، فريد كان الوحيد الذي سمّى شادية. بعبارة أخرى، في هذه الحالة، قيّمت النساء إسهام امرأة أخرى بشكل أدق من تقويم الرجال.

تحصل اجتماعات من هذا النوع يومياً في كل الشركات في أنحاء العالم. وما لم يكن المدراء من النوع الذي يمتلك مهارات استثنائية في الإصغاء إلى الطريقة التي يقول بها الناس ما يقصدون، فإنّ مواهب شخص مثل شادية قد لا تحظى بالتقدير المناسب ولا يُستفاد منها.

حتى اختيار الضمائر يمكن أن يؤثر في تحديد هوية من يُنسَبُ الفضل إليه في شيء معيّن.

الموقع الأضعف والموقع الأقوى

يتفاوت المتحدّثون الأفراد في مقدار حساسيتهم للديناميكيات الاجتماعية للغة – وهي بعبارة أخرى، الاختلافات الطفيفة والضمنية في معنى الكلام الذي يقوله الآخرون لهم. فالرجال يميلون إلى امتلاك حساسية تجاه ديناميكية السلطة في التفاعل، حيث يتحدّثون بطريقة تجعلهم يضعون أنفسهم في موقع أرفع، ويقاومون فكرة أن يضعهم الآخرون في موقع أدنى. أمّا النساء فيملن إلى التجاوب بقوّة أكبر مع ديناميكية الألفة، بحيث يتحدّثن بطرق تنقذ ماء وجه الأخريات ويستعملن عبارات وقائية يمكن أن ينظر إليها بوصفها تضع الآخرين في موقع أدنى. تعتبر هذه الأنماط اللغوية شائعة جدّاً، وبوسعكم سماعها في مئات المحادثات التي تجري في مكان العمل كل يوم. وفي حالة شادية وفريد، هي تؤثّر على من يحظى بالأذن الصاغية ومن ينسب إليه الفضل.

نسب الفضل

إنّ استعمال استراتيجية لغوية صغيرة جدّاً حتى مثل اختيار ضمائر معيّنة يمكن أن يؤثّر في تحديد هوية من ينسب الفضل في شيء معيّن. ففي أبحاثي التي أجريتها في مكان العمل، سمعت الرجال يستعملون الضمير "أنا" في حالات سمعت النساء فيها يستعملن الضمير "نحن". فعلى سبيل المثال، قال أحد المدراء التنفيذيين في شركة للطباعة: "أنا سوف أعيّن مديراً جديداً. وأنا سوف أعيّنه كمسؤول عن قسم التسويق لدي" كما لو أنّه كان هو من يمتلك الشركة شخصياً. وفي تغاير واضح سجّلت أحاديث لنساء وهن يستعملن الضمير "نحن" في الإشارة إلى عمل أنجزنه بمفردهن. وقد فسّرت إحدى السيّدات الأمر قائلة بأنّ من التبجّح بمكان محاولة انتزاع الفضل بطريقة واضحة من خلال قول "أنا فعلت ذلك". ومع ذلك فإنها كانت تنتظر من الآخرين – عبثاً أحياناً – أن يعلموا بأنّه عملها وأن يمنحوها الفضل الذي لم تطلبه لنفسها.

قد يقفز المدراء إلى الاستنتاج القائل بأنّ النساء اللواتي لا ينسبن الفضل إلى أنفسهن فيما يقمن به، يجب أن يدرّبن على فعل ذلك. لكنّ الحل إشكالي لأننا نربط طرق الكلام ببعض الخصال الأخلاقية: فالطريقة التي نتكلّم بها تنمّ عن شخصيتنا الحقيقية وعمّا نريد أن نكون.

كان لدى فيرونيكا، كبيرة الباحثين في شركة للتكنولوجيا الفائقة، مدير شديد الملاحظة. وقد لاحظ بأنّ العديد من الأفكار الصادرة عن المجموعة كانت أفكارها وبأنّ شخصاً آخر كان يروّج لها في أرجاء المكتب وينسب الفضل فيها لنفسه. وقد نصحها بألا تتخلى عن ملكية أفكارها وأن تضمن نسب الفضل إليها. لكنّ فيرونيكا اكتشفت ببساطة بأنّها لا تستمتع بعملها إذا كانت مضطرة إلى مقاربته بطريقة بدت لها أقرب إلى "لعبة الشد والجذب" غير المغرية والجذّابة على الإطلاق. وقد كان اشمئزازها من هذا السلوك هو ما قادها إلى تحاشيه في المقام الأول.

مهما كان الدافع، فإنّ النساء على الأرجح لم يكنّ قد تعلّمن التباهي بأنفسهن كما يفعل الرجال. كما أنهن أميل من الرجال إلى الاعتقاد بأنهنّ إذا فعلن ذلك، فإنهن لن يحظين بالإعجاب.

حاجج كثيرون بأن تزايد التوجّه نحو إيكال العمل إلى فرق قد يكون أقرب إلى طبيعة المرأة، لكنّه قد يخلق تعقيدات أيضاً بالنسبة لتقويم الأداء. فعندما تولّد الأفكار وينجز العمل بخصوصية ضمن الفريق، فإن محصلة جهد الفريق قد تعزى إلى الشخص الأعلى صوتاً في الحديث عن النتائج. وهناك الكثير من النساء والرجال – ولكن ربما عدد أكبر نسبياً من النساء – الذين يتردّدون بطرح أنفسهم بهذه الطريقة المباشرة والمعرّضين نتيجة لذلك لاحتمال عدم نسب الفضل إليهم في إسهاماتهم.

الثقة والتباهي

بالنسبة للرئيس التنفيذي الذي استند في قراراته إلى مستوى الثقة لدى المتحدّثين فإنّه كان يعبّر عن قيمة منتشرة على نطاق واسع في معظم الشركات الأميركية: إحدى طرق الحكم على ثقة شخص ما بنفسه هي من خلال سلوكه، وتحديداً سلوكه اللفظي. وهنا مرّة أخرى نجد بأنّ النساء مغبونات.

تُظهر الدراسات بأنّ النساء أميل إلى التقليل من قيمة درجة اليقين لديهن، وبأنّ الرجال أميل إلى التقليل من شكوكهم إلى الحد الأدنى. صمّمت عالمة النفس لوري هايثيرينغتون وزملاؤها تجربة مبتكرة نشروا نتائجها في مجلة "أدوار النوع الاجتماعي (الجندر)" (السنة 29، 1993). وقد طلبوا من مئات طلاب الكليات الجدد توقّع العلامات التي سيحصلون عليها في عامهم الأول. وقد طلب من بعض المشاركين في التجربة كتابة توقعاتهم على انفراد ووضعها في ظرف، فيما طلب من آخرين وضع تنبؤاتهم علناً وبحضور أحد الباحثين. وقد أظهرت النتائج بأنّ عدد النساء اللواتي توقّعن علامات أدنى لأنفسهن كان أعلى من عدد الرجال الذين وضعوا التوقع ذاته عندما كانت التوقعات علنية. وفي حالة التوقعات التي جرت على انفراد، فإنها كانت مشابهة لتوقعات الرجال، ومشابهة لدرجاتهن الفعلية. وتقدّم هذه الدراسة البرهان على أنّ ما يبدو أمام الآخرين كقلّة ثقة بالنفس – توقع شخص لتحصيل علامات أدنى – قد لا يعكس المستوى الحقيقي من الثقة لدى الشخص، وإنما رغبته بألا يظهر بمظهر المتباهي بنفسه.

