قلق الأتمتة الذي نعيشه اليوم كان قائماً وبارزاً في عام 1960

6 دقائق
قلق الأتمتة عام 1960

برزت عمليات المعالجة الإلكترونية للبيانات المعروفة اختصاراً بـ "إي دي بي" (EDP) في أوساط الشركات الأميركية في سنوات الخمسينيات كوسيلة لأتمتة المهام البسيطة والمنتظمة التي تتطلب قدراً كبيراً من البيانات. لقد كانت سريعة (بالمقارنة مع السابق) ودقيقة وتحويلية. وتم تقبلها بخليط من المشاعر مثلها مثل أي تقنية حديثة تلج عالم الحياة المكتبية. فهل كان قلق الأتمتة في عام 1960 موجوداً أيضاً؟

هيمنة الروبوتات على وظائفنا

لقد لاحظت عالمة الاجتماع الشهيرة وناقدة تحليل النظم إيداروساكوف هوس في مقالها الصادر سنة 1960 بمجلة هارفارد بزنس ريفيو (تحت عنوان "عندما يستحوذ الكومبيوتر على المكتب") أن الحضور المفاجئ للمعالجة الإلكترونية للبيانات في أماكن العمل أثار ردود أفعال متناقضة كانت "في الغالب راغبة فيها وأحياناً متحيزة ضدها". من ناحية "كان يُنظر إلى الآلة على أنها سيدة الإنسان ما لم تتدخل قبضة الحكومة الصارمة أو ثورة عمالية" (يتعلق الأمر بسنوات الخمسينيات عموماً)، ومن ناحية أخرى كان هناك أولئك الذين يعتقدون أن "الابتكارات هي ببساطة مجرد مرحلة من مراحل التقدم التقني الذي بدأ باختراع العجلة".

وباستثناء وجود الفكر الماركسي الذي ميز تلك الحقبة، فإنني لا أحتاج إلى إثارة انتباهكم إلى التشابهات مع المرحلة التي نعيشها اليوم. لقد بدأت الروبوتات بالفعل بالهيمنة على وظائفنا- باستثناء إن كنت مبرمِجاً تستطيع في هذه الحالة أن تعمل مقابل 1,000 دولار في الساعة على متن سفينة وهذا قد يعني أن كل شيء سيكون على ما يرام ما لم تتخذ الأمور منحى مريعاً.

لكن وراء الخوف والإثارة والاقتصاد الشامل يختبئ كل أولئك الناس والأماكن الذين يتأثرون بعمق بالتقنيات الجديدة والمختلفة يوماً بعد يوم. وهنا ركزت هوس أبحاثها، وجاءت ملاحظاتها ثاقبة بشكل لافت.

لقد درست هوس على مدى سنتين 19 مؤسسة موجودة بمنطقة خليج سان فرانسيسكو انطلاقاً من نوعية المجال الذي تختص فيه وكذا بناء على حجمها ابتداء من عام 1957. كانت كل هذه المؤسسات قد أدمجت حديثاً المعالجة الإلكترونية للبيانات في عملها اليومي. وركزت هوس على "البنية المتغيرة للمؤسسات، وتحويل خطوط السلطة والاتصالات، والآثار المترتبة على عمليات صناعة القرار، وعلى مسائل إدارية وصناعية أخرى متنوعة". لقد سعت هوس في النهاية إلى "تعزيز فهم جيد للآثار الحقيقية للأتمتة على العمل المكتبي".

المعالجة الإلكترونية للبيانات

إن أوضح ما اكتشفته هوس هو أن التغييرات الاستراتيجية على نطاق واسع لا تغير فقط طبيعة العمل، وإنما تغير أيضاً شعور الناس تجاه عملهم، وطريقة تفاعلهم مع الزملاء والزبائن. ولا تُبرز هذه التغييرات بالضبط أفضل ما لدى الناس، لأسباب منطقية.

فقد بدا بشكل عام أن المعالجة الإلكترونية للبيانات قلبت التوجه الذي ساد حينها نحو تكوين شركات أو مكاتب لامركزية. وقبل ذلك كان النمو يُقرن "بقدر معين من التوزيع للوظائف والسلطة". لكن هذه البيانات أصبحت تعالج بسرعة ويحتفظ بنسخ منها على الصعيد المركزي، ما قلل من الحاجة إلى الوثائق الورقية في الفروع الإدارية. وكنتيجة لذلك كان العمال يُنقلون أو تخفض درجاتهم الوظيفية في الغالب، أو يطردون في النهاية.

وقد زعزع هذا التعزيز للسلطة المركزية الحدود العليا للهرم الوظيفي. وكتبت هوس في بحثها معلقة على ذلك "إن المدراء التنفيذيين للمعالجة الإلكترونية للبيانات يظهرون ميولاً قوية للتقدم نحو بناء امبراطورية" بتقويض الإدارات الأخرى واتخاذ القرارات المستقلة. كما أن نواب الرؤساء الأكبر سناً كانوا يتفادون الظهور بمظهر "الحرس القديم" أو "أعداء التقدم" ولهذا نادراً ما عبروا عن اعتراضهم على إدماج المعالجة الإلكترونية. وبالكاد كان هذا الأمر يثير اهتمام "نواب الرؤساء الذين وجدوا وظائفهم الرسمية تتقلص، ولم يعد أمامهم إلا القليل من المسؤوليات".

كما لم تنج الإدارات الوسطى بدورها من المشاكل. فالوظائف التي كانت تُستعمل كأرضية تدريب لإعداد الجيل القادم من القادة تحولت بإدخال المعالجة الإلكترونية للبيانات. ووجد المهنيون المتحمسون أنفسهم يتحققون من البيانات بحثاً عن الأخطاء قبل أن تتم معالجتها، بدلاً من أخذ زمام المبادرة أو إصدار أحكام دقيقة. وذكرت هوس بهذا الخصوص أن "عملاً مثل هذا لا يعتبر تحدياً ولا مكافأة، ولا يتضمن حتى تلك المكانة التي يجب أن تكافئ الشباب الطموح في ارتقائهم التصاعدي". وبناء على ذلك تم التخلي عن نخبة الكفاءات بدلاً من المخاطرة بتعطيل مسارهم المهني.

في أسفل الهرم كان الاختيار غالباً يقوم على استبدال الموظف بالحاسوب أو جعل الموظف في خدمته. في إحدى الشركات التي توظف أكثر من 3,000 عامل مكتبي، خلّف إدخال المعالجة الإلكترونية للبيانات من أجل استبدال وظيفتين في المحاسبة 286 شخصاً من دون عمل، بينما تأثر 982 شخصاً آخر بمرور الأيام.

وقدّرت هوس أن المعالجة الإلكترونية للبيانات خلقت عموماً وظيفة واحدة مقابل كل 5 وظائف مكتبية تم الاستغناء عنها. وأشارت إلى أن الكتابة على الآلة الكاتبة -وهي إحدى المجالات الرئيسية في نمو فرص العمل- بات يُنظر إليها "عالمياً على أنها مهنة مسدودة الآفاق ولا تتميز بأي فرص ارتقاء وظيفي". وقد وجد أغلب موظفي الآلة الكاتبة الذين استجوبتهم هوس عملهم المكتبي السابق أكثر إثارة للاهتمام لأنهم كانوا منشغلين طوال الوقت وفي تفاعل مع زملائهم وزبائنهم. وأصبحوا الآن يشتكون من اعتبارهم "مقيدين بالآلة".

هذه بعض التفاصيل. عندما تلقي نظرة على ما فات ستجد أن أكثر ما يثير الانتباه هو أن الناس في كل مراحل مسارهم المهني لاحظوا أن سبب وجودهم اختفى مع إدخال الحاسوب. لقد لاحظت هوس أن العامل الذي يتدرب على إنجاز وظيفة واحدة طوال مساره المهني ثم فجأة تأخذها منه آلة تصبح كفاءاته القليلة المطلوبة في سوق العمل محل نظر. ويعتبر الموظفون المسنون من غير المشرفين أكثر عرضة لهذا الأمر من غيرهم. ولهذا تحسرت هوس قائلة: "في كل الحالات التي درستها لم يكتسب العمال سوى كفاءات قليلة مطلوبة في السوق طوال سنوات عملهم". "ويرتبط الجزء الأكبر من المعرفة مباشرة بممارسات شركة بعينها، وليست لها قيمة كبيرة في شركة أخرى. ولهذا يجد هؤلاء العمال من متوسطي العمر أن تجربتهم لا فائدة منها". كما تضرر الموظفون المشرفون أيضاً بشكل كبير نظراً لأنهم خسروا العمال - وخسروا المهام التي كان هؤلاء يقومون بها- بعد تكليف إدارتهم لهم بها.

ولحق القلق والخوف وظائف أخرى أيضاً. وفي غياب العلاج لهذا الخوف، أصبحت آليات التأقلم التزامات مؤسساتية. فاتهم الموظفون المسؤولين عن تسيير آلة الجدولة (وهي إحدى الوظائف التي تم استبدالها بكثرة بالمعالجة الإلكترونية للبيانات) بإحدى الشركات بانتهاج "تكتيكات معيقة" مثل عدم احترام المواعيد النهائية والسماح بوقوع الأخطاء ورفض أداء بعض المهام بدعوى "أنها لا يمكن أن تنفذ بالطريقة المطلوبة". وفي شركة أخرى تناسلت الإشاعات بين الموظفين، وأصبح رؤساء الأقسام في وضعية دفاع دائمة، ونتيجة لذلك تراجعت كفاءة العمل. وذكر أحد المشرفين أنه كذب على مدراء منطقة أخرى سألوا عن مدى احتمال تأثير إدماج المعالجة الإلكترونية للبيانات على أقسامهم. وصرح هذا المشرف بأنه "لم يكن يجرؤ على قول الحقيقة خوفاً من انعكاسات محتملة عليه".

وعلى الرغم من كل هذا الاستياء فقد أشارت هوس إلى أن نخبة مدراء المعالجة الإلكترونية للبيانات لم يعترفوا بالأجواء القاسية داخل شركاتهم. وأكد أحدهم "بكل صدق أن الموظفين أحبوا هذه التغييرات". وزعم إضافة إلى ذلك أن هؤلاء الموظفين كانوا "سعداء بتحدي الأتمتة".

ولاحظت هوس أن "الفشل في الاعتراف بوجهة نظر الموظف ينطبق على جل المسؤولين التنفيذيين للمعالجة الإلكترونية في الشركات التي درسَتها". "وكشفت ردودهم على الأسئلة حول مشاكل الموارد البشرية عموماً قدراً كبيراً من التضارب. فعادة ما كانوا يحاولون تأكيد الافتراض الواهي والمتناقض الذي يفيد أن المعالجة الإلكترونية تؤثر على الأنظمة وليس على الوظائف".

وفي كثير من الحالات تجلت هذه التناقضات في الواقع من خلال الاعتقاد الذي يعتبر أن "ما لا يعرفه الناس لن يضرهم"، وهو الأمر الذي ضرهم فعلاً. في إحدى الشركات على سبيل المثال تم تحويل الموظفين الذين استبدلت مهامهم بالمعالجة الإلكترونية للبيانات نحو وظائف من درجة أدنى مع الحفاظ على رواتبهم العليا، ما أثار غيرة أولئك الموظفين الذين كانوا يعملون سلفاً في هذه الوظائف الدنيا ويتلقون رواتب أقل مقابل العمل نفسه.

بعبارة أخرى لم تأخذ الشركات بعين الاعتبار ارتباط الناس ببعضهم البعض في أماكن العمل، حيث يجب عليهم أيضاً الارتباط بالآلات. كما أن فكرة تحدث الإدارة بانفتاح مع أولئك الذين تعتبر وظائفهم أكثر عرضة للإلغاء تم تنفيذها "مثل من يطلب من سجناء محكومين بالإعدام أن يوقعوا أمر تنفيذه عليهم".

ماذا يمكننا أن نتعلم اليوم من هذا؟

هناك الكثير من الحديث في وسائل الإعلام حول الروبوتات التي تتنافس على وظائفنا، لكن من المهم أن تحظى حقائق التقدم التكنولوجي البشري بالنقاش داخل المؤسسات أيضاً.

فهناك أماكن يمكن أن يبدأ فيها المسؤولون التنفيذيون والمدراء هذا النقاش حتى وإن كانت الأبحاث لا تزال نسبياً في مراحلها الأولى. ويمكن أن يشمل النقاش على سبيل المثال أسئلة من قبيل: كيف يمكن أن يتغير سلوك الموظفين عندمايعمل الناس جنباً إلى جنب مع الآلات ؟ هل تعتبرنوعية المهام التي يتم استبدالها مسألة مهمة؟ هل تستطيعإقناع الموظفين المتشككينأن التقنيات الحديثة التي سيتم إدخالها جديرة بتبنيها بدلاً من الخوف منها؟ وهل يمكن في المستقبل أن يعمل الإنسان والكومبيوتر معاً بفعالية أكبر؟

وفي نهاية الحديث عن قلق الأتمتة في عام 1960، على العموم فإن موقف إيدا هوس واضح إذ لا تقصد أن تلصق التهمة بالكمبيوتر: "فلا حاجة إلى تخريب أية آلة، كما كان يحدث في القرن السابع عشر عندما كان العمال يقحمون أدوات عملهم داخل الآلات لتخريبها عمداً (وهو ما أدى إلى ظهور مصطلح "التخريب" sabotage). لكنها تشدد على أننا نحتاج إلى رؤية أكثر توازناً في موضوع إدخال التكنولوجيا من أجل تطبيق "الفكر والفعل على المشكلات التي تواجهها الإدارة والعمل وعموم الناس". وكأني بإيدا هوس تردد قائلة: أدرسوا ثم ادرسوا ثم ادرسوا هذا الأمر. افهموه ليس فقط من منظور الاقتصاد الشامل أو من منظور مجرد أو قصير الأمد، بل اعرفوا ما يعنيه بالنسبة للأفراد الذين يشعرون بالإثارة والقلق والخوف. ونحن لا نزال بكل تأكيد في غمرة هذه الأمور كلها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي