يتيح الابتكار الحضري آفاقاً تثير الخيال، إلا أن تخيّل ما ستكون عليه "مدينة ذكية" في مستقبل مشرق هو ممارسة مثالية حالمة، حيث يتبع الواقع نمطاً فوضوياً وتختلف المدن عن بعضها. كما أن أكثر المناهج ابتكاراً لا يمكنها أن تحقق أثراً يعمّ العالم، فما يجذب المثقفين في كوبنهاغن أو أمستردام لن يساعد على الأرجح ملايين العمال في جاكرتا أو لاغوس. لذا يحتاج رواد الأعمال الخاصة والمدنية إلى ربط مشاريعهم بظروف محددة ليتمكنوا من إحداث أثر حقيقي. وتتمثل نقطة الانطلاق الفاعلة في إعداد المدن للمستقبل في تقسيم المدن إلى 4 أنواع على أساس صفتين مميزتين كما يلي: المدن العريقة مقابل المدن الجديدة، والاقتصادات المتقدمة مقابل الاقتصادات الناشئة. وستختلف فرص الابتكار اختلافاً كبيراً حسب النوع.
النوع الأول: المدن العريقة ذات الاقتصاد المتقدم
مثل: لندن وديترويت وطوكيو وسنغافورة
الخصائص: يعمل أي تدخل في المدينة العريقة على تفكيك أحد عناصرها الموجودة بالفعل، سواء كان طريقاً أم مبنى أم سلطة تنظيمية أم أعمال خدمية مؤسسة. ونظراً للنمو الديموغرافي البطيء في الاقتصادات المتقدمة، يكون الفوز والربح على حساب الآخرين (وهو أحد الأسباب التي تزيد من حدة التنافس بين سيارات الأجرة المرخصة وخدمات مثل "أوبر" Uber و"ليفت" Lyft). كما يسكن هذه المدن الطبقة الراقية وصفوة المجتمع. لهذا تظهر الحلول التي تساعد المستخدمين بصفة أساسية على إنفاق الفائض من أموالهم. ومن بين الابتكارات في هذا السياق على سبيل المثال "يلب" (Yelp) و"زيلو" (Zillow) و"تريب أدفايزر" (Trip Advisor).
الآثار المترتبة على قادة المدن: على القادة أن يحاولوا تأسيس بيئة يمكن لرواد الأعمال فيها أن يبتكروا حلولاً تعمل على تحسين جودة الحياة دون زيادة النفقات الحكومية. تعد شركة "إير بي إن بي" (Airbnb) مثالاً للتحسين الذي يحقق النفع لجميع الأطراف: حيث يحقق المُلّاك مزيداً من التدفق النقدي من أصولهم، ويحصل العملاء على خيارات أفضل بتكاليف أقل فيما يتعلق بخيارات السفر والإقامة. وبالمثل، يجب على قادة المدن تشجيع المشاريع التي تخلق بشكل مباشر فرص عمل (مثل "ليفت" أو "أوبر") أو التي تُسهّل بشكل غير مباشر توسيع العمل مثل ("أنغيز ليست" Angie’s List أو "هاندي" Handy).
الآثار المترتبة على رواد الأعمال: يتمتع سكان المدن العريقة المتقدمة بفائض في دخولهم. هذا يعني أنه يتعين على رواد الأعمال التركيز على الحلول الأكثر استهدافاً، والتي تنجح مع قطاعات محددة من السكان، بحيث يغلب على هذه الحلول الاتجاه نحو الترفيه والتعليم والتواصل الاجتماعي. كما يمكن تحديدها بأماكن معينة. ومن الأمثلة على ذلك: "أوبن تيبل" (OpenTable) (وهي خدمة حجز مطاعم)، و"موتيفيت" (Motivate) (مُشَغِّل "سيتي بايك" CitiBike و"باي إيريا بايك شير" Bay Area Bikeshare وغيرهما)، و"لوكس" (Luxe) (وهي خدمة لحجز مكان لصف السيارات عبر الإنترنت).
النوع الثاني: المدن العريقة ذات الاقتصاد الناشئ
مثل: مومباي وساو باولو وجاكرتا
الخصائص: معظم الهياكل المؤسسية الملموسة موجودة بالفعل في هذه المدن الكبرى، ولكن نظراً للنمو السريع للتعداد السكاني والازدحام الشديد، هناك فرصة لإضافة قيمة بتحسين الكفاءة والمعيشة. كما أن هناك سوقاً للعملاء من أصحاب النقد المتوفر لدفع مقابل هذه المزايا.
الآثار المترتبة على قادة المدن: على القادة تخفيف القيود ليتمكن أصحاب التمويلات الخاصة من الاستثمار في التحسينات التي تتم على البنية التحتية الملموسة، بغرض استخدام البنية الموجودة بالفعل بصورة أفضل. كما يتعين عليهم دعم مصادر سداد هذه الاستثمارات خلاف رسوم المستخدمين فقط. هناك أمثلة واسعة النطاق، منها الدعم السابق المقدم من هونغ كونغ في المجال العقاري لرحلات سكك حديد "إم تي آر" (MTR) من المطار إلى وسط المدينة، أو دعم الوقود الخاص بمزوّدي خدمات المياه والصرف الصحي من القطاع الخاص في المناطق الحضرية في الجزائر وغيرها من المدن.
الآثار المترتبة على رواد الأعمال: التركيز على الشراكات بين القطاعين العام والخاص، إذ يمكن للحلول المفروضة التي تركز على منافع البنية التحتية الموجودة حالياً، أن تقوم على التمويل الذاتي بصفة أساسية في حالة عدم توافر الدعم المالي. وتشمل هذه الحلول على سبيل المثال الحلول الخاصة بتحسين مسار حركة المرور أو مشاركة السيارات أو جمع القمامة بطرق أكثر فاعليةً. ومن أمثلتها "ويز" (Waze)، و"تورو" (Turo)، و"ويست زيرو" (WasteZero). وهناك فرص للجمع بين التمويل الإبداعي والاستخدام المدروس للتقنيات الجديدة للاستشعار والبيانات الكبيرة، بغرض إنشاء مشروعات تساهم في بناء مدن مستدامة.
النوع الثالث: المدن الجديدة ذات الاقتصاد الناشئ
مثل: فو ماي هونغ في فيتنام، وسوزهو في الصين، وأستانا في كازاخستان، وسنغافورة (في السابق).
الخصائص: تميل هذه المدن إلى تحقيق معدلات مرتفعة في كل من نمو التعداد السكاني ونمو الناتج المحلي الإجمالي لكل فرد، وهذه هي الرياح الديموغرافية والاقتصادية المحركة لتعزيز العوائد. ولا توجد في المناطق الحضرية إلا القليل من الهياكل الاجتماعية أو الملموسة التي تتفكك مع نموها، وعليه تواجه المقترحات الجديدة عقبات راسخة أقل. وفيما يتعلق بالاستثمارات في الخدمات الأساسية، يترتب عائد فوري على الاستثمار مع انتقال السكان إلى هذه المناطق، حيث تجتذب هذه الخدمات إيرادات جديدة من مستخدمين جدد. وأخيراً، تتمتع هذه المدن بفرصة مهمة تتمثل في إمكانية بنائها بالصورة الصحيحة من المرة الأولى، لاسيما مرافق الطرق والجسور والمياه والطاقة التي تحدد التنافسية الاقتصادية وجودة الحياة لعقود من الزمن. ماذا عن الجانب السلبي؟ إذا ضاعت هذه الفرصة، سيغلب على التجمعات الحضرية الجديدة الزحف غير المُنظَّم، وسيصعب تنفيذ مستوطنات جديدة بعد الانتهاء من مرافق الطاقة والطرق والصرف الصحي.
الآثار المترتبة على قادة المدن: على القادة التركيز أولاً على بناء البنية التحتية الصلبة التي ستدعم الخدمات المتمثلة في المدارس والمستشفيات والحدائق العامة. وهذا أيضاً قد يتم من خلال ترتيبات الشراكات بين القطاعين الخاص والعام، ويمكنهم بعد ذلك تشجيع المنصات التجارية لرواد الأعمال لإنشاء خدمات تتضمن اتصال البيانات والخدمات المصرفية والتأمين.
الآثار المترتبة على رواد الأعمال: في هذه المدن، لم يحن الوقت بعد للتفكير في تحسين البنية التحتية الحالية أو إنشاء وسائل ترفيهية للأثرياء ينفقون فيها الفائض من دخلهم. لذا يجب على رواد الأعمال التركيز على التطبيقات والخدمات التي تعالج "الفجوات المؤسسية" المحتملة التي تتراوح بين عدم ثبات الطاقة الكهربائية، وبطء تنفيذ العقود. تحتجز "علي بابا إسكرو" (Alibaba Escrow) -إحدى وحدات عملاق التجارة الإلكترونية الصيني "علي بابا" (Alibaba)- مدفوعات المشترين في المعاملات بين الشركات حتى تُسلّم البضائع بالشكل المُرضي، فتَصرِف المبلغ للبائع. هذا يساعد في تسهيل التجارة بين الأطراف الموثوقين في الوضع الذي تكون فيه بعض المؤسسات والأعراف التجارية -كالمحاكم والعقود- غير مُطوّرة بالكامل وفقاً للتوقعات الغربية.
النوع الرابع: المدن الجديدة ذات الاقتصاد المتقدم
الأمثلة والخصائص: هذه المدن نادرة للغاية. وفي الوقت الحالي، فإن معظم المدن التي نشأت بذاتها في صورة "مدن جديدة" في العالم المتقدم، تتسم في الواقع أعمال التطوير العقاري بالضخامة والتكامل ولها طابع حضري، وتقع عادةً بالقرب من بلدية حقيقية. ومن الأمثلة على هذه المبادرات مدينة نيو سونغدو سيتي في كوريا الجنوبية، ومدينة مصدر في أبو ظبي، ومدينة هافن سيتي في هامبورغ في ألمانيا.
الآثار المترتبة على قادة المدن: تتنافس هذه المدن الجديدة المنبثقة من المدن الكبرى الموجودة بالفعل على الوظائف، وتجتذب المشاركين الموهوبين في الاقتصاد الإبداعي. فيجب على القادة التركيز على البنية التحتية الصلبة التي تقلل من تكاليف الشركات، وعلى البنية التحتية الناعمة التي تضع المدينة في مركز متقدم بحسب مقاييس جودة الحياة التي تجذب العاملين في الاقتصاد الإبداعي. وتشمل هذه العوامل سهولة العبور، ونقاء الهواء والمياه والمساحات الخضراء ودعم الفنون والترفيه.
الآثار المترتبة على رواد الأعمال: التنسيق مع قادة المدن فيما يتعلق بالخدمات المهمة للعاملين في مجال المعرفة، والمساعدة في بناء العلامة التجارية المميزة للمدن. على سبيل المثال، استخدمت شركة "سيسكو" (Cisco) تقنيات الحضور عن بُعد (وتتميز بالتفاعل المرئي المباشر عالي الجودة) في لأعمال التطوير تتضمن مدينة "نيو سونغدو سيتي" في كوريا و"لافاسا" في الهند، وذلك لتحسين تقديم الخدمات المدنية واجتذاب أصحاب العمل.
تختلف المدن عن بعضها، وكذلك الحلول.
نتجت الضجة الحالية حول "المدن الذكية" عن عدة قوى، ابتداءً من القادة السياسيين والأبحاث الأكاديمية، وحتى حماس المُوّردين. يمكن تشتيت انتباه النخب وصفوة المجتمع بالتقنيات العصرية والابتكارات الخاصة بالسياحة، لكن الأمر لا ينحصر في ذلك فقط. تعجز معظم المدن عن دفع مقابل "الخدمات الذكية" بصورة مباشرة، وغالباً ما تعجز عن تمويل البنية التحتية الأساسية. لهذا يجب أن يخضع الابتكار في عدة أوضاع إلى قيادة رأس المال من القطاع الخاص، مع التركيز على التدخلات التي تُمكّنها من الدفع بذاتها. ويجدر بالمبتكرين الحضريين على مستوى العالم الأخذ في الاعتبار الأوضاع والمناهج المختلفة على مستوى الأنواع الأربعة، والربط بين الأهداف والتمويل بالشكل الصحيح.