تنْتُجُ هذه العادات المتعلقة بالظهور بمظهر المتواضع أو الواثق عن الاختلاط الاجتماعي للفتيان والفتيات مع أقرانهم خلال لعبهم في طفولتهم. وعندما يصبحون بالغين، فإنّ الرجال والنساء على حدّ سواء يجدون بأنّ هذه السلوكيات تتعزّز بالردود الإيجابية التي يتلقونها من الأصدقاء والأقارب الذين يشاطرونهم المعايير ذاتها. لكنّ معايير السلوك في عالم الشركات الأميركية تستند إلى أسلوب التفاعل الأكثر شيوعاً بين الرجال – على الأقل بين الرجال الأميركيين.

طرح الأسئلة

على الرغم من أنّ طرح الأسئلة الصائبة هو إحدى السمات البارزة للمدير الجيّد، إلا أنّ كيفية وتوقيت طرح الأسئلة يمكن أن يرسلا إشارات غير مقصودة عن الكفاءة والسلطة. فضمن مجموعة من الأشخاص، إذا كان هناك شخص واحد فقط يطرح الأسئلة، فإنّه قد يكون معرّضاً لخطر أن يُنظر إليه على أنّه الجاهل الوحيد بينهم. وعلاوة على ما سبق، فإنّنا لا نطلق الأحكام على الآخرين بناء على طريقة كلامهم فحسب، وإنما بناءً على طريقة كلام الناس معهم أيضاً. فالشخص الذي يطرح الأسئلة قد ينتهي به المطاف وقد تلقى المحاضرات ونُظرَ إليه كشخص مبتدئ يخضع لوصاية مدير المدرسة. كما أنّ التنشئة الاجتماعية للفتيان تزيد من احتمال إدراكهم للديناميكية الضمنية للسلطة التي يمكن أن ينظر بموجبها إلى من يطرح الأسئلة على أنّه في موقف أضعف.

واحدة من الأطباء الممارسين تعلّمت من أخطائها كيف أنّ أيّ تبادل للمعلومات يمكن أن يكون أساساً لإطلاق الأحكام – الصحيحة أو الخاطئة – عن الكفاءة. فخلال خضوعها للتدريب، تلقت تقويماً سلبياً كان برأيها غير عادل، لذلك طلبت من الطبيب المشرف عليها تقديم تفسير. فكان ردّه بأنّ معلوماتها أقل من معلومات أقرانها. مذهولة من إجابته، سألته كيف وصل إلى هذا الاستنتاج. فما كان منه إلا أن قال: "أنت تطرحين أسئلة أكثر".

إضافة إلى المؤثرات الثقافية والصفات الشخصية الفردية، يبدو أن النوع الاجتماعي (الجندر) له دور في تحديد ما إذا كان الناس يطرحون الأسئلة أم لا وتوقيت طرحها. فعلى سبيل المثال، من بين كل الملاحظات التي قدّمتها في المحاضرات والكتب، أكثر ملاحظة يقر الناس بصحّتها بحماسة هي أنّ الرجال أقل ميلاً من النساء إلى التوقّف والسؤال عن كيفية الوصول إلى عنوان معيّن إذا ما كانوا تائهين. وأنا أفسّر الأمر بأنّ مقاومة الرجال لفكرة السؤال عن كيفية الوصول إلى عنوان معيّن تعود إلى إدراكهم بأن ذلك يضعهم في موقف أضعف، ولأنهم يقدّرون الاستقلال المقترن بفكرة العثور على الطريق الصحيح إلى العنوان المنشود بأنفسهم. فالسؤال عن الإرشادات إلى العنوان الصحيح أثناء قيادة السيارة هو حالة وحيدة فقط – إلى جانب العديد من الحالات الأخرى التي درسها الباحثون – يبدو فيها الرجال أقل ميلاً من النساء إلى طرح الأسئلة. أعتقد أنّ السبب في ذلك يعود إلى أنهم أكثر انسجاماً من النساء مع فكرة احتمال خسارة ماء الوجه المرتبطة بطرح الأسئلة. والرجال الذين يعتقدون بأنّ طرح الأسئلة قد ينعكس سلباً عليهم، ربما يكونون أميل بدورهم إلى تكوين رأي سلبي عن الآخرين الذين يطرحون أسئلة في أوضاع لن يطرحوا فيها هم هكذا أسئلة.

طقوس الحديث

تُعتبرُ المحادثة في جوهرها طقساً بما أنّنا نتحدّث بطرق قد حوّلتها ثقافتنا إلى أعراف، ونتوقع أنماطاً معيّنة من الردود. ولنأخذ التحيّات، على سبيل المثال. فقد سمعت زوّاراً إلى الولايات المتّحدة يشتكون من أنّ الأميركيين منافقين لأنهم يسألونك كيف حالك لكنّهم غير مهتمّين بسماع إجابتك. بالنسبة للأميركيين، سؤال "كيف حالك؟" هو عبارة عن طريقة طقسية واضحة للبدء بحديث، وهي ليست سؤالاً حرفياً يبحث عن إجابة. في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك الفلبين، يسأل الناس بعضهم "إلى أين أنت ذاهب؟" عندما يجتمعون. بالنسبة للأميركيين يبدو هذا السؤال وكأنّ فيه نوعاً من التدخّل ولا يدركون بأنّ هذا السؤال أيضاً هو عبارة عن استفسار طقسي الرد الوحيد المنتظر عليه هو إجابة غامضة من قبيل "إلى هناك".

من السهل والممتع ملاحظة الطقوس المختلفة في الدول الأجنبية. لكنّنا لا نتوقع وجود فروقات، ونحن أقل ميلاً بكثير إلى إدراك الطبيعة الطقسية لمحادثاتنا، عندما نكون مع أبناء بلدنا في العمل. ويمكن لطقوسنا المختلفة أن تكون أكثر إشكالية عندما نعتقد بأننا جميعاً نتحدّث اللغة ذاتها.

الاعتذارات

لنأخذ العبارة البسيطة "أنا آسف" على سبيل المثال.

