في عام 2010، بلغ الانضمام إلى الكليات والجامعات في الولايات المتحدة مستوى تاريخياً غير مسبوق في أعقاب فترة الركود الاقتصادي العالمي. وفي العقد التالي، برزت رواية يتحدث بها كثيرون عن أنّ قيمة التعليم الجامعي تنحدر بسرعة. ووصلت إلى الساحة موجة جديدة من شركات التكنولوجيا التعليمية التي تحظى بتمويل جيد، بما فيها الدورات التدريبية الشاملة المتاحة على الإنترنت (MOOCs)، وأصبحت شعبية إلى حد يؤشر إلى زعزعة التعليم العالي في أميركا. الشارات المكتسبة عبر الإنترنت ستتحدى الشهادات التقليدية وتحل محلها. تنبأ منظر الأعمال الشهير كلايتون كريستنسن بأنّ نصف الكليات الجامعية قد تعلن إفلاسها في غضون 15 عاماً. وقال آخرون إنّ الدرجة العلمية "لقيت حتفها".
بدا أنّ ثمة ثورة تجري الآن في عملية اعتماد الشهادات، حيث توشك المنتجات الأساسية للكليات، وهي الدرجات الجامعية التقليدية، على الفناء أمام البدائل الرقمية والشركات الناشئة المزعزعة. وفي وقت قريب، ضُخمت هذه الرواية بتقارير تتحدث عن أنّ شركات معينة من الدرجة الممتازة مثل شركة "آي بي إم" وشركة "آبل" وعدد من الشركات الأخرى لم تعد "تطلب" درجات علمية لمناصب محددة.
لكن وفقاً للعديد من المقاييس، فإنّ قيمة الدرجة التقليدية اليوم تحتفظ بقوتها في سوق العمل. يحدث ابتكار في تقديم الدرجة العلمية، وغالباً ما تقوده مؤسسات تقليدية قائمة، ويجري ذلك في أحوال كثيرة بالشراكة مع شركات تكنولوجية.
في دراسة وطنية لجهات التوظيف عقدناها مؤخراً في جامعة "نورث وسترن"، قال الأغلبية العظمى من قادة الموارد البشرية إنّ قيمة الشهادات التعليمية في التوظيف إما زادت (48%) أو بقيت على حالها (29%) على مدار السنوات الخمس الماضية. وعلى الرغم من أنّ بعض جهات التوظيف رفيعة المستوى تتراخى في متطلباتها التعليمية الأساسية في سوق عمل محدودة تاريخياً، إلا أنّ أكثر من نصف الوظائف الشاغرة على مستوى الولايات المتحدة على مدار العام الماضي فضّلت درجة البكالوريوس على الأقل، وفقاً لعشرات الملايين من إعلانات الوظائف التي تابعتها شركة "بيرننغ غلاس تكنولوجيز" (Burning Glass Technologies) المتخصصة في بيانات سوق العمل. لقد كانت هذه النسبة على حالها على مدار الأعوام الخمسة الماضية. وإضافة إلى ذلك، فإنّ العلاوة الكبيرة على الأجور التي تدفعها جهات التوظيف لحاملي الشهادات الجامعة تبقى في أعلى مستويات التاريخية على مدار الزمن، وفقاً لبحث حديث أجراه بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. تستمر الأعمال في تقدير الدرجات ومكافأة العمال الأكثر تعليماً.
ويُعزى الكثير من ذلك إلى الزيادة في الطلب على المهارات في اقتصاد المعرفة الحديث. وافقت 64% من جهات العمل في دراستنا على أنّ الحاجة للتعليم المستمر على مدى الحياة ستطلب مستويات أعلى من التعليم والمزيد من الشهادات. وهذا يحفز الازدهار في تعلم ما بعد درجة البكالوريوس، على وجه التحديد. فمثلاً، يحصل شخص من بين كل عشرة أميركيين بالغين تقريباً الآن على درجة جامعية عليا، حتى قبل أن يبلغ الواحد منهم 30 عاماً، ويشكل ذلك ضعف النسبة التي كانت في عام 1995.
وفي سوق تستمر في تفضيل الشهادات التعليمية الرسمية، أسست الشركات الحديثة المتخصصة في الدورات التدريبية المجانية الشاملة المتاحة على الإنترنت نموذج عمل، وهي تركز اليوم بشكل مباشر على الدرجات العلمية عبر الإنترنت وغيرها من الشهادات التعليمية ذات المقابل المادي. تحوّلت منصات الدورات التدريبية الشاملة المتاحة على الإنترنت مثل موقع "كورسيرا" (Coursera) وموقع "إي دي إكس" (EdX) إلى التركيز على الأعمال المزدهرة في مجال منح الدرجات العلمية عبر الإنترنت، وهي سوق لطالما خدمت فيه شركات تعليمية أسهمها مطروحة للتداول العام مثل شركة "بيرسون" (Pearson) و"وايلي" (Wiley) و"تو يو" (2U). تتنافس الآن منصات الدورات التدريبية الشاملة المتاحة على الإنترنت التي صنعت منتجات شهادات جديدة مثل "نانو ديجري" (nanodegree) و"مايكرو مساترز" (MicroMasters) (وهما علامتان مسجلتان) في سوق كان قائماً منذ عشرين سنة للدرجات الممنوحة عبر الإنترنت، وهو أحد قطاعات النمو الوحيدة في التعليم العالي الأميركي.
أكثر من 3 ملايين طالب وطالبة يدرسون بالكامل عبر الإنترنت في الولايات المتحدة، وتجدر الإشارة إلى أنّ 29% من جميع الطلاب الملتحقين في أي نوع من برامج المستوى الجامعي هم طلاب بدوام كامل عبر الإنترنت. واليوم، وفقاً لاستطلاعاتنا الوطنية، فإنّ أغلبية (61%) قادة التوظيف يعتبرون الشهادات المكتسبة عبر الإنترنت تعادل الشهادات المكتسبة بشكل شخصي أو تتفوق عليها. تقبّل تقديم الشهادات عبر الإنترنت اعتمد على سنوات من تطوير الخبرة المباشرة لدى جهات التوظيف في تعيين الموظفين ومشاركتهم وإرسالهم إلى برامج جامعية عبر الإنترنت.
وربما هيمن أوائل المتحركين على هذا الصعيد مثل جامعة "فينيكس" الأميركية (University of Phoenix) على سوق الشهادات عبر الإنترنت قبل 15 عاماً. واليوم، على أي حال، تتضمن أبرز الجهات العاملة في هذا المجال مؤسسات مثل جامعة أريزونا (Arizona State University)، وجامعة ميشيغان (University of Michigan)، وجامعة هارفارد (Harvard University)، وجامعة جونز هوبكنز (Johns Hopkins)، وغيرها. وقد قامت مؤسسات تقليدية ومرموقة تدريجياً بتعزيز مصداقية التعليم عبر الإنترنت. ربما يحدث التحول باتجاه التقديم الرقمي في التعليم العالي بوتيرة بطيئة مقارنة بقطاعات أخرى من الاقتصاد، ولكنه مستقر ويتسارع.
بدلاً من التخلص من الدرجات العلمية، تؤدي أنواع جديدة من الشهادات الممنوحة عبر الإنترنت، شهادات مختلفة و"مايكرو ماسترز" وشارات وما شابه، دوراً تكميلياً، حيث تضع حجر الأساس لبرامج أكاديمية جديدة وبأسعار معقولة أكثر. ويمثل هذا ابتكاراً حقيقياً من ناحية مدخلات التكلفة الأساسية (بما فيها العمالة من أعضاء هيئة التدريس) والتسعير وتوقعات الخدمة المرتبطة بتقديم الدرجات العلمية. وبالاستفادة من الخوارزميات والتشغيل بتكلفة مزعزعة، فإنّ هذه البرامج تعتبر أرخص ثمناً بالنسبة للكليات من ناحية إدارتها وتسويقها، كما أنها أرخص بالنسبة للطلاب.
ويعتبر سوق الماجستير في إدارة الأعمال مثالاً توضيحياً على ذلك. في عام 2016، أطلقت جامعة إلينوي (University of Illinois) برنامجها الذي يمنح درجة الماجستير في إدارة الأعمال "آي إم بي أي" (iMBA) بالشراكة من منصة "كورسيرا"، بحيث بنت برنامجاً أكاديمياً عبر الإنترنت فوق مجموعة من الشهادات والدورات التدريبية الشاملة المتاحة على الإنترنت. يبلغ سعر هذا البرنامج فقط ثلث سعر برنامج الماجستير في إدارة الأعمال التقليدي في حرم الجامعة، أي 22 ألف دولار للحصول على الدرجة كاملة. بعد ثلاث سنوات، زاد عدد الطلاب الملتحقين بالبرنامج إلى ألفي طالب وطالبة، وهذا معدل نمو هائل يمثل نسبة رئيسة من النمو السنوي في السوق الوطنية لبرنامج الماجستير في إدارة الأعمال عبر الإنترنت. في هذا الربيع، أعلنت الجامعة أنها كانت توقف برنامج الماجستير في إدارة الأعمال التقليدي في الحرم الجامعي لتركيز مواردها على نسخة البرنامج عبر الإنترنت. وهذا قرار يمكن يتكرر تدريجياً.
وعلى نحو مماثل، قام معهد "جورجيا تك" (Georgia Tech) بتوسعة برنامجه الأكاديمي المبتكر الخاص بدرجة الماجستير في علوم الحاسوب والقائم على دورات تدريبية شاملة متاحة على الإنترنت، والذي يبلغ سعره 7 آلاف دولار فقط، ويلتحق به الآن أكثر من 6,000 طالب وطالبة. وفي إطار هذا البرنامج، قامت الجامعة بشكل خاص بريادة استخدام مساعدات التدريس القائمة على الذكاء الاصطناعي. ومن بين الجامعات الأخرى التي تقدم درجات تعتمد على الذكاء الاصطناعي والدورات التدريبية الشاملة المتاحة على الإنترنت، والتي أطلق الكثير منها في السنة الأخيرة، جامعة ميشيغان، وجامعة تكساس في أوستن، وجامعة لندن، وعدد من الجامعات الأخرى.
يؤدي الابتكار التكنولوجي المستمر في عملية تقديم الشهادات التعليمية إلى زيادة الوصول وخلق مجموعة مختلفة من الخيارات الجديدة لتطوير المواهب وتدريب الشركات. ومع تقديم نسبة أكبر من تعليم الشركات عبر الإنترنت أيضاً، من المرجح أن تتلاشى الحدود شيئاً فشيئاً بين التعليم الذي يحدث في الأطر المؤسسية والتعليم على رأس الوظيفة.
يتعين على قادة الأعمال إدراك أنّ سوق التعليم المهني يمر بمرحلة تجربة وعروض متزايدة على البرامج. ويمكن الحصول على شهادات جيدة على الإنترنت الآن من الكثير من أفضل الجامعات في العالم، ولكن ما يحتويه أي برنامج قد يختلف على نحو كبير. ستتجمع الأسواق مع مرور الوقت حول معايير ووضوح أكبر، من خلال التقييم والخبرة. وفي نهاية المطاف، ستكون جهات التوظيف من بين الجهات الرئيسة التي تحكم على الجودة.
كما تبشّر الرقمنة المتزايدة للشهادات بعصر جديد من الشفافية الكبيرة في المخرجات التعليمية، ما يوفر بيانات أكثر وأفضل تمكِّن قادة الشركات من اتخاذ قرارات التوظيف. يتعين على جهات العمل أن تتخذ موقفاً أفضل لتقييم مهارات المرشحين والعمال وكفاءاتهم، في ظل توفر التعلم عبر الإنترنت وتمثيله على نحو واسع في شهادات رقمية. ويمكن لهذا أن يحسن من استراتيجيات التوظيف في الجامعات، وإعداد مؤهلات التوظيف، وقرارات الاستثمار فيما يتعلق بالتعليم والتطوير وتعليم المهارات التنفيذية.
وأخيراً، فإنّ مشهد اعتماد الشهادات الجديد واحتمال دمجه بشكل أعمق في استراتيجية المواهب يحفز تطوير أدوات وخدمات وأعمال جديدة للشركات. لا يزال قطاع تكنولوجيا التعليم يشهد تدفق عدة مليارات من الدولارات. ويجري تحفيز سوق تكنولوجيا الموارد البشرية للشركات باستثمارات سنوية تصل إلى 3 مليارات دولار تقريباً. وما زال الوقت مبكراً في تطوير بيئة عمل متكاملة هنا، لكن تقبل قادة الأعمال لعروض الشهادات التعليمية الجديدة ونهُج تقديمها أساسي لتحديد الشكل الذي ستكون عليه السوق مستقبلاً.