في ليلة رأس السنة عام 2000، كنت بجوار خوادم شركة حلواني إخوان، برفقة العضو المنتدب لدلة للاستثمار الصناعي آنذاك، عبد العزيز يماني، ومدير تقنية المعلومات. كانت لحظة اختبار حاسمة؛ هل سينجو نظام تخطيط المؤسسات، أو الإي آر بي، الذي قضينا 3 سنوات في تركيبه من خطأ الألفية، أو الواي تو كاي، كما كان متعارفاً عليه؟ بقينا حتى الفجر نجري التجارب، وتأكدنا من أن الإنتاج لن يتوقف.
لم تكن تلك أول مغامرة، فقد سبقتها تجربة مماثلة مع شركة زجاج بقيادة مديرها الشاب، عبد الرحمن بن زرعة. في تلك الأيام، كان الإي آر بي تقنية ناشئة، وعدت باستخدام نظام موحد يربط كل الأقسام بدلاً من الأنظمة العتيقة. شركة أوراكل العالمية التي تنشط في هذا المجال اليوم، لم تكن تقدم سوى نظام مالي، بينما شركة ساب، لم يكن لديها سوى عميل واحد كبير وهو أرامكو. أما أنا فمثلت نظاماً سويدياً يدعى أي أف أس، وكان مرناً ومتخصصاً، لكنه غير معروف محلياً. ومع ذلك، فقد نجح لأنه خاطب الحاجة الفعلية، لا لأنه الأشهر.
بداية تطبيق الذكاء الاصطناعي
مكنتني التجربة التراكمية على مدى 3 عقود من بلورة استراتيجية موحدة للتحول الرقمي، كانت أساساً لتطبيق فعال لنظام ذكاء اصطناعي داخل شركة مدرجة أخرى في السوق المالية خلال العام الحالي. فبعد البحث والتجريب في الذكاء الاصطناعي خلال العام الماضي، بدأ التطبيق الفعلي بعد أن أكملنا تدريب عدد من نماذج وكلاء الذكاء الاصطناعي المتخصصة وتطبيقها داخل الشركة مع نهاية الربع الثاني من عام 2025، وجهزنا عدداً كبيراً لمراحل لاحقة.
بدأ استخدامنا الفعلي للذكاء الاصطناعي بعد أشهر من الإعلان الكبير لصندوق الاستثمارات العامة عن شراكته مع جوجل كلاود لتأسيس أول مركز متقدم للذكاء الاصطناعي في المملكة. كان ذلك إشارة قوية إلى أن الذكاء الاصطناعي أصبح أولوية وطنية، وهو ما تأكد دون أدنى شك في مايو/أيار 2025، حين أطلق الصندوق مبادرة "هيوماين" لتكون الذراع الوطنية المتخصصة في تطوير البنية التحتية والنماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي.
لن أدعي أننا طبقنا النموذج الهيكلي الكامل الذي اقترحته ماكنزي، من إدارة تغيير، وبرامج تدريب وتوظيف، وتوحيد بيانات، فذلك يتطلب استثماراً ضخماً، لكننا طبقنا جوهر هذه المبادئ بطريقة مرنة واقتصادية. ومع ذلك، انطبقت علينا خصائص ماكنزي لما تسميه "المنظمات المحققة للقيمة"، وهي خريطة طريق واضحة، واستخدام متعدد الوظائف، وربط التنفيذ بمؤشرات حقيقية.
المشاريع تنجح بسبب الأشخاص
لقد ركزنا على ما أراه الأهم من الناحية غير التقنية. فالمشاريع تنجح بسبب الأشخاص وليس بسبب أنظمة صرفة، فمن دونهم، لن تنجح المشاريع، حتى لو نفذنا برامج هيكلية ضخمة مدعومة بجيوش من المستشارين. لقد كانت تجربتنا بإدخال الذكاء الاصطناعي في عمليات شركة كبرى تخضع لرقابة المساهمين وهيئة السوق المالية ولا تملك رفاهية التجربة. وهي لا تختلف عن مثيلاتها من مشاريع التحول الرقمي سوى في الواقعية؛ فنحن شركة مدرجة، تخضع لرقابة صارمة، وتعمل بحذر؛ لذا اخترنا التعزيز البسيط للقوة البشرية بدلاً من التغيير الهيكلي الكبير، ونجحنا.
الإقناع عملية "بيع" مزدوجة
فيما يلي 7 مبادئ تكونت لدي قناعة بها خلال العقود الثلاثة الماضية تساعد القادة على الإمساك بزمام التحول الرقمي نحو الذكاء الاصطناعي. تعتمد هذه المبادئ على الإقناع من الأعلى إلى الأسفل، وفي الوقت نفسه، من الأسفل إلى الأعلى في عملية "بيع" مزدوجة في الاتجاهين. ففي المشاريع كلها، كان الدعم من القيادة العليا هو الأساس، ودعم إدارة تقنية المعلومات على أهميته، غير كاف. وكثيراً ما يطغى على مدراء تقنية المعلومات الحماس نحو تطبيق أحدث الأنظمة، وفرضه بلغة تقنية مجردة تركز على "اللحاق بالركب" و"التوجه التقني العالمي" أو ما يحدث في وادي السيليكون، التي قد يراها البعض منفصلة عن واقعهم اليومي، وقد لا تكون مجدية اقتصادياً أو متوافقة مع أولويات الإدارة العليا.
1. اجتياز حواجز الخوف والمخاطر:
تهم أغلبية القيادات العليا إدارة المخاطر أو تخفيفها؛ لذا قد تصر على أنظمة تقليدية مجربة ومن شركات عريقة، أو تطلب آراء شركات استشارية عالمية تقنعها بها. يلي ذلك، أو حتى يسبقه، الجدوى الاقتصادية، إذ يجب أن يتناسب الاستثمار مع العائد المتوقع. وفي حالتنا، كان تحديد تلك الجدوى كمياً تحدياً، نظراً لحداثة الموضوع برمته.
لذا في تجربة الذكاء الاصطناعي هذه، احتجنا إلى شجاعة قيادية مماثلة لما حدث مع الشركتين المدرجتين المذكورتين أعلاه في التسعينيات. شجعت عوامل عدة مجلس إدارة الشركة على خوض التجربة، وإن كان بحذر، خاصة فيما يتعلق باتباع معايير الحوكمة وأمن المعلومات، منها انطلاقاً من طموحه العالي، ثم السرعة الكبيرة في تطور الذكاء الاصطناعي، والاندفاع العالمي، بنسبة تبن وصلت إلى 90% في أوائل عام 2024، بحسب ماكنزي، فضلاً عن استثمار صندوق الاستثمارات العامة في هذا القطاع.
2. اتباع معايير حوكمة صارمة:
نفذنا المشروع ضمن إطار حوكمة متوافق مع تعليمات هيئة السوق المالية، ووفق ضوابط صارمة لحماية البيانات وعدم المساس بأي معلومات حساسة من خلال وضع سياسة حوكمة يوافق عليها مجلس الإدارة، وتعالج كل مخاوفه. وعلى الرغم من أن إمكانية التسرب كانت منعدمة تقنياً بسبب طريقة تطبيقنا للذكاء الاصطناعي، فقد دفعتنا حداثة النظام والاختراقات السيبرانية المتعددة للأنظمة المختلفة حولنا إلى التشديد في تطبيق تلك السياسة.
3. إنشاء وحدة تطوير متخصصة:
بدعم من مجلس الإدارة، أنشأنا وحدة تطوير صغيرة مستقلة عن تقنية المعلومات، هدفها تبني حلول فعالة ذات جدوى اقتصادية، دون الانحياز للتقنية من أجل التقنية، واخترنا ما يخدم الغرض بأقل تكلفة.
أما بالنسبة للاتجاه الثاني، من الأسفل إلى الأعلى، فلطالما كان إقناع المستخدمين أصعب من إقناع الإدارات العليا، بصرف النظر عما تريده إدارة تقنية المعلومات. ففي كثير من الحالات، وحتى مع موافقة هاتين الجهتين، تصطدم بمقاومة التغيير ممن سيستخدمون الأنظمة يومياً.
4. "بيع"؛ أي إقناع الإدارة الوسطى والمستخدمين الفعليين بالمبادرة:
عندما تركز على مشاكل الموظفين الحقيقية، تستطيع الحصول على الخلطة الناجحة؛ لذا اخترنا المدراء والموظفين الذين يعانون مشاكل ملحة، وكان وعدنا بحلها كافياً لكسب تأييدهم. ومن الأسباب الفريدة الأخرى التي سهلت المهمة هو أن موجة الذكاء الاصطناعي أثارت اهتمامهم لأسباب شخصية أيضاً. فمن لا يرغب في إضافة "الذكاء الاصطناعي" إلى سيرته الشخصية، حتى وإن كان في طريقه إلى التقاعد، ولو من باب الشغف وركوب الموجة؟
5. إظهار إدارة مشروع قوية وشاملة:
دون إدارة واضحة، وأهداف محددة، ومسؤوليات دقيقة، لن يكتمل المشروع، أو على الأقل لن ينتهي في الوقت المحدد. في تجربتنا، ضمت إدارة المشروع رئيس وحدة التطوير، والخبير التقني، ومدراء الإدارات أنفسهم، وليس ممثليهم. وقد ساعدنا هذا على تجاوز البيروقراطية.
6. التطبيق التدريجي (وليس الانفجار الكبير):
لطالما تجنبت أسلوب الانفجار الكبير؛ أي تركيب النظام دفعة واحدة. قد يؤدي هذا الأسلوب إلى فشل شامل يسقط كل النجاحات الجزئية. إضافة إلى الضغط الكبير الذي يفرضه على الفرق، وهو ضغط غير ضروري. وفي تطبيقنا لمشروعنا، اعتمدنا الأسلوب التدريجي لتشجيع الآخرين من خلال النجاحات الصغيرة لزملائهم.
وهناك مبدأ سابع يقع في المنتصف بين الفريقين، وهو:
7. إشراك الجميع في النجاح:
من الخطأ تسويق التحول الرقمي على أنه نجاح قسم أو شخص. هو نجاح جماعي؛ فمن لم تكن لديه مشكلة ضمن الأولويات ولكن كان لديه شغف، سمحنا له بتتبع شغفه أيضاً.
وبعد اختيارنا لما يمكن أن ينجح واستبعادنا بعض المشكلات، خاصة المالية والكمية، انتهينا بتدريب وكلاء الذكاء الاصطناعي لدعم ما يلي:
- الاستحواذات: تسريع البحث والدراسة النافية للجهالة.
 - الإفصاحات: مراجعة الصياغة بلغة دقيقة وسلسة.
 - القانون: استحضار السوابق القانونية عند تحليل العقود.
 - الموارد البشرية: الرد التلقائي على استفسارات الموظفين.
 - الحوكمة: دعم قرارات القسم بمراجع الأنظمة المحلية.
 - التدريب: إنشاء فيديوهات تلقائياً بجهد داخلي من موظفين متحمسين.
 
الدروس المستفادة
انطلاقاً مما تقدم، بإمكاننا استخلاص 7 دروس، وهي:
- يمكننا مد جسر بين الشركات العريقة وروح الريادة والابتكار، ما دام هناك صوت قادر على مخاطبة مجالس الإدارة بلغة الحوكمة والمخاطر والعائد وربط القرار بالتوجه الوطني.
 - الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً من الموظفين، بل زميلاً ذكياً وسريعاً، ولكنه قد "يهلوس". وهنا تبرز أهمية ما يعرف بـ "ضريبة التحقق"؛ أي مراجعة عمل الذكاء الاصطناعي وعدم اعتماده عشوائياً.
 - لا تزال النماذج اللغوية الكبيرة، أو أل أل أم، ضعيفة في الحسابات والتحليل الكمي، ولا ترتقي إلى مرتبة المساعد المالي.
 - لا يبدأ التحول بالتقنية، بل بالمشكلة. والأقسام التي شعرت بأن النظام حل مشكلة حقيقية كانت الأسرع تبنياً للتقنية.
 - البحث المستمر ضرورة. ما لم يكن ممكناً بالأمس، قد يصبح ممكناً اليوم.
 - على الرغم من أن الدراسات أشارت إلى أن نسبة الدمج العميق لم تتجاوز 35%، فإن تجربتنا، على الرغم من بساطتها، حققت أثراً أكبر، ومن دون إنفاق الـ 5% من ميزانية تقنية المعلومات، وهو المعدل الذي أوردته ماكنزي باعتباره تقديراً متوسطاً للإنفاق في الخليج.
 - من حيث العائد، وفر النظام ما يعادل تكلفة 5 موظفين، بتكلفة سنوية أقل من راتب موظف واحد، ما يجعل العائد ملموساً.
 
ما ميز التجربة الناجحة لم يكن التقنية، بل الطريقة والأشخاص؛ فنحن لم نفرض التحول من الأعلى، ولم ننتظره من الأسفل، بل بنيناه من الجهتين معاً. كان علينا إقناع الإدارات المختلفة، وكسب ثقة الموظفين بحل مشكلاتهم. وحتى حين كانت الدراسات العالمية تشير إلى أن نسبة التطبيق الفعلي لا تتجاوز 35%، فإن هذه المنهجية كانت قادرة على تحقيق أفضل من ذلك.
تطبيق الذكاء الاصطناعي لا يحتاج إلى سائق مغامر، بل إلى قبطان حكيم. والتحول ليس مغامرة على دراجة نارية، بل مثل رحلة بحرية محسوبة المخاطر، إذا أحسنا توزيع الأدوار، وفهمنا أن الناس هم المحرك الحقيقي لكل تقنية.