تقرير خاص

كيف تصنع المؤسسات قادة القرن الحادي والعشرين؟

13 دقيقة
قادة القرن الحادي والعشرين

ملخص: في ظل ما يشهده العالم من تحولات متسارعة وتحديات متزايدة، بات من الضروري أن يكرّس الرؤساء التنفيذيون وفرقهم جهودهم لبناء قادة الغد، فلا يكونوا مؤهلين لأداء المهام وحسب؛ بل يجب أن يمتلكوا قدرات استثنائية تمكّنهم من التكيّف، واتخاذ قرارات واثقة، والنجاح وسط التقلبات. ومن هذا المنطلق، نقدّم في السطور التالية دليلاً عمليًا يوضح كيف يمكن للمؤسسات تطوير قيادات قادرة على قيادة التغيير.

  • تجد إحدى شركات الأزياء الكُبرى نفسها في موقف صعب، إذ من المحتمل أن تُفرض رسوم جمركية مرتفعة تصل إلى 90% على جزء كبير من سلسلة التوريد الخاصة بها. ويرجع هذا التهديد إلى التقلبات الجيوسياسية المستمرة، حيث إن أي تغيّر في الأوضاع السياسية أو التجارية بين الدول قد يؤدي إلى فرض هذه الرسوم في أي لحظة.
  • تواجه شركة عالمية رائدة في تصنيع المعدات الصناعية أزمة تتطلب تحركًا عاجلًا، إذ أصبحت مضطرة لإعادة تصميم أحد منتجاتها الأساسية بعد أن بدأت أعطاله تتكرر بوتيرة مزعجة. ويرتبط هذا الخلل بزيادة حدة وتكرار الظواهر الجوية القاسية، مثل العواصف والفيضانات، الناتجة عن التغير المناخي.
  • أما إحدى شركات السلع الاستهلاكية فتجد نفسها أمام تحدٍّ استراتيجي جديد، يتمثل في الحاجة إلى تحسين عمليات الترميز وتسويق المنتجات. والسبب في ذلك لا يقتصر فقط على أن أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي أصبحت قادرة على أتمتة هذه المهام بكفاءة، بل لأن المنافسين بدأوا بالفعل في اعتماد هذه التقنيات وتحقيق نتائج ملموسة من ورائها.

أصبحت مهمة القيادة اليوم أكثر صعوبة من أي وقت مضى. فالرؤساء التنفيذيون وفِرقهم يواجهون باستمرار كماً هائلاً من المعلومات المتجددة حول مسائل مثل الرسوم الجمركية، والتوترات الجيوسياسية، والاضطرابات الاجتماعية، إلى جانب التطور السريع في تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتغيرات التركيبة السكانية، وتوقّعات الموظفين، إضافة إلى التحديات البيئية وتأثيرها على الأعمال. وفي ظل هذا الواقع المعقد، يُطلب من القادة اتخاذ قرارات حاسمة بسرعة ودقة، حتى في حال نقص بعض المعطيات، وكل ذلك تحت أنظار المستثمرين والشركاء ووسائل الإعلام التي تتابع كل خطوة على مدار الساعة.

ومع كل هذه التحديات المتراكبة، يدرك القادة الأكثر كفاءة أن كل عقبة قد تحمل في طياتها فرصة ثمينة، شرط أن يواجه الاضطراب بذهن صاف، ورؤية واضحة، وثقة في اتخاذ القرار، إلى جانب التركيز على تلبية احتياجات الحاضر دون إغفال ما يتطلبه المستقبل. فليس النجاح في القيادة اليوم مرتبطاً فقط بحل المشكلات الآنية، بل بقدرة القائد على اكتشاف الفرص وسط التقلبات، والاستعداد لتحويل الأزمات إلى نقاط انطلاق نحو تطور حقيقي ومستدام.

لقد أصبح من المهم - في وسط عالم يموج بالتحولات السريعة والضبابية- أن يتوقف الرؤساء التنفيذيون قليلاً للتفكير في المهارات والصفات القيادية التي ستضمن لهم ولغيرهم النجاح في المستقبل. فالتحديات المتلاحقة لا تتطلب فقط قرارات سريعة، بل تستدعي بناء قيادة قادرة على التكيف والتأثير على المدى البعيد. وبالاعتماد على أبحاث ماكنزي حول فن القيادة في القرن الحادي والعشرين، إلى جانب حواراتها المستمرة مع قادة الشركات، تبرز 6 صفات أساسية تعد ضرورية لأي قائد ناجح في هذا العصر. تشمل هذه الصفات: نشر الطاقة الإيجابية والحفاظ على التوازن الشخصي والقدرة على إلهام الآخرين؛ وقيادة قائمة على خدمة الفريق وتغليب المصلحة العامة على الشخصية؛ والتواضع والانفتاح على التعلم المستمر؛ والتحلي بالصبر والقدرة على الصمود في وجه الأزمات؛ والحفاظ على روح مرحة تخفف التوتر وتبث الثقة في الفريق؛ وأخيراً، الشعور العميق بالمسؤولية تجاه المؤسسة والمجتمع دراسة ماكنزي بعنوان "فن القيادة في القرن الحادي والعشرين: من التخطيط للتعاقب الوظيفي إلى بناء منظومة لصناعة القيادات" من إعداد كل من بوب ستيرنفيلز، دانيال باكتود، كيرت ستروفينك، وايمن هوارد، نُشرت بتاريخ 22 أكتوبر/تشرين الأول 2024. وهو ما يصنع فرقاً حقيقياً في أسلوب القيادة وأثرها.

ورغم أن بعض القادة قد وُلدوا وهم يتحلّون بصفات قيادية، أو اكتسبوها خلال مسيرتهم، إلا أن الحفاظ على هذه الصفات وتطويرها باستمرار هو ما يميز القادة الناجحين في عالم سريع التغير. غير أن هذا التطوير لا ينبغي أن يُترك للمصادفة؛ إذ إن كثيراً من المؤسسات تكتفي بالحديث عن مسارات الترقّي والتخطيط للقيادات المستقبلية، دون أن تبذل جهداً حقيقياً لتأهيل الجيل التالي من القادة. في المقابل، يحرص الرؤساء التنفيذيون في بعض الشركات الأكثر أداءً على بناء "مصنع للقيادة"، يركز على تطوير قادة الغد ابتداء من اليوم. في هذا المقال، نستعرض كيف يحققون ذلك، وما الذي يمكن للرؤساء التنفيذيين الآخرين تعلمه وتطبيقه من هذه التجارب الرائدة.

أهم ما خلصت إليه أبحاثنا ولقاءاتنا مع التنفيذيين هو أن تطوير القيادات لا يمكن أن يتم بفعالية دون انخراط مباشر وشخصي من الرئيس التنفيذي نفسه. فحضوره الفعلي في هذه العملية لا يعد أمراً اختيارياً فحسب، بل هو حجر الأساس لبناء ثقافة قيادية قوية ومستدامة داخل المؤسسة.

إنشاء منظومة متكاملة لصناعة القادة يقودها الرئيس التنفيذي، وبوتيرة وسعة تنفيذ تضاهي النظم الصناعية

يتطلب بناء منظومة فعالة لتأهيل القادة المستقبليين اتباع نهج منظم يركز على اكتشاف المواهب الواعدة وتطويرها وتمكينها. ورغم أن هذا العمل يعد جهداً جماعياً بطبيعته، إلا أن نتائجه تكون أكثر تأثيراً واستمرارية عندما يشارك الرئيس التنفيذي بنفسه بشكل مباشر، بالتعاون مع فريقه القيادي، في قيادة هذا المسار. فكلما كانت مشاركته فعلية وملموسة، زادت فرص ظهور قيادات جديدة، وازدادت فاعلية البرامج التطويرية داخل المؤسسة.

بدايةً، يتعين على الرؤساء التنفيذيين وفِرقهم التركيز على مجموعة من الخطوات الأساسية لبناء منظومة فعالة لتأهيل القادة المستقبليين. ويجب دعم هذه الخطوات بالتقنيات المناسبة، إلى جانب مؤشرات أداء دقيقة تساعد في قياس مدى تأثير جهود التطوير، والتأكد من أنها تسير في الاتجاه الصحيح وتحقق النتائج المرجوة.

تول زمام المبادرة وحدد بوضوح السمات والقدرات التي ترغب في أن يتمتع بها قادة المستقبل داخل مؤسستك.

على الرؤساء التنفيذيين وفرقهم القيادية أن يطرحوا سؤالاً محورياً ألا وهو: "ما هي الصفات التي نريد أن نتميز بها كقادة؟ وما نوع القادة الذين نرغب في تطويرهم داخل مؤسستنا؟" تختلف الإجابة بطبيعة الحال من شركة إلى أخرى. فمثلاً، طلب الرئيس التنفيذي لإحدى شركات التكنولوجيا من فريقه القيادي التفكير في الصفات الأساسية اللازمة لتجاوز التحديات الاقتصادية والمنافسة الشديدة التي تمر بها الشركة. وقد أجمع الفريق على أن المرونة والتفاؤل هما من السمات الحاسمة في المرحلة الحالية. لذلك، تبنت الشركة ثقافة تعامل تجارب الفشل كفرص للتعلم، بدلاً من اعتبارها إخفاقات ينتهي عندها المطاف. ومن أجل تعزيز الثقة وبث روح التفاؤل، نظمت الشركة فعاليات لبناء فرق العمل، وأوجدت مساحات مخصصة للتواصل غير الرسمي، بهدف تقوية العلاقة بين القادة وفرقهم على مستوى إنساني وشخصي.

إشراك المواهب الواعدة والعقول المبدعة ودفعهم بسرعة إلى ساحة العمل.

إن تحديد السمات القيادية المطلوبة خطوة أساسية، لكن إشراك أصحاب الكفاءات العالية والعقول المبدعة غير التقليدية منذ وقت مبكر ضرورة لا تقل عنها أهمية. فغالباً ما تظهر الأفكار الأكثر ابتكاراً من أطراف المؤسسة، وليس من مراكز صنع القرار. ولهذا، يحتاج القادة إلى تجاوز الهياكل الإدارية التقليدية والتواصل المباشر مع هذه الفئة. ومن الأمثلة الملهمة على ذلك ما فعله ستيف جوبز في شركة آبل، حيث جمع أكثر 100 شخص موثراً في الشركة، بمن فيهم مهندسون شباب، للمشاركة في مناقشات استراتيجية بغض النظر عن مناصبهم أو أقدميتهم. لخص ستيف جوبز الاستراتيجية الكاملة لشركة آبل في ست نقاط فقط: كل نقطة منها تحمل درساً مذهلاً، حسب ما نشرته مجلة "Inc" في 25 أغسطس/آب 2021. وعلى النهج ذاته، يحرص الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا جنسن هوانغ، على عقد اجتماعات تضم موظفين من مختلف المستويات، مؤكداً: "لا نعقد اجتماعات مقتصرة على نواب الرئيس أو المدراء فقط، بل تشمل موظفين من جميع الأقسام، حتى من بين الخريجين الجُدد". موضوع بيتر يانغ عن "15 مبدأً مستفاداً في الحياة والعمل من جينسن هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة نفيديا"، نُشِر في بودكاست "Behind the Craft" بتاريخ 26 يونيو/حزيران 2024.

ينبغي على الرؤساء التنفيذيين وفِرقهم تقييم أصحاب الأداء العالي والمواهب الواعدة باستمرار، مع التركيز على قدرتهم على التعلم، وإمكاناتهم الجوهرية، والمهارات التي يمكن توظيفها في سياقات مختلفة. ومن المهم توجيه هؤلاء الأفراد نحو الفرص التي تتيح لهم اكتساب الخبرات التي يحتاجونها بسرعة، حتى يتمكنوا من النمو والتأثير بفعالية داخل المؤسسة.

تعد الترقية الميدانية (أي تكليف الأفراد بأدوار قيادية حساسة بناءً على ما يمتلكونه من قدرات واعدة وإمكانات للنمو) من الوسائل الفعالة لتسريع تطوير القادة المستقبليين. ورغم أن هذه المهام قد تبدو مرهقة وتتجاوز الخبرات السابقة للمرشحين، فإنها غالباً ما تكون ضرورية. وهنا يأتي دور فرق القيادة في التفكير بمرونة، وربما إعادة تشكيل الهيكل التنظيمي لإتاحة الفرص أمام الكفاءات العالية. والمفارقة أن من خاضوا تجارب فشل صعبة في الماضي هم أكثر جاهزية اليوم، لأنهم أثبتوا قدرتهم على التحمل، والتعلم من الفشل، والتحوّل إلى قادة أقوى وأكثر نضجاً.

وبالفعل، تثبت التجارب أن أصحاب الفكر المختلف، حين يتم تشجيعهم على المحاولة مراراً دون الخوف من الفشل، يمكن أن يصبحوا من أبرز صانعي القيمة في المؤسسات. خذ مثلًا المسارات المبكرة لكل من ستيف جوبز وبيل غيتس؛ فقد شكّل مشروع جهاز حاسوب "ليزا" الذي طوره جوبز، ونظام "Traf-O-Data" البدائي لقياس حركة المرور الذي طوره غيتس، تجارب أولية لم تحقق نجاحًا كبيرًا في وقتها، لكنها كانت بمثابة أرض خصبة لصقل المهارات وبناء الرؤية. وبمرور الوقت، أصبحت هذه التجارب هي النواة التي انطلقت منها أعظم ابتكاراتهم فيما بعد. ومن هنا، يتضح أن الفشل في المراحل الأولى ليس عائقاً، بل يمكن أن يكون خطوة ضرورية في طريق النجاح إذا ما حظي أصحاب هذه المبادرات بالدعم والفرصة لتكرار المحاولة. مقال شون بيك بعنوان "الناجحون لا يستسلمون: 9 من رواد الأعمال الذين واجهوا الفشل في بداياتهم وحققوا النجاح لاحقاً"، نشر على موقع "Business.com"، بتاريخ 25 أبريل/نيسان 2025.

الترويج لأساليب جديدة في التعامل مع المخاطر والتعلّم.

ولتنمية القادة داخل المؤسسات، لا يكفي الاكتفاء بالنوايا الحسنة أو انتظار المبادرات الفردية؛ فبناء ثقافة تقوم على التجربة والتعلم يحتاج إلى جهد واع واستمرارية. فقد أوضح الجنرال جيم ماتيس في كتابه "نداء الفوضى" صدر كتاب "نداء الفوضى: تعلّم القيادة" في عام 2019 عن دار النشر الأميركية "راندوم هاوس"، وشارك في تأليفه كل من الجنرال جيم ماتيس والكاتب بنغ ويست، حيث يناقش الكتاب تطوّر مفاهيم القيادة انطلاقاً من التجربة الشخصية للكاتبَين في البيئات العسكرية والسياسية. الصادر عام 2019، أن غرس روح المبادرة والجرأة والاستعداد لتحمل المخاطر لا يحدث من تلقاء نفسه، بل يتطلب سنوات من التهيئة والرعاية داخل المؤسسة، ويجب أن يغرس هذا النهج بوضوح في الثقافة التنظيمية، ويكافأ من يتحلى به. ومن المهم هنا إدراك أن معاقبة من يجرب أو يخفق ستؤدي في النهاية إلى بيئة تخلو من روح المخاطرة، يحتلّها فقط من يفضلون اللعب الآمن، وهو ما قد يعيق الابتكار ويقتل فرص النمو الحقيقي.

الثقافة القائمة على التجربة والتعلّم هي عنصراً أساسياً في تطوير القيادات، لكنها لا تنشأ من تلقاء نفسها، بل تتطلب سعياً واعياً وجهوداً.

ومن أجل تحفيز الأفراد والفرق على الابتكار والتطور، لا بد من غرس ثقافة تعتمد على "الفشل السريع والتعلم الأسرع". هذه الثقافة تشجع على التجربة دون خوف من الخطأ، بشرط الاستفادة من كل تجربة مهما كانت نتائجها. فمثلاً، تعتمد قوات النخبة في البحرية الأميركية منذ سنوات على ما يعرف باجتماعات "التقييم الفوري"، والتي تعقد مباشرة بعد أي مهمة أو تدريب. في هذه الاجتماعات، يتم تحليل ما حدث بدقة، والاعتراف بالأخطاء، والاحتفاء بالمحاولات الجريئة حتى لو لم تنجح، بهدف استخلاص الدروس وتحسين الأداء مستقبلاً. هذا النموذج انتقل تدريجياً إلى مؤسسات أخرى، مثل المستشفيات والمرافق الطبية الأخرى وشركات التكنولوجيا، حيث أصبحت مراجعة التجارب والتعلم السريع منها جزءاً من أسلوب العمل. ولفتح المجال أمام مشاركة المعرفة بشكل أكثر مرونة، أطلقت شركة بروكتر آند غامبل منصة داخلية بعنوان "من يتعلم أسرع يفوز"، وهي سلسلة مقابلات قصيرة مع خبراء، لا تتجاوز كل واحدة (منها خمس دقائق أو أقل)، وهي تتيح للموظفين اكتساب الأفكار الجديدة في أي وقت ومن أي مكان، بطريقة خفيفة وسهلة. "بناء ثقافة من يتعلم أسرع يفوز"، موضوع تم نشره في ماكنزي، بتاريخ 18 فبراير/شباط 2020.

تعد ثقافة التركيز على العميل حجر الأساس في نجاح شركات مثل أمازون وآبل، إذ تعتمد هذه المؤسسات على آليات تواصل مستمرة مع العملاء تمكنها من التعلم المتواصل وتحسين منتجاتها وخدماتها باستمرار. ويعبر الرئيس التنفيذي لأمازون، آندي جاسي، عن هذا النهج بقوله "إن الكثير من الابتكارات التي نطلقها تنبع من الإصغاء العميق لتحديات العملاء، حتى لو لم يقدموا حلولاً واضحة. ومن هنا، نبدأ في طرح تساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء تلك المعوقات، ومن ثم يعمل على تصميم حلول مبتكرة تلبي احتياجات العملاء وتتجاوز توقعاتهم. سلسلة بودكاست الأفكار الصادرة عن مجلة هارفارد بزنس ريفيو، والتي نُشرت في 6 مايو/آيار 2025، تحدث آندي جاسي، الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، عن أهمية المرونة في العمل، واستراتيجية الشركة في استخدام الذكاء الاصطناعي، وكيفية تغير دور المدراء.

وفي كل الحالات، لتحقيق نتائج أسرع وأكثر تأثيراً في تطوير القادة، يمكن للرؤساء التنفيذيين وفرقهم الاستفادة من التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، والذكاء القائم على الوكلاء، والتحليلات المتقدمة. فهذه الأدوات تتيح نشر برامج التدريب على نطاق واسع، (بحيث يتمكن جميع الموظفين من الوصول إلى نفس المحتوى التعليمي، سواء في نفس الوقت أو حسب توقيتهم المناسب). والأهم من ذلك، أنها تساعد على تقليص مدة التعلم، ما يسمح ببناء جيل جديد من القادة بسرعة وكفاءة، ويمنح المؤسسة ميزة تنافسية حقيقية في مواكبة التغيير.

ضع بصمتك في تطوير القادة من خلال مبادرات ذات تأثير حقيقي

ينبغي أن يكون تطوير القادة مسؤولية مباشرة للرئيس التنفيذي وفريق القيادة، لا مجرد مهمة تسند إلى قسم الموارد البشرية أو التدريب. فالقادة الحقيقيون لا يكتفون بوضع الاستراتيجيات من بعيد، بل يشاركون فعلياً في إعداد الجيل القادم. ولهذا، يجب أن تركز هذه المبادرات على التحديات الحقيقية التي يواجهها الأشخاص في المناصب المحورية داخل المؤسسة، مثل إدارة المشاريع المعقدة، أو اتخاذ قرارات حاسمة في مواقف غامضة، أو بناء ثقافة عمل مبتكرة. ومن الأفضل أن تنفذ هذه التدخلات ضمن مجموعات صغيرة من القادة ذوي الأداء المرتفع، وفي بيئة تشجع على التفاعل الصادق والنمو الشخصي، ما يجعل التجربة أكثر تأثيراً وفعالية.

على سبيل المثال، تولى كبار القادة في ماكنزي قيادة أكثر من 20 مبادرة تطوير قيادي مؤثرة خلال فترة امتدت لثمانية أشهر، استهدفت أكثر من 250 من الزملاء وفرق خدمة العملاء. وخلال هذه الجلسات، عمل القادة بشكل مباشر مع مجموعات صغيرة، بهدف تعزيز قدراتهم القيادية الفردية والجماعية، ومساعدتهم على تحديد المرحلة التالية من التأثير العميق الذي يمكنهم تحقيقه، سواء في خدمة العملاء أو على مستوى المؤسسة ككل.

بدأت بعض الشركات بتبني أساليب مبتكرة لتطوير قياداتها المستقبلية، مثل إنشاء منتديات خاصة تجمع الموظفين الواعدين لمناقشة التحديات الإدارية الكبرى وتبادل الحلول من أرض الواقع. في الوقت نفسه، أطلقت شركات أخرى برامج تدريبية مكثفة تستمر ليوم أو أكثر، تهدف إلى فصل القادة المحتملين عن ضغوط العمل اليومية لمنحهم فرصة حقيقية للتعلّم والتطوير. ومن ناحية ثالثة، هناك مؤسسات قررت مضاعفة الاستثمار في تنمية المهارات القيادية، فرفعت ساعات التدريب السنوي من ساعتين فقط إلى يومين كاملين، في خطوة تعكس إدراكها العميق لأهمية بناء قيادات قوية وقادرة على مواجهة تحديات المستقبل.

ولا يكتفى القادة الذين يدركون قيمة بناء أجيال قيادية جديدة برفع شعارات مثل "التوظيف والتطوير"، بل يحرصون على تحويلها إلى نظام راسخ داخل ثقافة المؤسسة. كما قال "أكسل دوما"، الرئيس التنفيذي لشركة هيرمس: "من مسؤولية كل قائد لدينا أن ينقل خبراته ومعارفه إلى الجيل التالي"8في حوار نشرته مجلة "Peak" بتاريخ 25 مايو/آيار 2016، كشف الرئيس التنفيذي لهيرمس أكسل دوما، في حديثه مع الصحفي ليونيل سيه، عن أبرز الركائز التي تقف خلف نجاح واحدة من أعرق العلامات التجارية العالمية. وينتهج رئيس شركة بلاك ستون ستيفن شوارزمان، نفس النهج، إذ يحرص على طمأنة الموظفين الجدد من أول يوم، بقوله: "أنتم لستم وحدكم هنا. لا تحملوا الأعباء وحدكم، فما يبدو لكم معقدًا أو جديدًا، قد واجهناه من قبل. لا تترددوا في طلب المساعدة". مدونة بقلم بيتر كانغ بعنوان: "أبرز ما ورد في كتاب ما يتطلبه الأمر: دروس في السعي نحو التميز" بقلم ستيفن أ. شوارزمان، نُشرت بتاريخ 3 فبراير/شباط 2020.

إعادة هيكلة المؤسسة لتسريع اتخاذ القرارات

يرى الرئيس التنفيذي لشركة نفيديا جنسن هوانغ، أن تبسيط الهيكل التنظيمي لا يهدف فقط إلى تسريع العمل، بل الأهم من ذلك أنه يعزز روح التعاون ويسهّل حل المشكلات. ففي حديث له مقابلة مع الرئيس التنفيذي لشركة نفيديا جنسن هوانغ، نُشرت على موقع سترايب وتمت مراجعتها في يونيو/حزيران 2025. أشار إلى أنه يحب فكرة أن "لا أحد يتمتع بوصول حصري للمعلومات"، موضحًا أن جميع الموظفين يتلقّون نفس القدر من المعرفة، ويفهمون سوياً خلفيات التحديات التي يواجهونها، وأسباب الحلول التي يتم اقتراحها. هذا الانفتاح، بحسب "هوانغ"، يخلق بيئة عمل شفافة، تشجّع الجميع على التفكير والمشاركة، وكأن الفريق بأكمله يعزف على نغمة واحدة.

كما يجب على الرؤساء التنفيذيين وفرقهم أن يعملوا بجد على إزالة التعقيدات الزائدة في الهياكل والإجراءات داخل الشركات، لأن تبسيطها يُعد مفتاحاً لاتخاذ قرارات أسرع وأكثر فاعلية. فكلما كانت الموسسة أكثر بساطة، أصبحت أكثر مرونة وقدرة على الاستجابة للتغيرات. وكما عبر الرئيس التنفيذي لبنك JP مورغان تشيس جيمي ديمون، عن ذلك ببساطة شديدة قائلاً: "علينا أن نحارب البيروقراطية باستمرار، وبلا أي تهاون". الفيديو بعنوان "دروس في الإدارة مع جيمي ديمون"، وهو من إنتاج بنك "JP مورغان تشيس" ونُشر على منصة يوتيوب عام 2025".

يمكن تبني عدة أساليب فعّالة، مثل تحديد من يملك حق اتخاذ القرار بوضوح وتقليص عدد المشاركين في كل قرار لتجنب التعقيد لتسريع اتخاذ القرار داخل الشركات. كما من المفيد التفرقة بين القرارات الكُبرى التي تتطلب دراسة دقيقة، وتلك اليومية التي يمكن اتخاذها بسرعة دون المرور بتسلسل إداري طويل. على سبيل المثال، في إحدى شركات الأزياء العالمية، يحصل المشترون على صلاحيات مباشرة تسمح لهم بشراء التصاميم والأقمشة والمواد الأخرى ضمن ميزانية محددة، دون الرجوع إلى الإدارة في كل مرة. هذا النهج ساعد الشركة على الاستجابة بسرعة لتغيرات السوق واحتياجات العملاء المتجددة.

من بين أبرز المجالات التي تستحق التطوير داخل المؤسسات هي الاجتماعات. فقد شدد الرئيس التنفيذي لبنك JP مورغان تشيس جيمي ديمون، في رسالته السنوية لعام 2024، على أهمية حضور الاجتماعات بتركيز كامل واستعداد مُسبق. وأبدى استياءه نحو السلوكيات المشتتة التي يلاحظها باستمرار ويقول: "ألاحظ الأشخاص طوال الوقت يتابعون الإشعارات والرسائل الشخصية ومنهم من يتصفح البريد الإلكتروني أثناء الاجتماع، هذه التصرفات لا تُظهر احتراماً للآخرين، وتؤدي إلى إهدار الوقت". ضمن تقريره السنوي لعام 2024، الصادر بتاريخ 7 أبريل 2025، وجّه رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لبنك JP مورغان تشيس رسالة شاملة إلى المساهمين، استعرض فيها أبرز محطات العام المالي وتوجهات المؤسسة للمرحلة المقبلة.

إن مجرد المبادرة في بناء "مصنع للقادة" يُعد فرصة ثمينة للرئيس التنفيذي وفريقه للتفكير ليس فقط في الصفات والسلوكيات التي تحتاجها المؤسسة للمستقبل، بل أيضاً في العادات والممارسات التي يجب التخلّي عنها. وهذه النقطة الأخيرة تُعد جوهرية وغالباً ما يتم إغفالها. فكثيراً ما يعبر الرؤساء التنفيذيون عن رغبتهم في ترسيخ ثقافة تقوم على الشفافية، لكنهم لا يتطرقون إلى التنازلات التي يتطلبها هذا التوجه، (مثل إلزام الفرق المختلفة بمشاركة أنظمة المعلومات أو اعتماد أساليب تشغيل موحدة تفرض إزالة الحواجز بين الإدارات).

مدى نجاح وتأثير بناء مصنع لإعداد القادة

رغم أهمية بناء مصنع لإعداد القادة وفق المبادئ والعناصر السابقة، إلا أن ذلك لا يمثل سوى البداية. فالمطلوب من الرؤساء التنفيذيين أيضاً أن يحرصوا على قياس أثر هذا المصنع بشكل منهجي عبر مختلف مكوناته. وهنا يبرز سؤال جوهري: هل يحقق البرنامج النتائج المرجوة؟ في إحدى شركات التكنولوجيا، على سبيل المثال، يتم تتبّع نجاح مصنع القادة من خلال مجموعة من مؤشرات الأداء الرئيسية، مثل زيادة عدد ساعات التطوير المقدمة للموظفين، ونتائج التقييمات الشاملة بزاوية 360 درجة، ومدى رضا العملاء، ودرجة رضا الموظفين أنفسهم. وإذا تبين من هذه المؤشرات أن البرنامج لا يحقق أهدافه، فعلى الإدارة أن تتدخل بسرعة لإجراء التعديلات اللازمة، سواء من خلال إعادة تصميم البرامج أو حتى اتخاذ قرارات أكثر حزماً، كفرض سياسات "الارتقاء أو المغادرة" أو تطبيق التقييمات التصنيفية بشكل شهري أو أسبوعي.

رغم التطور المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي بمختلف أشكالها، فإن دور القائد يظل حجر الزاوية في مستقبل العمل، حيث لا يمكن لأي تقنية أن تحلّ محله في قيادة التغيير وإلهام الفرق.

لذلك، لم تعد القيادة في القرن الحادي والعشرين تقتصر على الكفاءة التشغيلية فقط، بل أصبحت تتطلب رؤية واضحة، ومرونة في التكيف، والقدرة على إلهام الآخرين وتمكينهم. وكما وصف أحد الرؤساء التنفيذيين تجربته في مواجهة التحديات الحديثة، فإن إدارة الأعمال اليوم تشبه إلى حد كبير محاولة هبوط طائرة "دون وجود بيانات كافية أو أدوات تحكم دقيقة". وفي ظل هذا الواقع المضطرب، لم يعد بناء منظومة متكاملة لإعداد القادة خياراً استراتيجياً فحسب، بل أصبح ضرورة للبقاء. ورغم أهميته، لا يزال هذا النهج قليل الاستخدام في معظم المؤسسات العالمية.

وأخيراً، في الوقت الذي نتأمل فيه مستقبل العمل وسط مزيج من الأساليب التقليدية والذكاء الاصطناعي التوليدي ووكلاء الذكاء الاصطناعي، نجد أن هناك شيء واحد لا يتغير: دور القائد لا يمكن الاستغناء عنه. لكن بناء قادة المستقبل لا يتم بالحظ أو بالاعتماد على السمعة وحدها، ولا بمجرد انتظارهم أن يظهروا من تلقاء أنفسهم. بل يتطلب الأمر من الرؤساء التنفيذيين استثماراً واعياً ومنهجياً في تطوير قيادات تمتلك رؤية واضحة، وشغفاً بالتطوير، وقدرة على تحفيز فرق العمل وتمكينهم. فبوجود هذا النوع من القادة، يمكن للشركات أن تبني فرقاً قوية ومترابطة، موحدة في أهدافها، منفتحة على التجديد والنقاش، واثقة من قدراتها، مستعدة لأي طارئ، وقادرة على تجاوز أي أزمة أو اضطراب مهما كان حجمه.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي