أصدر خبير علم النفس التنظيمي وأحد أبرز المتحدثين في مجال بيئة العمل في العصر الحديث والأستاذ في جامعة بنسلفانيا للإدارة، آدم غرانت، كتابه الجديد "الإمكانات الكامنة" (Hidden Potential)، الذي يعطي دروساً عظيمة في الكشف عن إمكاناتنا الكامنة من أجل تطوير أنفسنا وكذلك من هم حولنا سواء على صعيد الحياة عموماً أو داخل بيئة العمل.
يقدّم لنا غرانت في هذا الكتاب إطاراً جديداً لرفع التطلعات وتجاوز التوقعات.
إذ برع آدم غرانت في طرح الأدلة الرائدة، والرؤى المفاجئة، ورواية القصص الحية التي تنقلنا من الفصل الدراسي إلى قاعة الاجتماعات، والملعب، والألعاب الأولمبية، وعلى الأرض، وصولاً إلى الفضاء الخارجي. فيوضح الكاتب أن التقدم والتطور يعتمدان اعتماداً أقل على مدى صعوبة العمل ويرتكزان أكثر على مدى تعلمك وشغفك لإتقان هذا العمل. ويؤكد كذلك أن التطور لا يعتمد على عبقرية الشخص بل على فضول الأشخاص لتطوير شخصياتهم وتحسينها. ويختم غرانت في هذا الكتاب بإلقاء الضوء على كيفية بناء مهارات الشخصيات والهياكل التحفيزية المؤثرة من أجل اكتشاف إمكاناتنا الخاصة والكامنة والاستفادة منها، وكيفية تصميم أنظمة تخلق فرصاً لأولئك الذين استُخف بهم وكذلك يجري تجاهلهم.
في هذا المقال سوف نذكر ثلاثة دروس مستخلصة من هذا الكتاب الرائع الذي صيغ بطريقة متمكنة شملت سرد أدلة وقصص ودراسات علمية واقعية تعطي القارئ انطباعاً محفزاً بمجرد قراءة هذه القصص وربطها بدراسات في المجال التنظيمي بطريقة علمية مثبتة. وكما يقول غرانت: "المقياس الحقيقي للإمكانات ليس بمجرد وصولك الى أعلى قمة ممكنة، ولكن إلى أي مدى صبرت وواصلت التسلق إلى أن بلغت هذه القمة".
الدرس الأول: ابدأ حتى وإن لم تكن جاهزاً
وهنا يؤكد غرانت أن منطقة الراحة هي عدوة التعلم، لذلك يجب أن تبدأ وتنطلق حتى وإن لم تكن جاهزاً؛ حيث ستجد نفسك في منطقة عدم الراحة ومن هنا تبدأ رحلة الكشف عن الإمكانات الكامنة في شخصيتك. ولكن قبل الكشف عن أي إمكانات كامنة، يشدد الكاتب على التمييز بين "الشخصية" و"الطابع الشخصي" و"الكراكتر" (Character)، إذ تشير الأولى إلى كل ما يتعلق بما تريد فعله، وتتلخص الثانية فيما تختار فعله. فالشخصية تعبّر عن غرائزك الفطرية مثل طريقة تفكيرك وكيفية الشعور والتصرف، أما الكراكتر فتشير إلى القدرة على إعطاء الأولوية لقيمك ومبادئك على حساب غرائزك.
ويرى الكاتب أن الإنسان لا يحتاج إلى الراحة من أجل الكشف عن إمكاناته الكامنة؛ بمعنى أنه حين تمارس مهاراتك وتنمو أكثر فأكثر ستزداد نسبة ارتياحك حول ممارسة هذه المهارة. يقول غرانت: "تنمو راحتك وأنت تمارس مهارتك".
ففي سبيل التطور والتحسن ذكر الكاتب طرقاً أخرى عديدة تجعل الأشخاص في عملية تطور مستمر في مناطق بعيدة عن منطقة راحتهم. من أمثلة هذه الطرائق:
- اجعل طريقة تعلمك ملائمة لما تريد تعلمة حتى وإن كانت غير مفضلة لديك.
- اكتشف تحديات جديدة في أثناء رحلة التعلم وتجاوز كل الحدود من حولك.
- حدد أهدافك الأسبوعية ولا تقلق من ارتكاب الأخطاء ولكن اجعل لأخطائك حداً أدنى.
- ابدأ قبل أن تكون جاهزاً ثم اعمل على تحقيق التحسن حتى وإن كان قليلاً.
الدرس الثاني: عندما تعتقد أنك علقت في مرحلة معينة استمر
التوقف ليس خياراً بل يجب مواصلة العمل؛ فقد يكون مسار تطوير إمكاناتك وتحسّنها دائرياً بحيث تعود فيها إلى نقطة الصفر مع كل دورة. لكن الجميل في الأمر أنه مع كل دورة ستشعر بالتحسن وسيصبح الأمر بسيطاً وأكثر سلاسة. ويرى الكاتب أن أغلب الأشخاص لا يفهمون هذا التصور حول عملية التحسين، فبمجرد عودتهم إلى نقطة البداية يستسلمون ويشعرون بالإحباط. ويبدو أن الرياضيين هم أكثر الناس استيعاباً لمصطلح التحسين الدائري، إذ يضرب الكاتب مثالاً رائعاً للاعب البيسبول الأميركي آر.أي. ديكي الذي بدأ مسيرته بتوهج مبكر ولكنه قضى أكثر من 31 عاماً حتى تمكن من إتقان رميته الخاصة والنادرة بعد 30 ألف محاولة، ما قادت إلى توقيع عقد احترافي بملايين الدولارات وهو في سن 35 عاماً مع نادي نيويورك ميتس. لو أن هذا الرياضي شعر بالإحباط في كل مرة يعود فيها الى مرحلة الصفر لما تمكن من بلوغ ما وصل إليه اليوم لذلك عندما ينتابك شعور بأنك عالق، فقط استمر. يقول غرانت: "الحياة ليست خطاً مستقيماً ولكنها طريق مليء بالأشياء غير المتوقعة. بغض النظر عن مدى شعورك بالسكون، فقط استمر. قد يبدو أنك تتجول في دوائر، ولكن هناك احتمالات بأنك تصعد ببطء لأعلى".
الدرس الثالث: استخدم "الكتابة الذهنية" بدلاً من العصف الذهني (Brainwriting instead of Brainstorming)
قُدِّم مصطلح " الكتابة الذهنية" كما أطلق عليه غرانت، في عام 2010 عن طريق أندري سوجاريت الذي كان وقتها قائداً لأخطر عملية إنقاذ عرفها تاريخ البشرية. من منا ينسى انهيار المنجم في تشيلي ليحتجز بداخله 33 عاملاً؟ إذ أصبحت قصة إنقاذهم حديث العالم أجمع، فكان قائد فريق الإنقاذ سوجاريت يعلم أن الوقت عامل مهم لإنقاذ الأرواح. لذلك بدلاً من تنظيم جلسات العصف الذهني الطويلة لإيجاد الحلول، قدّم سوجاريت ما عرّفه غرانت لاحقاً "بالكتابة الذهنية"، فاتحاً المجال أمام العالم لطرح الحلول عبر موقع إلكتروني خاص على الإنترنت، وبعد ذلك دعوة كل الأشخاص الذين قدموا حلولاً مميزة إلى مناقشة جدواها معهم.
عندما تخص المشكلة مجموعة من الأشخاص لا تكن منغلقاً واستمع إلى أفكار الجميع، بعد ذلك استغرق وقتك بكفاءة عالية للحكم على هذه الأفكار واختبارها وربما تكملتها وتطبيقها. بالعودة إلى قصة عمال المنجم فقد أُنقذوا بعد 69 يوماً من حدوث الانهيار بفضل فتحة حُفرت بأداة اقترحها أحد المتطوعين، وعن ذلك يقول غرانت: "جرّب مفهوم الكتابة الذهنية مع فريقك ولن تندم أبداً".
هذا الكتاب هو عبارة عن عِلم خالص حول تحقيق أهداف عظيمة بسرد أكثر من رائع لمزيج من القصص الإنسانية التقليدية وغير التقليدية، وكذلك الدراسات العلمية القائمة على جمع البيانات لتجعل القارئ يشعر بفهم أكثر اكتمالاً بمدى قدرة الإمكانات البشرية. يختم غرانت بقوله: "إن الإمكانات الكامنة ليست معتمدة على المكان الذي تبدأ منه، بل على مدى سفرك عن هذا المكان ومدى تحمل مشقة هذا السفر والاستمرار في التقدم".