يتقلّد فريد* منصب المدير الإداري في إحدى شركات الخدمات المالية الكبيرة، ويتمتع بقدرة خارقة على إقناع حشد من الحضور يملؤون قاعة عن آخرها بوجهة نظره. لم يكن فريد يحدّث الحضور عن أشياء تروق لهم دائماً، لكنه كان بارعاً في الإقناع.
لم تكن هذه البراعة تُعزى إلى منصبه الوظيفي، فقد كان يمتلك قدرة هائلة على التأثير حتى في زملائه الذين يساوونه في التراتبية الهرمية. ولم تكن تُعزى إلى ضعفهم، فقد عمل مع أشخاص ذوي قدرات تنافسية عالية. ولم تكن حتى تُعزى إلى لهجته البريطانية الرائعة والمميزة، فقد كان يمتلك القدرة على إقناع زملائه البريطانيين على غرار ما يحدث مع أي شخص آخر، ولم يكن أيٌّ منهم يمتلك سجل إنجازات يضاهي سجله الحافل بالقدرة على الإقناع.
كان فريد يتمتع بميزة مختلفة، لم تتضح لي على الفور؛ لأنني كنت أنصت إلى ما يقوله فريد، في حين أن نقطة قوته كانت فيما لا يقوله.
كان فريد أكثر مَنْ يلوذ بالصمت كلما تجاذب أطراف الحديث مع الآخرين، وكان آخر مَنْ يتحدث في أغلب الأحيان.
أقول "أكثر مَنْ يلوذ بالصمت كلما تجاذب أطراف الحديث مع الآخرين"، لأن بعض الناس يظلون صامتين تماماً دون أن يقولوا أي شيء على الإطلاق، وهؤلاء الأشخاص غير مقنعين؛ فالكثيرون يفسّرون الصمت بالغياب، لكن فريداً لم يكن صامتاً بالمعنى السلبي أو بالمعنى الذي يمكن تفسيره بالغياب. في الواقع، كان ينشغل في أثناء صمته أكثر من الطرف الآخر في أثناء كلامه. كان يرهف السمع.
قد يبدو هذا منافياً للمنطق، لكن اتضح أن الاستماع أكثر إقناعاً من التحدُّث.
من السهل الوقوع في مزلق اعتياد الإقناع بالحجة والجدال، لكن الجدال لا يقنع الآخرين بتغيير آرائهم، وإذا كان له أثر من أي نوع، فهو أنه يجعل الآخرين أكثر عناداً. يستهين الإنسان على مرّ العصور بالصمت بوصفه مصدراً للقوة، لكن الصمت لا يتيح لنا سماع ما يُقال فحسب، بل ما لا يُقال أيضاً. وحينما نلوذ بالصمت، فقد يكون من السهل أن نصل إلى الحقيقة.
إذ يضمر المتكلمون في أغلب الأحيان تحت سطح ما يقولونه معاني ضمنية تفوق ما تبوح به كلماتهم، فربما كانوا يضمرون قضايا لا يرغبون في الكشف عنها، أو أجندات لا يريدون إطلاع الآخرين عليها، أو آراء مخالفة للرأي السائد لدرجة أنهم لا يجرؤون على التفوّه بها.
يمكننا سماع كل هذه الأشياء وأكثر، عندما نلتزم الصمت. يمكننا حينها أن نستشعر المعاني الضمنية التي تتخفّى وراء الضوضاء.
يمكنني تخمين ما يفعله فريد، لأنه عندما يقرّر التحدث، يستطيع استيضاح موقف الآخرين الذين يتحدثون إليه. وعندما يتحدث عمّا قالوه، ينظر إليهم نظرة تدلُّ على إقراره بما قالوه ويربطه بالنتيجة الأكبر التي كانوا يسعون إلى تحقيقها.
وإليك الجانب المثير للاهتمام: من الواضح أن فريداً قد أنصت إليهم جيداً؛ لذا لم يسع الآخرون إلى مجادلته، ولأنه أنصت إليهم جميعاً، كانت وجهة نظره تبدو بالغة الحكمة وتنال استحسان الجميع.
يرتبط هذا بشيء آخر واظب فريد على فعله باستمرار وجعله جديراً بالثقة وبارعاً في الإقناع؛ إذ كان على استعداد دائم للتعلم من رؤى الآخرين وأفكارهم، كما كان يعرّفهم عندما يغير وجهة نظره استناداً إلى رؤاهم وأفكارهم.
ولأن الكلمات تقف حجر عثرة في طريقك في أغلب الأحيان، فقد يساعدك الصمت على توطيد العلاقات. جرِّب الاستماع مرة واحدة فقط إلى محاورك، وستجد أنه يخفف من حدة المناقشات لديكما، ويجعلكما أكثر استعداداً ليس فقط لمواصلة الاستماع، بل لاستيعاب وجهتي نظركما أنتما الاثنان أيضاً.
إذا تعاملت مع هذا الصمت على أنه حيلة، أو وسيلة للتلاعب بآراء الآخرين، فسيأتي بنتائج عكسية. سيفتضح أمرك حتماً، وستفوح رائحة خيانتك التي ستبدو حينها طعنة نافذة في الظهر. إذا تم خداع الطرف الآخر للإيقاع به في علاقة زائفة، ثم اكتشف أنه كان ضحية جرى التلاعب بها، فقد لا يثق بك مرة أخرى أبداً.
عليك أن تستخدم الصمت القائم على الاحترام المتبادل.
ثمة الكثير من الأسباب الوجيهة التي تدعونا إلى الحرص على التزام الصمت الرصين، ومن العجيب أننا لا نُكثِر منه. ونحن لا نُكثِر من التزام الصمت لأنه يُشعرنا بالانزعاج، بل لأن ذلك يتطلب أن ننصت إلى رؤى وأفكار قد نختلف معها ونرهف السمع إلى أشخاص قد لا نحبهم.
لكن هذا ما تفرضه علينا متطلبات العمل الجماعي وتستوجب ضرورات قيادة الآخرين فعله، أن نرهف السمع إلى الآخرين ونراهم من كل الزوايا ونساعدهم على ربط رغباتهم ورؤاهم وأفكارهم واهتماماتهم بالنتيجة النهائية التي نريد جميعاً تحقيقها في نهاية المطاف.
ثمة شيء آخر نقدمه بوصفنا قادة بارعين في الإقناع عندما نلوذ بالصمت، وهو أننا نمنح الآخرين فرصة كافية للإدلاء بدلوهم. يقول الفيلسوف الصيني المعروف، لاو تسو: "أفضل قائد هو مَنْ لا يحس الآخرون بوجوده، وإذا أنجز عمله وتحقق هدفه، يقولون: لقد فعلنا ذلك بأنفسنا".
عندما يسهم الآخرون بأفكارهم الخاصة، فسيعملون حتماً بجد واجتهاد في سبيل تحقيقها، بخلاف ما سيحدث لو أنهم امتثلوا لأفكارنا بكل بساطة. ويشكّل الصمت، متبوعاً ببعض الكلمات المنتقاة بعناية فائقة، أفضل رهان في جعبتنا لتحقيق هذا المثل الأعلى في القيادة.
كيف نمارس هذا الصمت في الواقع العملي، إذاً؟ نعرف كلنا كيف نكون صامتين. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكننا مقاومة ضغط الكلام؟
قلّما تجد أحداً يستطيع مقاومته، لذا من النادر أن نجد لحظات يسودها الصمت التام في التجمعات البشرية، لكن يمكننا استغلال هذا لصالحنا، وفقاً لرأي فريد.
فقد قال لي: "عندما تطرح سؤالاً في مجموعة، انظر إلى الأمر باعتباره مسابقة. إذا أجبت عن سؤالك بنفسك، فقد خسرت. سوف تجيب عن أسئلتك طوال اليوم ولن يكلّف أي شخص آخر نفسه عناء أداء هذا العمل. لكن انتظر ملتزماً الصمت، مهما طال الوقت، حتى يتحدث أحد أفراد المجموعة. وسيواصلون بعد ذلك أداء العمل الضروري لقيادة أنفسهم".
ها هو سره: دع الآخرين يتكلموا ليكسروا حاجز الصمت وأرهف السمع للحقائق الكامنة وراء كلماتهم، ومن ثم عليك الإقرار بما سمعته (وهو أكثر مما قيل على الأرجح)، وبمجرد أن يشعر الآخرون بأنك قد أعرتهم انتباهك وأنصتَّ إلى آرائهم، اعرض وجهة نظرك.
ومتى يتفقون معك جميعاً؟ هذه هي قوة الصمت.
*غيرتُ اسم فريد الحقيقي لحماية خصوصيته.