فيلم نتفليكس “المصنع الأميركي” والجغرافيا الجديدة للصناعة التحويلية

5 دقائق

عند مشاهدتي لفيلم "المصنع الأميركي" (American Factory)، وهو الفيلم الوثائقي الذي اختارته عائلة أوباما، الرئيس السابق للولايات المتحدة، لتعاملهم الإنتاجي الجديد مع شركة "نتفليكس"، ترددتْ في ذهني العديد من أصداء الإلمام بقصة الفيلم.. إذ تتبّع الفيلم حياة العمال والمدراء الذين تم تسريحهم بعد إغلاق أحد المصانع التابعة لشركة "جنرال موتورز" في مدينة أوهايو بعد أن أعادت فتحه شركة صينية لإنتاج الزجاج. وتشبه الظروف المحيطة في الأوساط الصناعية في الوسط الغربي من الولايات المتحدة الظروف المحيطة في المكان الذي ترعرعت فيه، وهو الجانب الغربي من مدينة إنديانابولس، حيث يوجد مجتمع العمال اليدويين الذي كان يهيمن عليه مصنع لإنتاج ناقلات الحركة للسيارات، التي يُمد بها شركة "جنرال موتورز". وقد ذكّرني العمال في الفيلم بأولياء أمور زملائي في الفصل الدراسي، إذ إن عمال المصنع وسائقي الشاحنات الكادحين بالكاد يقدرون على تحمل تكاليف حياة الطبقة الوسطى لعائلاتهم، وكان ذلك حتى عام 2008 عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية. بينما ذكّرني مدراء المصنع الصيني من المستوى المتوسط في الفيلم بعائلتي نفسها، التي كانت عبارة عن مهاجرين صينيين يسعون إلى تدبّر سبل إيجاد عمل وطرق التواصل مع الآخرين وسبل العيش في مكان مختلف للغاية عن البلد الذي أتوا منه. وقد لجأوا إلى أميركا وإلى الأميركيين تعتريهم تقلبات بين التفاؤل والإحباط، والدهشة والشك، والتعجب والإذعان.

لكن لعل أكثر الطرق إثارة للدهشة التي تردد فيها صدى حياتي الماضية في فيلم "المصنع الأميركي" هي مدى تشابه هذه المشاهد التي تحدث في أميركا مع المشاهد التي رأيتها في أفريقيا. إذ إنني قضيت سنوات عديدة في زيارة أكثر من 50 مصنعاً صينياً في أفريقيا وألّفتُ كتاباً بعنوان  "القوة الصناعية القادمة في العالم:" (The Next Factory of the World)كيف تعيد الاستثمارات الصينية صياغة أفريقيا؟" (How Chinese Investment Is Reshaping Africa)، وهو كتاب يتناول أهمية هذه المصانع في التحول الصناعي في أفريقيا وفي مستقبلها. ومما لا شك فيه أن الكثير من المصانع التي زرتها في أفريقيا كانت صغيرة الحجم وذات عمليات أكثر تبسيطاً من عمليات مصنع زجاج السيارات في مدينة أوهايو كما يحكي فيلم "المصنع الأميركي". بيد أن بعض المصانع التي تملكها الصين في أفريقيا كبيرة الحجم ومتطورة تقنياً بالقدر نفسه، وبصرف النظر عن حجم المصنع، فقد شاهدتُ الكثير من المصاعب نفسها في إيجاد تفاهم بين الثقافات المختلفة، وفي تعليم العمال المهارات بالغة الصعوبة، وفي تحمل الضغوط في الصناعة العالمية التي تتسم بالتنافسية المحتدمة.

ويتمثل أول وجه من أوجه التشابه الأساسية بين المصانع الأميركية والأفريقية في أنه بصرف عن الموقع الجغرافي للمصنع، فإن الحياة فيه صعبة بشكل واضح تماماً. إذ يتطلب أداء الوظائف في المصنع المهارات اليدوية وروح الانضباط الطاغية والتحمل الفائق. وفي فيلم "المصنع الأميركي"، يصف عامل يُدعى "بوبي" كيف أن "فعل الشيء نفسه مراراً وتكراراً يرهقك ويرهق جسدك وعقلك، ويدفعك في بعض الأحيان إلى التفكير متسائلاً: ’لمَ أفعل هذا‘؟ وتفكر فيما إذا كنت تتحلى بالعزيمة والإرادة للقيام بمثل هذه الوظيفة". كما أن بيئة العمل قاسية من الناحية البدنية، إذ يتطلب إنتاج الزجاج استخدام الأفران، لذا فإن مكان العمل ساخن للغاية، ويتسبب أي خلل في تصنيع الزجاج في تحوله إلى شظايا متفجرة. وتتطلب أيضاً المصانع التي زرتها في أفريقيا عملاً متكرراً وشاقاً من الناحية البدنية، ويوجد في كل مصنع من هذه المصانع بيئة عمل غير مريحة بطريقة ما. إذ إن الكثير من مصانع الملبوسات التي رأيتها، على سبيل المثال، هي عبارة عن حجرات ذات أسقف منخفضة وأسطح مصنوعة من الصفيح، تشتد حرارتها في الصيف ولا تقِي العمال البرد القارس في الشتاء. وتعج كل حجرة من هذه الحجرات بمئات من ماكينات الخياطة. ويجلس العمال في صفوف مكتظة بشدة ويكررون الحركة نفسها التي يقومون بها مئات الآلاف من المرات في اليوم.

بيد أنه على الرغم من طابع التكرار في العمل، فإن قطاع الصناعة التحويلية الحديث غالباً ما يتسم بكثافة الاعتماد على المهارات، بصرف النظر عما إذا كان في أميركا أو في أفريقيا. وتسعى المصانع باستمرار، مدفوعة بالمنافسة العالمية المحتدمة، إلى تحقيق قدر أكبر من الكفاءة، وهو ما يتطلب التعلم والتحسين المستمرين. وتتعلق الكثير من المشاهد الدرامية في فيلم "المصنع الأميركي" بالصعوبات التي يواجهها المدراء الصينيون في تعليم العمال الأميركيين المهارات اللازمة لإنتاج الزجاج بالسرعة والسلاسة نفسها التي يتسم بها مصنع الشركة في الصين. وقد شاهدت هذه الصعوبات المستمرة نفسها عند زيارتي للمصانع الصينية في أفريقيا. ففي نيجيريا، كان أحد مصانع إنتاج الصلب يقوم باستمرار بتدريب عمال الحدادة، فقط لكي يتلقوا عروضاً أفضل من قِبل الشركات المنافِسة. وفي ليسوتو، وصف لي مدير أحد مصانع الملبوسات كيف أن الأمر تطلب من هذا المصنع شهوراً لتعلم إنتاج سراويل اليوغا لمتاجر التجزئة الأميركية المتنوعة. ونظراً لأن المواد التي يصنعونها زلِقة للغاية، لم يكونوا ينتجون أكثر من 200 زوج من السراويل في اليوم. وفي نهاية المطاف، فقد تعلموا وتحسنت مقدراتهم وأضحوا ينتجون 600 زوج من السراويل في اليوم، ليدركوا بعد ذلك أن المصانع الفيتنامية تنتج ألف زوج من السراويل في اليوم.

ويطرح هذا قاسماً مشتركاً آخر فيما يتعلق بالصناعات التحويلية، سواء أكان في أفريقيا أو أميركا أو أي مكان آخر، وهو الصناعة القابلة للتعلم. إذ إن الصناعات التحويلية، وحدها من بين كل الصناعات، هي القطاع الذي يمكن أن ينمو ويزدهر في جميع الأماكن بمختلف أنواعها. وقد بيّن الاقتصاديون أن الصناعات التحويلية الحديثة هي القطاع الوحيد الذي تمكنت فيه البلدان الفقيرة من اللحاق بركب البلدان الغنية باستمرار. ولكي يكون الأمر واضحاً، فإن هذه الميزة لا تتوفر في الصناعات الأخرى. إذ إنه لا يمكنك وضع شركة تعمل في مجال التكنولوجيا أو شركة قانونية في مكان غير متطور وتنعدم فيه المهارات اللازمة، بشكل عام، وتوقُّع أن تكون إنتاجية هذه الشركة مثل إنتاجيتها إذا كانت تقع في مكان يتمتع بظروف ووضع أفضل. بيد أن الحال مختلف في قطاع الصناعات التحويلية، إذ إن الأشخاص في الأماكن الأقل حظاً يتعلمون باستمرار كيفية إنتاج السلع تماماً مثلما هو الحال في أفضل الأماكن في العالم. وتعتبر الصين نفسها مثالاً على هذا الأمر، ففي عام 1990، كانت الصين تنتج 2% فحسب من إنتاج الصناعة التحويلية على مستوى العالم. وتحولت الصين، بفضل تشجيعها للشركات الأجنبية لفتح مصانع في الصين والتعلم من هذه الشركات، إلى عملاق الصناعة التحويلية في العالم مستأثرة بنسبة 25% من الإنتاج العالمي في الوقت الحالي. وانتشلت عملية التحول الصناعي هذه 750 مليون شخص من وطأة الفقر خلال جيل واحد، وهو يعتبر أقصى ما تحقق في التأريخ الاقتصادي.

والآن، فإن الشعب الصيني الذي كان في بداية مشوار تعلّم الكيفية التي تعمل بها المصانع في بواكير التسعينيات من القرن الماضي، يفتحون مصانع في شتى أنحاء العالم ويعلّمون الآخرين كيفية الصناعة. ويقف واقع أن أصحاب المصانع الصينيين يستثمرون في أفريقيا شاهداً على هذه الحقيقة المتمثلة في أن الصناعة التحويلية يمكن تعلّمها. وكذلك هو الحال بالنسبة إلى قصة فيلم "المصنع الأميركي"، إذ إنه على الرغم من الصعوبات الشاقة التي واجهت مصنع الزجاج بمدينة أوهايو في عامه الأول، إلا أنه بدأ في تحقيق الأرباح انطلاقاً من العام الثاني فصاعداً.

وتمثل قصة فيلم "المصنع الأميركي" دليلاً على أن الصناعة التحويلية في الولايات المتحدة، على الرغم مما يثار حول زوالها، تستطيع العودة، ولو كان ذلك في شكل استثمارات صينية أو استثمارات أجنبية أخرى. بيد أنه يمكن أن تكون مسألة ما إذا كنا نود للصناعة التحويلية في الولايات المتحدة أن تعود هي مسألة أخرى، وهي، على الرغم من جميع أوجه التشابه، يمكن أن تكون الفرْق الذي يهم بين المصانع الأميركية والأفريقية. إذ إن هذه المصانع يمكن أن تساعد في إحداث التغيير، بالنسبة إلى أفريقيا. فغالبية سكان هذه القارة هم من الشباب، وبشكل عام، لم يتلقوا سوى قدر ضئيل من التعليم بالمقاييس العالمية. وتعتبر عروض الوظائف في المصانع خيارات جيدة نسبياً لمحاولة كسب العيش بشكل غير مأمون في القطاع غير الرسمي، الذي غالباً ما يكون مهيمناً في الكثير من الاقتصادات الأفريقية. بيد أنه بالنسبة إلى أميركا، فإن العمل في مصنع وتلقي أجر قدره 14 دولاراً في الساعة لم يعُد يكفل لصاحبه عيش حياة الطبقة المتوسطة. وكما يوضح "بوبي"، وهو أحد العمال في فيلم "المصنع الأميركي" بقوله: "أتاحت لي شركة "جنرال موتورز" حياة رائعة فقدتُها عندما أغلقت الشركة المصنع. ولن نكسب أبداً مقدار هذا المال مجدداً.‬ فقد ولّت تلك الأيام".‬

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي