تقرير خاص

كيف تبني السعودية الجيل الجديد من قادة الذكاء الاصطناعي؟

6 دقيقة
المهارات

في تسعينيات القرن الماضي، شهد قطاع الأعمال نمو أسواق الصناعات المرتبطة بالإنترنت نمواً كبيراً وسريعاً، لدرجة لم تستوعبها القوى العاملة التي تمتلك المهارات التقنية، فخلقت فجوة كبيرة بين النمو المتسارع للصناعة والنقص الحاد في المهارات المطلوبة.

بعد أكثر من 30 عاماً، تتجدد الفجوة مرة أخرى، ولكن بشكل أكبر بكثير، مع نمو سوق الذكاء الاصطناعي بمعدل نمو سنوي متوقع يبلغ 37.3% من عام 2023 إلى عام 2030، وفقاً لتقرير صادر عن شركة الأبحاث غراند فيو ريسرش (grand view research). وأمام هذا النمو المطرد، هناك قلق متزايد بشأن تباطؤ التقدم في الذكاء الاصطناعي بسبب نقص القدرات اللازمة لتوسيع نطاق حلول الذكاء الاصطناعي. ففي تقرير لشركة أوريلي (O'Reilly) لعام 2021، تصدّر الافتقار إلى القدرات وصعوبة التوظيف قائمة التحديات في الذكاء الاصطناعي. كما خلص تقرير لشركة كورن فيري (Korn Ferry) إلى أنه بحلول عام 2030، يمكن أن تظل أكثر من 85 مليون وظيفة شاغرة بسبب عدم وجود عدد كافٍ من الأشخاص المهرة لتوليها، والذي يمكن أن يقود إلى حوالي 8.5 تريليونات دولار من الإيرادات السنوية غير المحققة.

بعض الدول أدركت هذه الأزمة، وعرفت أن لا مستقبل لسوق الذكاء الاصطناعي دون تأهيل الطاقات البشرية تأهيلاً مناسباً، واتخذت كل دولة منها نهجاً يتوافق مع حاجاتها وطاقاتها. والخبر السار أن دولاً بالمنطقة كانت في الصفوف المتقدمة لتبنّي نهج تأهيل القدرات، ومن هذه الدول المملكة العربية السعودية، إذ تبنّت سياسة واعدة لتنمية القدرات البشرية وفقاً لرؤيتها 2030 في برنامج تنمية القدرات الوطنية. وتركزت تطلعاتها في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي من خلال الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي "سدايا" التي أُنشئت عام 2019، وتمخض عن إحدى مبادراتها إنشاء أكاديمية سدايا للقيام بهذا الدور الفعّال في هذا المجال الواعد الذي سنعرّج عليه في هذا المقال.

استراتيجية المملكة لتنمية القدرات في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي

تبوأت المملكة العربية السعودية اليوم مكانة متقدمة للتميّز في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي، إذ أسهم في تعزيز جهودها في التحول الرقمي، فأدخلت الذكاء الاصطناعي في كل المجالات مثل البنية التحتية الرقمية، والرعاية الصحية، والتعليم، والطاقة، والنقل، والخدمات اللوجيستية، والحكومات الإلكترونية، والمدن الذكية، والتكنولوجيا المالية، والعقارات، وغيرها.

فنلاحظ مضاعفة المملكة لأنشطتها المتعلقة بالذكاء الاصطناعي بشكل سريع. فعلى سبيل المثال، شهد الربع الأول من العام 2023 زيادة في عدد السجلات التجارية الخاصة بتقنيات الذكاء الاصطناعي بنسبة 74%، وفقاً لنشرة قطاع الأعمال الصادرة عن وزارة التجارة. وأدركت المملكة التحدي الذي يواجه العالم المتمثل في نقص القدرات التقنية المتخصصة في هذا المجال، فتبنّت عدة مبادرات لتأهيل الأفراد، مثل دعم برامج الابتعاث في الجامعات العالمية في مجالات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، واستحداث الجامعات المحلية برامج دراسات عليا في هذه المجالات مثل جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وعقد فعاليات مثل إطلاق الأولمبياد الوطني للبرمجة والذكاء الاصطناعي (أذكى).

وتبنت سدايا، التي يرأس مجلس إدارتها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، استراتيجية متكاملة لبناء القدرات، مستهدفة أطراف متعددة في المملكة مثل الطلاب والطالبات والخريجين والخريجات والموظفين والموظفات.

كما أطلقت أكاديمية سدايا، إحدى مبادرات الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي "سدايا"، التي تعمل كذراع تنفيذي لاستراتيجية بناء القدرات المشار إليها، وهي معنية بدعم الكفاءات الوطنية في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي وتطويرها عبر إطلاق العديد من البرامج والأنشطة بالتعاون مع الجهات المحلية والإقليمية والعالمية الرائدة في المجال، لبناء القدرات وصناعة الكفاءات لسوق العمل.

استراتيجية التدريب في أكاديمية سدايا

أخذت أكاديمية سدايا على عاتقها تحقيق المستهدفات الاستراتيجية الطموحة بتدريب 8,000 مختص وتأهيل 2,000 خبير بحلول 2025، وفقاً لرئيس سدايا، معالي الدكتور عبدالله بن شرف الغامدي خلال تصريحات صحفية، موضحاً أن الأكاديمية تخطط لإرسال أفضل العقول إلى جامعات عالمية مرموقة لإتمام دراسات عليا متخصصة. إذ عقدت حتى الآن أكثر من 60 برنامجاً تدريبياً ونحو 25 شراكة محلية ودولية متخصصة في التدريب في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي والتدريب على تعلم الآلة والتعلم العميق، ما يعد مؤشراً على تحقيق هدفها الطموح بل وتجاوزه بحلول الموعد.

1. تحديد الفئات الأنسب لبرامج بناء القدرات

يعد مجال الذكاء الاصطناعي حديثاً نسبياً مقارنة بالمجالات التقنية الأخرى، إذ لا يوجد في سوق العمل خريجون كثُر لكليات الذكاء الاصطناعي، نظراً لحداثة المجال، ما قاد سدايا إلى إطلاق برامج مختلفة يتطلب كل منها مؤهلات معينة حسب البرنامج، فمثلاً، هناك برامج لتدريب الفئات الأقرب من ناحية التخصص، كالأشخاص الذين درسوا الرياضيات والإحصاء وعلوم الكمبيوتر، مثل برنامج سدايا المستقبل، بينما استهدفت برامج أخرى أشخاصاً من ذوي الخبرة كمهندسي البيانات والمختصين في البيانات وخبراء التعلم الآلي مثل برنامج بناء القدرات الوطنية لمختصي علوم البيانات.

وهناك أيضاً معسكرات سدايا المختلفة مثل معسكرات تعلم الآلة ML، ومعسكرات سدايا T5: علوم البيانات التي استهدفت المرشحين الحاصلين على درجة علمية في علوم الحاسوب، أو علوم البيانات، أو الإحصاء، أو هندسة البرمجيات، أو ما يعادل ذلك، بهدف تدريب الكوادر الوطنية وتزويدها بالمفاهيم الأساسية لتعلم الآل​ة​، والذكاء الاصطناعي، والشبكات العصبية، وتقنيات التحسين، والتعلم العميق، بالإضافة إلى تأهيلهم للحصول على شهادات احترافية في المجال.

2. تأهيل الطلاب

تستهدف أكاديمية سدايا أيضاً تأهيل القدرات في سن مبكرة، مثل البرامج التي تستهدف الطلاب، فمثلاً، يهدف برنامج التدريب التعاوني لأكاديمية سدايا إلى تقديم التدريب على رأس العمل لطلاب وطالبات الجامعات من خلال المواءمة بين الدراسة الأكاديمية والتطبيق العملي في بيئة عمل فعلية، ورفع مستوى المعرفة والمهارات لديهم لإتاحة الفرصة لهم لاكتساب مهارات جديدة. وقد بلغ عدد المتدربين في البرنامج، منذ تأسيس الأكاديمية وحتى اليوم، 1100 طالب.

كما أطلقت سدايا، في نهاية العام 2023، "برنامج مبرمجي ذكاء المستقبل"، الذي يستهدف تدريب 30 ألف طالب وطالبة من التعليم العام، ليعرّفهم بالذكاء الاصطناعي ويحفز اهتمامهم به، إذ انطلقت إلى الآن، يناير/ كانون الثاني 2024، أربع مراحل من البرنامج.

3. رفع الوعي بالمسار المهني

أشار استطلاع رأي حديث، أجرته منصة إلوشيان (Ellucian)، وهي شركة أميركية متخصصة في تقديم البرامج والخدمات لدعم التعليم العالي، إلى أن أكثر من نصف الطلاب ليسوا واثقين من مسار حياتهم المهنية. كما أفادت نتيجة استطلاع آخر أجرته مجلة ناتشر (Nature) بقلة الوعي بالخيارات الوظيفية المتاحة لدى الخريجين وحتى طلاب الدراسات العليا والدكتوراة. لذا، يعد رفع الوعي بالمسارات الوظيفية الموجود، ولا سيما بمجال حديث مثل الذكاء الاصطناعي، أمراً مهماً للغاية.

أطلقت سدايا في هذا الإطار فعاليات متنوعة، مثل بودكاست "لقاءات سدايا"، وتستضيف خلاله كبار العلماء في مجالات التقنية والرؤساء التنفيذيين للشركات المهتمة بالذكاء الاصطناعي من داخل المملكة وخارجها مثل الرئيس التنفيذي لوحدة الموارد البشرية في شركة إس تي سي (stc)، أحمد الغامدي، والمختصة في الذكاء الاصطناعي والمسؤولة التنفيذية في شركة آي بي إم (IBM)، ديما العذل، للحديث عن موضوعات مختلفة مثل استخدامات الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية، وعلاقته بمجالات مثل الصحة والتعليم والمدن الذكية وتطوير الكوادر البشرية، وكيفية إسهام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في خدمة الإنسان وتحسين جودة الحياة.

كما أطلقت برنامجاً آخر بعنوان "بودكاست قمة الذكاء الاصطناعي"، استضافت خلاله سدايا مجموعة من العلماء الذين شاركوا في القمة العالمية للذكاء الاصطناعي التي نظَّمَتها سدايا، مثل رئيس جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، البروفيسور توني تشان، ومدير كلية سانت كاترين في المركز الدولي للاتصالات متعددة الوسائط (IMCC) بجامعة أوكسفورد، البروفيسور فيليب تور، وكبير مسؤولي الذكاء الاصطناعي العالمي في شركة أي بي إم (IBM)، سيث دوبرين، وغيرهم.

4. رعاية الشراكات مع الأوساط الأكاديمية والعملية

يتيح التعاون مع الأوساط الأكاديمية والشركات التقنية إمكانية الوصول إلى أحدث المواد التدريبية والخبرات العملية. فمثلاً، تعتزم سدايا، بالتعاون مع شركة نفيديا (NVIDIA)، إطلاق برنامج تدريبي يدعى (4K) لبناء القدرات الوطنية في الذكاء الاصطناعي، وتعزيز ريادة كوادر المملكة عالمياً في هذا المجال.

إضافة إلى ذلك، رتبت سدايا زمالات بحثية مع جامعات محلية مثل جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ووصل عدد الطلاب المشاركين إلى 1220 مشارك، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن ووصل عدد الطلاب المشاركين إلى 1,700 مشارك.

5. رعاية الهاكاثونات

يعد الهاكاثون طريقة أخرى فعّالة لتزويد المواهب في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي بالمهارات وضمان معرفتهم بأحدث التقنيات. لذا أطلقت سدايا البرنامج الوطني لتنمية تقنية المعلومات هاكاثون مسرعة الذكاء الاصطناعي التوليدي بالتعاون مع مسرعة (New Native)، والذي ضم 1,505 مشاركين، لبناء نماذج مؤهلة للدخول في الدفعة الأولى من مسّرعة الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ويهدف الهاكاثون إلى دعم جميع الفئات التي لديها فكرة أو نموذج أولي في مجال الذكاء الاصطناعي، لتمكينها وتحويل هذه النماذج إلى شركات ناشئة، ووصل عدد التطبيقات إلى أكثر من 82 تطبيقاً في الذكاء الاصطناعي شارك بهم 127 فريقاً، ما يهدف إلى زيادة عدد رواد الأعمال في مجال الذكاء الاصطناعي، كما تم على هامش الهاكاثون تقديم العديد من الدورات بإشراف خبراء متخصصين في هذا المجال مكّنت المشاركين من الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي المتطورة.

6. تأهيل الموظفين

هناك الكثير من الموظفين في مجالات مختلفة ممن لديهم انفتاح على تعلم الذكاء الاصطناعي، فأطلقت سدايا برنامج تنمية القدرات الوطنية للجهات الحكومية لدعمها في تأهيل المتخصصين للحصول على الشهادات الاحترافية في هذا المجال من خلال إقامة الدورات المكثفة لتأهيلهم، وتعزيز مهاراتهم. ويستهدف البرنامج مدراء مكاتب البيانات، ومسؤولي البيانات، والتقنيين، والقانونيين، ويضم سبع دورات تخصصية تخدم هذا المجال.

كما أطلقت برامج دورية تستهدف الجهات الحكومية والقطاع الخاص من المستفيدين من خدمات سدايا ومنتجاتها المخصصة لتدريب القدرات على فهم الأنظمة والخدمات وتحقيق أقصى استفادة منها بما يضمن تطور الأعمال والمخرجات في هذه الجهات، بعنوان برنامج عملاء سدايا، حيث استفاد من البرنامج أكثر من 45 ألف متدرب.

7. تأهيل القيادات

شملت برامج التأهيل القادة أيضاً، إذ أطلقت سدايا برنامج تطوير القيادات الحكومية في الحوسبة السحابية بالتعاون مع جوجل كلاود لتطوير مهارات قادة التحول الرقمي ومدراء تقنية المعلومات ومراكز البيانات والذكاء الاصطناعي في القطاعات الحكومية، وتزويدهم بأساسيات الحوسبة السحابية، وهي واحدة من أهم تقنيات الذكاء الاصطناعي. إذ تم تدريب 150 قائد تقني وغير تقني من 56 جهة حكومية.

ويركز البرنامج على تدريب هؤلاء القادة على أربع مهارات رئيسة هي التحول الرقمي باستخدام الحوسبة السحابية، والابتكار في البيانات والذكاء الاصطناعي، ومواكبة التطور في البنية التحتية والتطبيقات، وأمن الحوسبة السحابية وتشغيلها.

تتويج الجهود

آتت هذه الجهود ثمارها، إذ جاءت السعودية في المرتبة الثانية عالمياً، في فئة الوعي المجتمعي بالذكاء الاصطناعي، من قِبل مؤشر جامعة ستانفورد الدولي للذكاء الاصطناعي في 2023، والمركز الأول عربياً والـ 26 عالمياً في المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي تورتويس إنتليجينس (Tortoise Intelligence)، الذي يقيس أكثر من 143 مقياساً للاستثمار والابتكار وتنفيذ تقنيات الذكاء الاصطناعي من خلال عدة معايير مثل قوة البنية التحتية والبيئة التشغيلية والأبحاث والتطوير وغيرها، وقد احتلت المملكة المركز الأول عالمياً في معيار البيئة التشغيلية.

وفي النهاية، سيسهم تبني المملكة لحلول الذكاء الاصطناعي في مواكبة مستقبل التعلم الرقمي، ولا سّيما في تقديم تجربة مخصصة لكل طالب وتلبية الاحتياجات الفردية بكل دقة وفعالية. وسيدفع الذكاء الاصطناعي المملكة إلى لعب دور قوي ومبكر في هذا المستقبل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي