كنا وما زلنا في خضم أزمة ذات أبعاد ملحمية. ومع ذلك، هل بذلنا أي جهد للتفكير بالروابط المتبادلة بين أسلوب الشركات في التعامل مع الأزمة وتأثيره على سمعتها؟
تعني كلمة الأزمة الضرورة التي تستدعي اتخاذ قرار، وهي لا تبني الشخصية، بل تكشفها. الأزمة هي الاختبار الحقيقي للقادة الذي يكشف حقيقة المؤسسات والمجتمعات عموماً والقيادة الأخلاقية وسمعة الشركات بشكل خاص. منذ بداية الجائحة، شهدنا ردود فعل متباينة جداً على الأزمة في وضع تجاوز حدود إدارة الأزمات التي تعاملنا معها في السابق.
سيسلط إرث المرحلة التي ستلي جائحة "كوفيد-19" الضوء على الشركات التي واجهت الصعوبات بنزاهة، أي من خلال الاعتناء بموظفيها، والشركات التي اختارت العكس. بالطبع، فإن تأثير جائحة "كوفيد-19" كان مدمراً لنا جميعاً. لكننا ذهلنا لمعرفة أن شركة ديزني قد أوقفت 43 ألف موظف عن العمل مثلاً، أو أن "سيرك الشمس" (Cirque du Soleil) قد سرح 95% من موظفيه، إضافة إلى حالات التسريح في عدد كبير من الشركات. وأخشى أننا شهدنا أسوأ من ذلك، للأسف. فقد سرحت شركة "ريتشموند غروب" (Richemond Group) نائب رئيس قسم الموارد البشرية لديها. وكانت شركة "لاكجري غروب" (Luxury Group) تسعى لفرض تخفيضات كبيرة على الرواتب تشمل جميع الموظفين الذين يبلغ عددهم 37 ألفاً، في حين ارتفعت أجور بعض كبار التنفيذيين فيها من 1.9 إلى 3 مليون دولار أثناء الفترة ذاتها.
القيادة الأخلاقية في الشركات
وكي نكون منصفين، شهدنا أيضاً أمثلة كثيرة على العكس، حيث قرر بعض المسؤولين التنفيذيين تخفيض رواتبهم والاستمرار بدفع أجور موظفيهم كما هي. وبدأت بعض الشركات مثلاً بإنتاج سلع وخدمات للمجتمعات التي تحتاج إليها. كما قررت بعض الشركات (خذ "أيكيا" مثلاً) أن تعيد المعونات الحكومية لأنها لا تريد استهلاك أموال شحيحة في مجتمعات تعاني من الضغوطات بالفعل. كما لدينا أيضاً شركتي "لوكسوتيكا" (Luxottica) و"أرماني" (Armani). وفي الفترة الممتدة من مارس/آذار إلى مايو/أيار، كانت الأقوال المقتبسة عن القادة الأخلاقيين في الإعلام تعود إلى قادة شركات مثل "جورجيو أرماني" و"فيراري" وغيرها الكثير حول العالم. هؤلاء القادة هم أشخاص يقودون بضمير حي بالاعتماد على القيم والشجاعة، ويستعينون بالوسائل المالية إلى جانب القلب والمشاعر. وقد وجدت لدى شركة "فيراري"، وهي إحدى أبزر العلامات التجارية على وجه الأرض، مثالاً مذهلاً. هو برنامجها "العودة إلى حلبة السباق" (Back on Track).
بدأ برنامج "فيراري" "العودة إلى حلبة السباق" (وهي محقة في استخدام التعبير المستخدم في السباقات) كمبادرة لإعادة فتح المعمل بأمان مع الحفاظ على سلامة العاملين. لكن تطورت الفكرة إلى برنامج استراتيجي فعلي يدعو جميع المساهمين المعنيين للعمل. وكان الشعار، الذي يمكن تطبيقه على مدى العام ونصف العام المقبل، هو ضمان شروط عمل تتمتع بأقصى درجة ممكنة من الأمان، واتباع أفضل الاختبارات التشغيلية والنوعية وتقديم الدعم المعنوي. هو عمل فريق حقيقي: برنامج تشاركي يشمل جميع الموظفين على جميع المستويات، ويعزز إحساسهم بالانتماء أكثر فأكثر.
فمنذ أوائل شهر يناير/كانون الثاني، علمت شركة "فيراري" من زملائها في مكاتبها في آسيا والصين العظمى عن الأثر المحتمل لجائحة "كوفيد-19" والزعزعة التي تتسبب بها الجائحة. وقبل اتخاذ أي إجراء حكومي، استبق الفريق الحاجة لاتخاذ التدابير عن طريق العمل مع خبراء وأخصائيين في مجال الصحة وعلماء الفيروسات والسلطات المحلية من أجل وضع خطة عمل مفصلة. وهذا ما سمح لشركة "فيراري" بإعادة موظفيها وعامليها إلى العمل ما أن منحتها حكومة المنطقة الضوء الأخضر بذلك. لكن الأهم هو أن هذا التخطيط الوقائي سمح للشركة بتقديم الدعم المعنوي لجميع موظفيها وأسرهم وللشركاء في بيئة العمل. وتم تنفيذ برنامج "العودة إلى حلبة السباق" من خلال دمج القدرة على استباق الأحداث والمرونة في اتخاذ إجراءات استجابة سريعة بضمير حي وتنظيم.
دعمت شركة "فيراري" مبادرتها الصحية بعدد من الالتزامات الإضافية الأساسية، وهي تشمل التبرعات المالية الكبيرة ومبادرة خيرية منفصلة جنباً إلى جنب مع "ملّاك فيراري"، إضافة إلى برنامج مماثل للتبرعات الخيرية. كما دفعت الشركة أجور موظفيها كاملة أثناء هذه الفترة (لم تسرح أحداً، ولم تأخذ معونات حكومية ولم تخفض مخصصات الإجازات). كما كان الرئيس التنفيذي على اتصال دائم مع الموظفين، ليخبرهم بالخطوات التي يتم اتخاذها ويبدي اهتمامه بهم ودعمه لهم ويصغي إلى آرائهم. يعتبر برنامج "العودة إلى حلبة السباق" برنامجاً استراتيجياً قائماً على عمل الفريق المتوافق مع الغاية وحس الانتماء، والذي يتسق بصورة كاملة مع القيم التقليدية التي يتبناها كل من إينزو فيراري والقيادة الأخلاقية.
والسؤال المهم هنا هو: هل يمكن قياس السلوك الأخلاقي فيما يخص السمعة من أجل اجتذاب المواهب واستبقائها؟ ثمة أفكار وبيانات حول هذه النقطة تقدمها شركة "ربتراك" (RepTrack)، التي تقيس السمعة وتطورها. ووفقاً لها، هناك سبعة عوامل تؤثر على سمعة الشركة. وهي المنتجات والخدمات، والابتكار، ومكان العمل، والحوكمة، والمواطنة، والقيادة، والأداء. ونتائج الدراسة الاستقصائية التي أجرتها هذه الشركة في إيطاليا في بداية أزمة "كوفيد-19" مذهلة.
محركات السمعة
فالسمعة هي أحد الأصول القليلة، إن لم تكن الأصل الوحيد الذي لم يتلاش نتيجة للأزمة. وهذا يسلط الضوء على أن ما فعلته الشركات في هذه الأشهر القليلة الأولى بعد بدء انتشار جائحة "كوفيد-19" كان متوافقاً مع توقعات المستهلكين، ويؤكد على ذلك. إذ تمحورت محركات السمعة في شهر يناير/كانون الثاني حول: 1) امتلاك سلعة أو خدمة عظيمة تلبي احتياجات المستهلك، وهي تمثل 21% من أسهم السمعة، و2) سلوك الشركة الأخلاقي والذي يتسم بالشفافية، و3) تطبيق إجراءات الدعم الاستباقي للمجتمعات المحلية واحترام البيئة. في شهر أبريل/نيسان، ونتيجة لأثر جائحة "كوفيد-19"، غيّر المستهلكون توقعاتهم من الشركات بدرجة كبيرة.
وبالنتيجة، تغيرت محركات السمعة بلمحة، لتشكل توجهاً لم تشهده شركة "ربتراك" من قبل قط. وحالياً، يدور أبرز محرك للثقة والتقدير حول سلوك الشركات في السوق. بعبارة أخرى، أصبح السلوك الأخلاقي المحرك الأول الآن. فقد تراجعت نسبة أسهم جودة المنتج من السمعة إلى 15% وأصبحت المحرك رقم اثنين، وفي المرتبة الثالثة نرى الأهمية المتنامية للقيادة. يتوقع المستهلكون الآن من قادة الشركات اتخاذ موقف حيال التحديات الجديدة والمشكلات التي تؤثر في الاقتصاد وحياة المستهلكين.
واليوم، 57% من أسهم سمعة الشركة تعتمد على الجوانب الشخصية وسلوك الشركة والقيادة والسياسات الجديدة المتعلقة بالقوة العاملة والدور الاجتماعي الذي تمارسه المؤسسة في المجتمع المحلي. يبدو أن عصر السمعة القائمة على الأرباح والمنتجات فقط بدأ يتلاشى بسرعة الآن. والسبب الذي أدى إلى احتفاظ الشركات بقيمة سمعتها كما هي، هو أنه على مدى الأيام الستين الماضية، منحت معظم هذه الشركات الأولوية للاستثمار في مساعدة احتياجات بلادها ودعمها، وخصوصاً فيما يتعلق بمتطلبات السلامة والصحة التي ظهرت نتيجة للجائحة. وقد ركزت الشركات على خمسة مبادرات أساسية:
1- ضمان سلامة الموظفين، ونقل معظمهم إلى نظام العمل من المنزل.
2- توصيل التبرعات من خلال المبادرات الخيرية بهدف دعم المستشفيات والإدارات المحلية.
3- الاستفادة من أعمالها الأساسية من أجل المساعدة في دعم أو تلبية الاحتياجات الطارئة.
4- تكييف أعمالها من أجل صنع المنتجات والخدمات التي يرتفع الطلب عليها (كأقنعة الوجه الواقية).
5- رفع مستوى سياساتها وأنظمتها المتعلقة بالإعانة الاجتماعية والموظفين.
يمثل تحويل تركيز الشركات وطريقة عملها في الأيام الستين الأخيرة تحديات استراتيجية، وخصوصاً فيما يتعلق بالعلاقة بين الشركات وموظفيها. قبل الأزمة، كان 5% فقط من الموظفين الإيطاليين يتمتعون بامتيازات العمل الذكية، في حين أنه في الأيام الستين الأخيرة، ارتفعت هذه النسبة عشرة أضعاف مع انتقال أكثر من نصف الموظفين إلى نظام العمل من المنزل. وهذا ما خلق عدداً من التحديات التي ستؤثر على قدرة الشركات على استعادة إنتاجيتها، وهو أمر ضروري جداً للخروج من الأزمة. أصبح أكثر من 70% من الموظفين:
1- يعانون من صعوبة في تحقيق التوازن بين الحياة الشخصية والمهنية.
2- يشعرون بالانعزال عن بقية الشركة.
3- أقل اتساقاً مع استراتيجية الشركة.
ما نراه ليس إلا غيضاً من فيض، إذ إن 90% من الموظفين يتوقعون إجراء تغييرات كبيرة في نماذج العمل في الفترة المقبلة، ما يمثل تحدياً للقيادة فيما يتعلق بإعادة تأطير العلاقة بين الشركات والموظفين. نحن في بداية عصر ستشهد فيه المكاتب تغييراً كبيراً. إذ سيصبح العمل في المكتب خمسة أيام في الأسبوع صورة من الماضي، وسيصبح لدينا مكاتب فردية، لكن مع تحول رقمي أكبر ونماذج عمل ونهج افتراضية أكثر.
الشركات التي ستتمكن من التكيف مع التغيير وتبنيه بسرعة، ستكون رابحة في اقتصاد السمعة بشكله الجديد، من خلال البدء بالثقافة الأخلاقية شديدة التركيز والقيادة القوية.
يبقى المستقبل مجهولاً، فليس لدينا تاريخ يحمل نماذج نعود إليها أو ممارسات نستلهم منها. القيادة العظيمة والإجراءات الحاسمة مطلوبة. لذا، أيتها الشركات، حان دورك لتصميم المستقبل. من سيربح الميزة التنافسية؟
ختاماً، القيادة الأخلاقية ليست أمراً "محبذاً" أو مسابقة جمال تهدف لعرض مقاطع فيديو أنيقة عن الشركات، وإنما هي أصل حقيقي يعزز سمعة الشركة ويوقع أثراً عميقاً على انطباعات المستهلكين والموظفين المحتملين عنها.
واتباع المعايير الأخلاقية ليس الأمر الذي يجب فعله فحسب، بل هو الأمر الوحيد الذي سيمكننا من المضي قدماً.