كاتيا: كيف سار العرض التقديمي الكبير؟

باسم: لم يسر على ما يُرام. وقد تلقيت الكثير من الانتقادات من نائب الرئيس للشؤون المالية، ولم تكن الأرقام حاضرة في ذهني.

كاتيا: أنا آسفة لسماع ذلك. وأعلم كم عملت بجد لتحضير هذا العرض التقديمي.

في هذه الحالة، ربما تعني عبارة "أنا آسفة" ما يلي: "أنا آسفة لأنّ ذلك حصل". ولا تعني "أنا أعتذر"، ما لم تكن مسؤولية كاتيا تقتضي تزويد باسم بالأرقام الخاصّة بالعرض. تميل النساء إلى استعمال عبارة "أنا آسفة" أكثر من الرجال، وغالباً ما يكون هذا هو قصدهن – أي هي بمثابة أسلوب طقسي للتعبير عن الاهتمام. وهي واحدة من العديد من عناصر الحديث المكتسبة التي غالباً ما تلجأ إليها الفتيات لترسخ الألفة. ولا تؤدّي الاعتذارات الطقسية – مثلها مثل غيرها من طقوس الحديث – المطلوب منها إلا إذا كان الطرفان يشتركان بالافتراضات ذاتها عن استخدامها. لكنّ الناس الذين ينطقون باعتذارات طقسية متكرّرة ربما قد يظهرون في النهاية بمظهر الشخص الضعيف أو الأقل ثقة، بل والأكثر استحقاقاً للوم حتّى من الناس الذين لا يعتذرون.

ينزع الرجال إلى النظر إلى الاعتذارات بطريقة مختلفة لأنّهم أميل إلى التركيز على التبعات التي ستطال مقام الشخص جرّاء هذه الحوارات. ويتحاشى الكثير من الرجال تقديم الاعتذارات لأنها تبدو في نظرهم وكأنّها تضع المتحدّث في موقع أضعف. وقد راقبت مرّة وبشيء من الدهشة نقاشاً دار بين عدد من المحامين المنخرطين في المفاوضات عبر الهاتف باستعمال مكبّر الصوت فيه. في لحظة ما، قطع المحامي الذي كنت في مكتبه الاتصال بعد أن ضغط بمرفقه بالخطأ على زر الإقفال. وعندما تمكّنت سكرتيرته من معاودة الاتصال بين جميع الأطراف، توقعت منه أن يقول ما كنت سأقوله أنا شخصياً لو حصل الموقف معي: "آسف لما حصل. فقد ضغطت بمرفقي على زر الهاتف وتسبّبت بانقطاع الاتصال". لكنّه قال: "ما الذي حصل؟ في لحظة كنتم هنا ثم اختفيتم!" وقد بدا بأنّ هذا المحامي يتمتّع بدافع تلقائي لعدم الاعتراف بالخطأ إذا لم يكن مضطراً لذلك. بالنسبة لي، كانت تلك واحدة من اللحظات الحاسمة التي تدرك فيها بأنّ العالم الذي تحيا فيه ليس العالم الذي يعيش فيه الجميع، وأنّ الطريقة التي تفترض بأنّها الطريقة الصحيحة للكلام هي في الواقع واحدة من عدّة طرق أخرى صحيحة.

النساء أكثر ميلاً إلى التقليل من قيمة درجة اليقين لديهن، والرجال أكثر ميلاً إلى التقليل من شكوكهم إلى الحد الأدنى.

إنّ من يحذّرون المدراء من عدم تقويض سلطتهم من خلال الاعتذار ينظرون إلى التفاعل بين الناس من منظور ديناميكية السلطة. وفي العديد من الحالات، تعتبر هذه الاستراتيجية فعّالة. ولكن من جهة أخرى، عندما سألت الناس عن الشيء الذي أحبطهم في وظائفهم، كانت واحدة من الشكاوى المتكرّرة التي عبّروا عنها هي العمل تحت إمرة شخص يرفض الاعتذار أو الإقرار بالخطأ. بعبارة أخرى، قد يكون قبول المسؤولية عن الأخطاء والاعتراف بها استراتيجية فعّالة تماماً في بعض الحالات أو الاستراتيجية الأفضل حتّى.

تقديم الرأي

تنطوي أساليب تقديم الرأي على عنصر طقسي غالباً ما يكون هو السبّب لحصول سوء التفاهم. ولنأخذ الحوار التالي على سبيل المثال: اضطرت مديرة إلى أن تطلب من رئيس قسم التسويق لديها بأن يعيد كتابة تقرير معيّن. وقد بدأت هذه المهمّة الصعبة نوعاً ما بتعداد نقاط قوّة التقرير ومن ثمّ انتقلت إلى الموضوع الرئيسي: نقاط الضعف التي كانت بحاجة إلى معالجة. لقد بدا بأنّ رئيس قسم التسويق يتفهّم تعليقات المشرفة على عمله ويقبلها، لكنّ النسخة المنقّحة التي قدّمها لم تتضمّن إلا تغييرات طفيفة، ولم تتطرّق إلى نقاط الضعف الأساسية. وعندما أخبرته المديرة بعدم رضاها، اتهمها بتضليله: "لقد أخبرتني بأنّ التقرير على ما يُرام".

لقد نجمت هذه الورطة عن اختلاف الأساليب اللغوية. فبالنسبة للمديرة، كان من الطبيعي بأنّ تخفف وقع النقد من خلال البدء بالمديح والإطراء. فإخبار مرؤوسها بأنّ تقريره غير مكتمل وبحاجة إلى إعادة صياغة يضعه في موقع أضعف. والثناء عليه تقديراً للأجزاء الجيّدة في التقرير هو طريقة طقسية لحفظ ماء وجهه. لكنّ رئيس قسم التسويق لم يكن يشاطر مديرته افتراضها بخصوص الأسلوب الأنسب لتقديم رأيها بتقريره، وافترض عوضاً عن ذلك بأنّ ما قالته أولاً كان النقطة الأساسية وأنّ ما طرحته لاحقاً كان مجرّد فكرة لاحقة.

إنّ من يتوقّعون تلقّي الآراء بالطريقة التي عرضت بها هذه المديرة رأيها سيقدّرون لها لياقتها وتهذيبها، وسيعتبرون أيّ مقاربة أكثر فظاظة بمثابة قساوة غير ضرورية. لكن من يشاطرون رئيس قسم التسويق افتراضاته سيعتبرون المقاربة الفظّة والجلفة على أنها صادقة وليست سخيفة، بينما سينظرون إلى مقاربة المديرة على أنّها غامضة ومبهمة. وبما أنّ افتراضات كلّ واحد منهما بدت واضحة وجليّة بذاتها، فإنّ كل واحد منهما وجّه أصابع اللوم إلى الآخر: فالمديرة اعتقدت بأنّ رئيس القسم لم يكن يصغي إليها، وهو كان يعتقد بأنّها لم توصل رسالتها بوضوح أو أنّها قد غيّرت رأيها. وهذا أمر هام لأنّه يوضح بأنّ الحوادث التي يطلق عليها تعبير غامض هو "سوء التفاهم" قد تكون ناجمة عن اختلاف الأساليب اللغوية.

الإطراء والمديح

إنّ تبادل الإطراء والمديح هو طقس شائع، ولاسيما بين النساء. وقد تسبّب عدم التوافق في التوقعات المرتبطة بهذا الطقس في جعل سوزان، المديرة المتخصّصة بالموارد البشرية، تشعر بأنّها في موقف أضعف. فقد كانت هي وزميلها بلال قد قدّما كلاهما عرضين في أحد المؤتمرات الوطنية. وفي طريق عودتهما بالطائرة قالت سوزان لبلال: "لقد كان عرضاً عظيماً!" فأجابها قائلاً: "شكراً لك". ثم سألته: "وأنت ما رأيك بعرضي؟" فما كان منه إلا أن ردّ عليها بجواب طويل يتضمّن نقداً مفصّلاً بينما كانت هي تصغي إليه ويعتريها شيء من عدم الارتياح. وقد شعرت نوعاً ما وكأنُها وُضِعت في موضع الشخص المبتدئ الذي يحتاج إلى من يقدّم له النصح. لا بل أسوأ من ذلك. لم يكن بوسعها إلا أن تلوم نفسها، ففي نهاية المطاف هي من كانت قد سألت بلال عن رأيه بعرضها.

ولكن هل كانت سوزان قد طالبت بالإجابة التي حصلت عليها؟ هي سألت بلال عن رأيه بعرضها، ولم تكن تنتظر سماع رأي نقدي بل إطراء. لا بل كان سؤالها عبارة عن محاولة لإصلاح طقس كان قد انحرف عن مساره المرسوم. فالإطراء الأول الذي قدّمته سوزان إلى بلال كان نوعاً من التقدير التلقائي المطلوب إلى حدّ ما بعد أن يقدّم زميل عرضاً، وتوقعت من بلال أن يبادلها الإطراء بمديح مشابه. كانت تتحدّث بشيء من التلقائية، ولكن إمّا أنه قد أساء فهم الطقس عن حسن نيّة أو ببساطة اغتنم الفرصة في موقف بدا فيه في موقع أقوى ليقدّم نقده. وبغضّ النظر عن دوافعه، فإن محاولة سوزان للشروع بعملية تبادل الإطراء هي ما أفسحت له المجال بذلك.

الرجال أكثر انسجاماً من النساء مع فكرة احتمال خسارة ماء الوجه المرتبطة بطرح الأسئلة.

رغم أنّ هذا الحوار كان يمكن أن يدور بين رجلين، ولكن لا يبدو من قبيل المصادفة بأنّه قد دار بين رجل وامرأة. فقد اكتشفت عالمة اللسانيات جانيت هولمز بأنّ النساء يكلن المديح أكثر من الرجال (مجلة علم اللسانيات الأنثروبولوجية، السنة 28، 1986). وكما لاحظت أنا شخصياً، فإنّ قلة من الرجال مستعدّة لطرح السؤال التالي: "ماذا كان رأيك بالعرض الذي قدّمته؟" تماماً لأنّ السؤال قد يستدرج نقداً غير مرغوب به.

ضمن النسيج الاجتماعي لمجموعات الأقران التي ينشأ فيها الفتيان، يبحث هؤلاء الفتيان عن فرص لتصغير الآخرين وحجز المقام الأعلى لأنفسهم. وفي المقابل، فإنّ واحداً من الطقوس التي تتعلّمها الفتيات هو تبنّي موقف الشخص الأضعف ولكن افتراض أن يدرك الشخص الآخر للطبيعة الطقسية لهذا الاستصغار للنفس وأن يرفع من قدرهن.

يشير الحوار الذي دار بين سوزان وبلال أيضاً كيف يمكن للسمات المميّزة للرجال والنساء أن تضع النساء في موقع الطرف الأضعف في مكان العمل. فإذا ما كان هناك شخص يحاول أن يقلّل من الفروقات في المقام، وأن يحافظ على مظهر يشير إلى أنّ الجميع متساوون، وأن يحفظ ماء وجه الآخر، في حين كان هناك شخص آخر يحاول المحافظة على موقع الإنسان الأقوى ويتجنّب أن يوضع في موقع الإنسان الأضعف، فإنّ من يسعى إلى موقع الشخص الأقوى سيحصل عليه في الأغلب. وفي الوقت ذاته، فإنّ الشخص الذي لم يكن يبذل أي جهد لتجنّب الموقف الأضعف سيصل به المطاف في النهاية إلى هذا الموقع. وبما أنّ النساء أميل إلى تبنّي موقع الشخص الباحث عن النصيحة (أو الذي يقبلها)، فإنّ الرجال أميل إلى تفسير سؤال طقسي من النساء على أنّه طلب للنصيحة.

المعارضة الطقسيّة

يُعتبر الاعتذار، وتخفيف النقد بشيء من المديح، وتبادل الإطراءات، من الطقوس الشائعة بين صفوف النساء والتي يأخذها الرجال غالباً بحرفيتها. لكنّ واحداً من الطقوس الشائعة بين صفوف الرجال والتي غالباً ما تأخذها النساء بحرفيتها هو المعارضة الطقسيّة.

أخبرتني إحدى النساء العاملات في مجال التواصل كيف تابعت باشمئزاز وتوتّر نقاشاً حامي الوطيس دار بين زميلين في مكتبها بخصوص أي قسم يجب أن يعاني من تخفيض الموازنة. ولكنّ دهشتها كانت أكبر حتّى عندما لاحظت بأنّهما عادا بعد وقت قصير إلى صداقتهما الأبدية. "كيف بوسعك التظاهر بأنّ قتالاً لم يحصل أبداً؟" سألته تلك السيّدة. "من الذي يتظاهر بأنّ شيئاً لم يحصل؟" أجابها وهو يشعر بحيرة تجاه سؤالها تعادل حيرتها من سلوكه. "لقد حصل الأمر وقضي" قال لها. فما اعتبرته هي بمثابة اقتتال حرفي كان بالنسبة له مجرّد جزء من التفاوض اليومي: أي عبارة عن قتال طقسي.

يتوقّع العديد من الأميركيين بأن تأخذ مناقشة الأفكار شكل "القتال الطقسي" – أي الاستكشاف من خلال المعارضة اللفظية. فهم يعرضون أفكارهم الخاصّة بأكثر شكل ممكن من اليقينية والإطلاق وينتظرون ليروا إذا كان هناك من سيتحدّاهم. فاضطرارك إلى الدفاع عن فكرة يمنحك الفرصة لاختبارها. وضمن الروحية ذاتها، قد يؤدّون دور محامي الشيطان في تحدّي أفكار زملائهم – حيث يحاولون إحداث الثقوب وإيجاد نقط الضعف – كطريقة لمساعدتهم في استكشاف أفكارهم واختبارها.

يمكن لهذا الأسلوب أن ينجح إذا كان مشتركاً بين الجميع، لكنّ الأشخاص غير المعتادين عليه ستفوتهم على الأغلب طبيعته الطقوسية. فقد يتخلّون عن فكرة إذا ما واجهت تحدّياً من الآخرين، آخذين الاعتراضات كمؤشر على أنّ الفكرة هي فكرة ضعيفة. لا بل أسوأ من ذلك، قد يأخذون المعارضة على أنها هجوم شخصي وقد يجدون استحالة في تقديم أفضل ما لديهم ضمن هذه البيئة المتّسمة بالتنازع. وقد يلجأ الناس غير المعتادين على هذا الأسلوب إلى التحوّط عندما يعبّرون عن أفكارهم من أجل تجنّب أي هجمات محتملة. وتكمن المفارقة في أنّ هذا الموقف يجعل حجّتهم تبدو ضعيفة وهي ستكون أميل إلى استثارة الهجوم من الزملاء المشاكسين عوضاً عن تجاهلهم لها.

يمكن للمعارضة الطقسية حتّى أن تؤدّي دوراً في تحديد من يحصل على الوظيفة. وتستعمل بعض شركات الاستشارات التي توظف خريجي كبريات كليات الأعمال في العالم تقنيات تقوم على المواجهة أثناء مقابلات العمل. حيث يتحدّون المرشح لشغل الوظيفة بأن "يحل مشكلة" آنية خلال المقابلة. وقد أخبرني أحد المسؤولين في شركة من هذا النوع بما يلي: "تميل النساء إلى تقديم أداء أضعف في هذا النوع من المقابلات، وهذا الأمر يؤثّر بالتأكيد على القرار الخاص بتحديد من يحصل على الوظيفة. ولكن يتبيّن لاحقاً بأنّ العديد من النساء اللواتي لا "يبلين بلاءً حسناً" في الاختبار هم في واقع الأمر مستشارات جيّدات. وهم غالباً أذكى من الرجال الذين بدوا في قمّة القدرة على التحليل وهم معرّضون للضغوط".

يتفاوت مستوى المعارضة اللفظية من ثقافة شركة إلى أخرى، لكنّني لاحظت وجود هذا الأمر من حيث المبدأ في جميع المؤسسات التي درستها. وأي شخص لا يشعر بالارتياح من فكرة تلقّي المعارضة اللفظية – سواء أكان رجلاً أو امرأة – معرّض لخطر الظهور بمظهر الشخص غير الواثق من فكرته.

التفاوض على السلطة

تُستمدُّ السلطة الرسمية في المؤسسات من المنصب الذي يشغله الإنسان. لكنّ السلطة الفعلية خاضعة للتفاوض من يوم إلى آخر. وتتوقف فعالية المدراء الأفراد جزئياً على مهارتهم في التفاوض على السلطة وعلى ما إذا كان الآخرون يعزّزون جهودهم أو يقللون من شأنها. كما أنّ الطريقة التي يعكس بها الأسلوب اللغوي مقام الشخص لها دور غير مباشر في تحديد وضعه ضمن التراتبية.

الأشخاص الذين لا يشعرون بالارتياح من فكرة تلقّي النقد اللفظي – سواء أكانوا رجالاً أو نساء – معرّضون لخطر الظهور بمظهر الشخص غير الواثق من فكرته.

التعامل مع الرؤساء والمرؤوسين

في جميع الشركات التي شملتها أبحاثي، استمعت إلى نساء من اللواتي كنّ يبلين بلاءً حسناً وكنّ يعلمن بأنّ زملاءهن في العمل (وفي بعض الأحيان رؤساءهن المباشرين) كانوا يعرفون ذلك أيضاً، لكنّهن كنّ يعتقدن بأن كبار المدراء لم يعرفوا ذلك. كنّ يخبرنني على الدوام بأن شيئاً ما خارج عن إرادتهن كان قد منعهن من التقدّم وكان ذلك مُحبطاً لهن لأنّهن كن يعتقدن بأنّ أداء العمل على أكمل وجه كان كل ما هو ضروري للنجاح، وبأنّ التفوق في الأداء يجب أن يحظى بالتقدير والمكافأة. وفي المقابل، غالباً ما كان الرجال يخبرونني بأنّه إذا كانت السيدات لا يحصلن على الترقية فلأنهن ببساطة لم يكنّ جديرات بذلك. ولكن عندما كنت أنظر من حولي، كنت أرى براهين وأدلّة على أنّ الرجال كانوا غالباً ما يتصرّفون أكثر من النساء بطرق من المرجح أن تجعلهم يحظون باعتراف أصحاب السلطة الذين بأيديهم قرار ترقيتهم.

في جميع الشركات التي زرتها، كانت أراقب ما يحصل خلال فترة الغداء. لقد رأيت شباناً يتناولون غداءهم بانتظام مع مديرهم، ورأيت كبار المدراء يتناولون الطعام مع رئيس الشركة. ولكنني رأيت عدداً أقل بكثير من النساء يسعين إلى تناول الطعام مع أرفع الأشخاص منصباً. لكنّ فرصة الإنسان في الحصول على التقدير على عمله المنجز تزداد كلّما تحدّث عنه إلى من هم في مراتب أعلى، ويكون فعل ذلك أسهل إذا كانت خطوط التواصل مفتوحة أصلاً. وعلاوة على ذلك، إذا ما مُنِحَ الرجال والنساء الفرص للحديث مع من هم في مناصب أرفع، فإنّ لديهم على الأرجح طرقاً مختلفة في الحديث عن إنجازاتهم بسبب التنشئة الاجتماعية التي تلقوها وهم أطفال. فالفتيان يكافؤون من أقرانهم إذا تفاخروا بإنجازاتهم، في حين أنّ النساء يكافأن إذا قلّلن من شأن إنجازاتهن. كما أنّ الأساليب اللغوية الشائعة بين صفوف الرجال قد تميل إلى إعطائهم بعض الميزات الإضافية عندما يتعلّق الأمر بالتعامل مع المدراء الأعلى.

يدرك كلّ المتحدّثين مقام الشخص الذي يتحدّثون إليه ويعدلّون سلوكهم بناءً على ذلك. وكلّ شخص يتحدّث مع المدير بطريقة مختلفة عن الطريقة التي يتحدّث بها مع مرؤوس. لكنّ المفاجئ في الأمر هي أنّ الطريقة التي يعدّلون بها كلامهم قد تكون مختلفة وبالتالي قد تعطي صور مختلفة عن أنفسهم.

درس الباحثان المتخصّصان بالتواصل كارين تريسي وإيريك آيزنبيرغ كيفية تأثير المقام النسبي للشخص على طريقة تقديمه للنقد. فقد صاغا رسالة تجارية احتوت على بعض الأخطاء وطلبوا من 13 طالباً جامعياً و11 طالبة جامعية بأن يمارسوا لعبة تمثيل أدوار بحيث يقدّمون النقد ضمن سيناريوين. ضمن السيناريو الأول، كان المتحدّث عبارة عن مدير يتكلّم إلى مرؤوس، وضمن السيناريو الثاني، كانت المتحدّثة عبارة عن مرؤوسة تتكلّم إلى مديرها. وقد قاس الباحثان حجم الجهد الذي بذله المتحدّثون لتجنّب إيذاء مشاعر الشخص الذي كانوا يوجّهون سهام النقد إليه.

قد يعتقد المرء بأنّ الناس سيكونون أكثر حذراً في كيفية تقديم النقد عندما يكونون في موقع المرؤوس. وقد وجد كل من تريسي وآيزنبيرغ بأنّ هذه الفرضية تصح على الرجال في الدراسة لكنّها لا تصح على النساء. وبحسب نتائجهما المنشورة في دورية "أبحاث اللغة والتفاعل الاجتماعي" (السنة 24، 1990/1991)، فإنّ النساء أظهرن اهتماماً أكبر بمشاعر الشخص الآخر عندما كنّ يؤدّين دور المدير. بعبارة أخرى، كانت النساء أكثر حذراً في الحفاظ على ماء وجه الشخص الآخر عندما كنّ يتعاملن مع مرؤوس أدنى منهنّ مرتبة وظيفية مقارنة بالحالة التي تعاملن فيها مع مدير. ويعتبر هذا النمط استدعاءً للتنشئة الاجتماعية للفتيات: فالفتيات اللواتي يكنّ في مقام أرفع نوعاً ما يتوقع منهن أن يقللن من شأن علو مكانتهن وليس التباهي بها.

في تسجيلاتي الشخصية المتعلقة بالتواصل في مكان العمل، لاحظت أنّ النساء يتحدّثن بطرق مشابهة. فعلى سبيل المثال، عندما اضطرت مديرة إلى تصحيح خطأ ارتكبته سكرتيرتها، فعلت ذلك من خلال الإقرار بوجود ظروف تخفيفية. فقد قالت ضاحكة: "من الصعب أن ينجز المرء مهامه في هذا المكان مع توافد كل هؤلاء الناس، أليس كذلك؟" لقد كانت المديرة تحاول إنقاذ ماء وجه سكرتيرتها، حالها حال الطالبات في التجربة التمثيلية التي قام بها كل من تريسي وآيزنبيرغ.

فهل هذه طريقة فعّالة للتواصل؟ ويجب على المرء أن يسأل، فعّالة في ماذا؟ لقد خلقت المديرة المعنية هنا جوّاً إيجابياً ضمن مجموعتها، والعمل أنجز بفعالية. ولكن من جهة أخرى، أخبرني عدد هائل من النساء في العديد من الحقول المختلفة بأنّ مدراءهن يقولون بأنهن لا يُبدين الشكل المناسب من السلطة.

الأسلوب غير المباشر

هناك إشارة لغوية أخرى تتفاوت بحسب السلطة والمقام هي الأسلوب غير المباشر – أي الميل إلى قول ما تقصده دون أن تفصح عنه بالكثير من الكلمات. فعلى الرغم من الاعتقاد السائد على نطاق واسع في الولايات المتّحدة الأميركية بأنّ من الأفضل دوماً أن تفصح عن قصدك صراحة، إلا أنّ الأسلوب غير المباشر هو عنصر أساسي وواسع الانتشار في التواصل البشري. كما أنّه واحد من أكثر العناصر تفاوتاً من ثقافة إلى أخرى، ويمكن أن يتسبّب بقدر هائل من سوء التفاهم عندما تكون لدى المتحدّثين عادات وتوقعات مختلفة حول كيفية استخدام هذا الأسلوب. وغالباً ما يقال بأنّ النساء في أميركا أكثر ميلاً من الرجال إلى استعمال الأسلوب غير المباشر، ولكن في واقع الأمر، يميل الجميع إلى استعمال الأسلوب غير المباشر في بعض الحالات وبأشكال مختلفة. وتميل النساء تحديداً إلى أخذ الاختلافات الثقافة والأثنية والإقليمية والفردية بالحسبان وبالتالي يستعملن أسلوباً غير مباشر عندما يتعلق الأمر بإخبار الآخرين بما يجب عليهم فعله. وهذا أمر غير مفاجئ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار استعداد الفتيات لنعت الفتيات الأخريات بأنهم متحكّمات ومتأمّرات. من جهة أخرى، يميل الرجال إلى اتباع أسلوب غير مباشر عندما يتعلق الأمر بالإقرار بالخطأ أو الضعف، وهذا أيضاً أمر غير مفاجئ إذا ما أخذنا بالحسبان استعداد الفتيان إلى تنحية الفتيان الآخرين الذين يتبنّون موقف الضعيف جانباً.

من النظرة الأولى، يبدو وكأنّ القوي فقط هو من يستطيع أن ينفد بجلده بعد إطلاق أوامر من قبيل: "يجب أن تضع التقرير المنجز على مكتبي قبل الثانية عشرة ظهراً." لكنّ السلطة في مؤسسة ما يمكن أن تقود إلى طلبات ذات طابع غير مباشر جدّاً إلى حد لا تبدو معه بأنّها طلبات. فالمدير الذي يقول: "هل لدينا البيانات الخاصة بمبيعات كل خط إنتاج بحسب المنطقة؟" سيفاجأ ويُحبط إذا أجابه أحد المرؤوسين: "ربما تكون لدينا" عوضاً عن أن يقول: "سأحضرها لك". على الرغم من الأمثلة التي من هذا القبيل، إلا أنّ العديد من الباحثين زعموا بأنّ الأشخاص الموجودين في موقع المرؤوس أميل إلى الحديث بطريقة غير مباشرة، وهذا بالتأكيد دقيق في بعض الحالات. فعلى سبيل المثال، درست عالمة اللسانيات تشارلوت ليند في دراسة منشورة في مجلّة "اللغة في المجتمع" (السنة 17، 1988)، محادثات الصندوق الأسود التي دارت بين الطيّارين ومساعدي الطيّارين قبل تحطّم الطائرة. وفي واحدة من الحوادث الشديدة المأساوية تحديداً، تحطّمت طائرة تابعة لشركة إير فلوريدا في نهر بوتوماك مباشرة بعد محاولة الإقلاع من المطار الوطني في العاصمة واشنطن متسبّبة بوفاة جميع الناس الذين كانوا على متنها والبالغ عددهم 74 شخصاً باستثناء خمسة منهم. وقد تبيّن بأنّ الطيّار لم يكن يمتلك خبرة كبيرة في الطيران في الطقس الجليدي. وكانت خبرة مساعد الطيّار أكبر قليلاً وقد اتّضح بعد التحليل وبما يفطر القلوب بأنّه كان قد حاول تحذير الطيّار لكنّه فعل ذلك بطريقة غير مباشرة. وبعد أن تنّبهت إلى هذه الملاحظة من ليند، درست نص الحوارات التي دارت ووجدت براهين تدعم فرضيتها. فمساعد الطيّار كان قد دعا مراراً وتكراراً إلى الانتباه إلى الطقس السيّء وتراكم الجليد على الطائرات الأخرى:

مساعد الطيّار: انظر إلى الجليد المتدلّي من تلك الطائرة، هل تراه؟ هل ترى رقاقات الثلج هذه كلّها على تلك الطائرة؟

الطيّار: نعم

(كما عبّر مساعد الطيّار عن خوفه بخصوص فترة الانتظار الطويلة منذ عملية إذابة الجليد).

مساعد الطيّار: يا إلهي. إنّها لمعركة خاسرة أن نحاول إذابة كل هذا الجليد، هذا الشيء يعطيك إحساساً كاذباً بالأمان، ولا شيء أكثر من ذلك.

(قبيل الإقلاع مباشرة، عبّر مساعد الطيّار عن أمر آخر يشغل باله – وهو وجود قراءات غير طبيعية في بعض العدّادات – لكنّه مجدّداً لم يضغط في هذا الاتجاه عندما لم ينتبه الطيّار إلى قصده).

مساعد الطيّار: لا يبدو هذا الرقم صحيحاً أليس كذلك؟ (انتظار لمدّة 3 ثوانٍ). هذا ليس صحيحاً. حسناً –

الطيّار: نعم إنه غير صحيح، هناك 80.

مساعد الطيّار: كلا لا أعتقد بأنّ ذلك صحيح (انتظار لمدّة 7 ثوانٍ). ربما يكون صحيحاً.

بعد ذلك بوقت قصير، أقلعت الطائرة، وحصلت النتيجة الكارثية. في حوادث أخرى إضافة إلى هذه الحادثة، لاحظت ليند بأنّ مساعدي الطيّارين، الذين يشغلون المرتبة الثانية في هرم القيادة، أميل إلى التعبير عن أنفسهم بطريقة غير مباشرة، أو إلى التخفيف من نبرة تواصلهم عندما يقترحون على الطيّار التصرّف بطريقة معيّنة. وفي مسعى لتجنّب كوارث مشابهة، توفّر بعض شركات الطيران تدريبات لمساعدي الطيّارين للتعبير عن أنفسهم بطريقة أكثر جزماً.

يبدو هذا الحل مناسباً بجلاء بالنسبة لمعظم الأميركيين. ولكن عندما عرضت مقالة ليند في ندوة لطلاب الدراسات العليا كنت أدرّس فيها، أشار طالب ياباني بأن تدريب الطيّارين على التقاط التلميحات سيكون تدبيراً مساوياً في فعاليته. تعكس هذه المقاربة افتراضات عن التواصل تعتبر نموذجية في الثقافة اليابانية التي تولي أهمية كبيرة لقدرة الناس على فهم بعضهم البعض دون التعبير عن كل شيء عبر الكلمات. يمكن للأسلوب المباشر أو غير المباشر أن يكون وسيلة ناجحة للتواصل طالما أنّ الأسلوب اللغوي مفهوم من جميع المشاركين.

المسؤولون في مواقع السلطة أكثر ميلاً إلى مكافأة الأنماط اللغوية المشابهة لأنماطهم.

أمّا في عالم العمل، فإنّ هناك أشياء أهم ممّا إذا كان التواصل مفهوماً أم لا. فالناس الموجودون في مواقع السلطة أميل إلى مكافأة الأنماط اللغوية المشابهة لأنماطهم، لأننا جميعاً نميل إلى اعتبار منطق أساليبنا جلياً وبديهياً. وبناءً على ذلك، هناك أدلّة على أنّه في أماكن العمل الأميركية، حيث ينتظر التعبير عن التعليمات الصادرة عن رئيس إلى مرؤوس بأسلوب مباشر نسبياً، فإنّ الأشخاص الذين ينزعون إلى استعمال أسلوب غير مباشر عند تقديم التعليمات إلى المرؤوسين يمكن أن يُنظر إليهم بوصفهم يفتقدون الثقة بالنفس.

لنأخذ مثلاً حالة المديرة التي كانت تعمل في مجلة تصدر على المستوى الوطني وكانت مسؤولة عن توزيع التكليفات على المراسلين. كانت عادة تصيغ تكليفاتها على شكل أسئلة. فعلى سبيل المثال، كانت تطرح الأسئلة التالية: "كيف تفضل إنجاز المهمّة (س) مع (ع)؟ أو كانت تقول "كنت أفكّر في وضعك في المشروع (س). هل هذا مقبول؟" وقد كانت طريقة مقبولة تماماً بالنسبة لموظفيها، الذين أحبّوا العمل معها، وكانت المهام تُنجز بطريقة كفوءة ومنظمة. ولكن عندما كانت تخضع للمراجعة نصف السنوية مع مديرها، كان ينتقدها لعدم إبداء السلوك المناسب مع موظفيها.

في أيّ بيئة عمل، يمتلك الشخص الذي يحتل موقعاً أعلى سلطة تعزيز وجهة نظره بما يجب اعتباره سلوكاً مناسباً، والذي ينجم جزئياً عن الأسلوب اللغوي. وفي معظم السياقات الأميركية، وجهة النظر السائدة أميل إلى الافتراض بأنّ الشخص الموجود في موقع السلطة يمتلك الحق بأن يكون مباشراً نسبياً عوضاً عن التخفيف من الأوامر. ولكنّ هناك حالات أخرى أيضاً يتبنّى فيها الشخص الذي يحتل موقعاً أعلى أسلوباً أبعد عن المباشرة. فقد طلبت مالكة أحد متاجر التجزئة من مرؤوسها وهو مدير المتجر بأن ينجز مهمّة معيّنة. قال هذا المرؤوس بأنّه سينجز المهمّة المطلوبة، ولكن بعد مرور أسبوع لم يكن قد أنجزها بعد. وعندما حاولا تتبّع الأسباب التي صعّبت عليه إنجازها وصلا إلى المحادثة التالية: فهي كانت قد قالت له: "المُحاسِبةُ بحاجة إلى مساعدة في تحضير الفواتير. فما رأيك أن تقدم لها يد العون؟ وكان هو قد أجابها قائلاً: "حسناً، لا بأس". بدت المحادثة واضحة وخالية من أيّ عيب في ذلك الوقت، ولكن تبيّن بأنّهما قد فسّرا هذا الحوار البسيط بطريقتين مختلفتين تماماً. هي فهمت بأنّه كان يقصد: "حسناً، سوف أساعدها في تحضير الفواتير". وهو كان يعتقد بأنّه قصد: "حسناً، سوف أقوم بالتفكير في مساعدتها في تحضير الفواتير." وهو فكّر في الأمر وخلص إلى أنّ لديه أشياء أهم لينجزها وليس لديه الوقت الكافي لمساعدتها.

بالنسبة لمالكة المتجر، "ما رأيك أن تقدم لها يد العون؟" هي طريقة مناسبة واضحة لإعطاء الأمر التالي: "ساعد المحاسبة في إعداد الفواتير". الأشخاص الذين يتوقعون بأن تُعطى الأوامر على شكل أفعال أمر جريئة قد يجدون هذا النوع من الجمل مزعجاً أو مضللاً حتى. ولكن بالنسبة للأشخاص الذين يعتبرون هذا الأسلوب طبيعياً فإنهم لا يعتقدون بأنّ أسلوبهم غير مباشر. هم يعتقدون بأنهم واضحون بطريقة لائقة ومحترمة.

الشيء اللانمطي في هذا المثال هو أنّ الشخص الذي يستعمل أسلوباً أميل إلى عدم المباشرة هو صاحبة المتجر، لذلك فإنّ المدير كان لديه الدافع للتكيّف مع أسلوبها. هي لا تزال تلقي الأوامر بالطريقة ذاتها، لكنّ مدير المتجر بات يفهم الآن كيف تقصد ما تريد قوله. والأكثر شيوعاً في سياقات العمل في الشركات الأميركية أن يتبنّى الأشخاص ذوو المراتب الرفيعة أسلوباً أكثر مباشرة، وتكون النتيجة هي أنّ العديد من السيّدات اللواتي يشغلن مواقع في السلطة معرّضات لأن ينظر إليهنّ المدراء بوصفهن يفتقرن إلى السلوك المناسب، - وبالتالي يفتقدن الثقة بالنفس.

ما الذي يمكن فعله؟

غالباً ما أُسأل: ما هي أفضل طريقة لتقديم النقد؟ أو ما هي أفضل طريقة لإعطاء الأوامر؟ - بعبارة أخرى، ما هي أفضل طريقة للتواصل؟ والإجابة هي أنّ ليس هناك طريقة فضلى. وسوف تتفاوت نتائج طريقة معيّنة في الحديث بحسب الموقف، والثقافة السائدة في الشركة، والمرتبة النسبية للمتحدّثين، وأساليبهم اللغوية، وكيفية تفاعل هذه الأساليب مع بعضها البعض. وبسبب كل هذه المؤثرات، يمكن أن تكون أي طريقة في الكلام مثالية للتواصل مع شخص معيّن في حالة معيّنة، وكارثية مع شخص آخر في حالة أخرى. وتتمثّل المهارة الأساسية للمدراء في أن يتعرّفوا على آليات عمل الأسلوب اللغوي وقوّته، وفي ضمان الإصغاء إلى الناس الذين لديهم إسهامات هامّة يرغبون بتقديمها.

قد يبدو على سبيل المثال بأنّ إقامة اجتماع بطريقة غير محدّدة سلفاً هو أمر جيّد يمنح فرصاً متساوية للجميع. لكنّ إدراك الفروقات في أسلوب الحديث يسهّل رؤية احتمال عدم وجود تساوي في إمكانية المشاركة. فالأشخاص الذين يشعرون بالارتياح تجاه فكرة الحديث ضمن مجموعة، والذين يحتاجون إلى القليل من الصمت أو لا يحتاجون إلى أي صمت حتى قبل أن يرفعوا أيديهم، أو يتحدّثون بسهولة دون انتظار من يدرك وجودهم أميل بكثير إلى أن يجدوا آذاناً صاغية في الاجتماعات. أمّا من يمتنعون عن الكلام حتى يتّضح أن المتحدّث السابق قد أنهى كلامه، والذين ينتظرون من يدرك وجودهم، والميّالون إلى ربط تعليقاتهم بما قاله الآخرون فسيجدون صعوبة في إيصال صوتهم في اجتماع يضمّ أشخاصاً تكون أساليبهم أقرب إلى النمط الأوّل. ونظراً للتنشئة الاجتماعية النمطية للفتيان والفتيات، فإنّ الرجال أميل إلى أن يكونوا قد تعلّموا الأسلوب الأوّل في حين أن النساء أميل إلى الثاني، ممّا يجعل الاجتماعات أكثر ملائمة للرجال منه للنساء. ومن الشائع ملاحظة نساء يشاركن بحيوية وفعالية أكبر في الاجتماعات الفردية أو في المجموعات التي لا تضم إلا سيّدات ولكن نادراً ما يُسمع صوتهن في الاجتماعات التي تضمّ نسبة كبيرة من الرجال. ومن جهة أخرى، هناك نساء يستعملن الأسلوب الأكثر شيوعاً لدى الرجال، وهن معرّضات لخطر من نوع آخر ألا وهو أن ينظر إليهن بوصفهن أكثر شراسة.

يمكن للمدير الذي يدرك هذه الديناميكيات أن يبتدع طرق كثيرة لضمان سماع أفكار الجميع مع نسب الفضل فيها إلى أصحابها. ورغم عدم وجود حل وحيد يناسب كل السياقات، إلا أنّ المدراء الذين يفهمون ديناميكية الأسلوب اللغوي قادرون على تطوير مقاربات أكثر تكيّفاً ومرونة لإدارة الاجتماعات أو المشاركة فيها، وإرشاد الآخرين أو مساعدتهم على المضي قدماً في حياتهم المهنية، وتقويم الأداء وهكذا دواليك. يعتبر الكلام بمثابة الدماء التي تجري في عروق عمل المدراء، وبالتالي فإنّ تفهّم الفكرة القائلة بأنّ الناس المختلفين لديهم طرق مختلفة في قول ما يقصدونه ستمكّن من الاستفادة من مواهب الناس الذين يمتلكون طيفاً واسعاً من الأساليب اللغوية. وعندما يزداد تنوّع مكان العمل ثقافياً، وعندما يصبح الجانب التجاري ذا طابع عالمي أكبر، فإنّ المدراء سيحتاجون إلى تحسين إجادتهم لقراءة التفاعلات وزيادة مرونتهم في تعديل أساليبهم الذاتية بحسب الناس الذين يتفاعلون معهم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .