دروس مستفادة من تعثّر “فيسبوك” في الهند

4 دقائق
فشل فيسبوك في الهند

في العاشر من فبراير/شباط، نشر أسطورة "وادي السيليكون" وأحد أعضاء مجلس إدارة "فيسبوك" مارك أندرسن، تغريدة على "تويتر" تقول: "أعلن الآن انسحابي من جميع المناقشات المستقبلية للأوضاع الاقتصادية والسياسية في الهند، وأتركها للذين يفوقونني دراية وخبرة"، فما علاقة هذا المثال بموضوع فشل فيسبوك في الهند تحديداً؟

كيف وصل أندرسن إلى مثل هذه اللحظة؟ لقد كانت حركته تلك على "تويتر" فعلياً جزءاً من أسبوع مهم عاشته شركة "فيسبوك" في الهند، وضمن السجال حول الوصول إلى الإنترنت في الأسواق الناشئة. بدأ الخلاف في الثامن من فبراير/شباط، حين انتشرت أنباء عن قرار الجهة المشرِّعة للاتصالات في الهند منع خدمة "فري بايزيكس" (Free Basics) من "فيسبوك". وقد عللت الجهة قرارها هذا بأنه يعود جزئياً إلى أن الخدمة تصعِّب على المزوِّدين الأصغر المنافسة، وأن الخدمة انتهكت المبادئ الأساسية لـ "حيادية الإنترنت"، التي تقوم على وجوب المساواة في التعامل مع جميع حركات الإنترنت. وقد صُممت خدمة "فري بايزكس" من "فيسبوك" لتوفر ولوجاً مجانياً إلى مجموعة مختارة من المواقع الإلكترونية لمَن لا يملكون ولوجاً للإنترنت، إلا أن العديد من النقاد ساووا هذه الخدمة بالاستعمار.

فشل فيسبوك في الهند

بدأ دور أندرسن بإرساله سلسلة طائشة جداً (حُذِفَت فيما بعد) من التغريدات على موقع "تويتر"، منها تغريدة تقول: "لقد كانت معاداة الاستعمار كارثية على الصعيد الاقتصادي للشعب الهندي لعقود من الزمن. فما الداعي إلى التوقف الآن؟"، ولا عجب أن أعقب هذه التغريدة سيل من الانتقادات النارية، وحتى مارك رزكربيرغ نفسه وصف التغريدة بـ "المحزنة بشدة".

وتعد تصرفات أندرسن الخاطئة درساً لمبتكري "وادي السيليكون"، الذين يستعدون لكسب المليار التالي من المستخدمين: أنتم بحاجة إلى الذكاء "السياقي"، وليس فقط إلى الذكاء التشفيري؛ فالتفاوتات التاريخية والاقتصادية المعقدة، والذهنيات السياسية والاجتماعية الثقافية في الدول النامية تصيغ النجاح بقدر ما يصيغه المنتَج.

وتتباين العوامل التي تحدد "السياق" عبر دول العالم النامي، ولكنها تختلف بشكل ملحوظ عن البيئات التي طُوِّرت فيها الابتكارات الرقمية، سواء في "وادي السيليكون"، أو بوسطن، أو مقاطعات التقنية في الهند والصين. ففي هذه الجيوب عالية التقنية، يكاد السياق يغيب تماماً عن الرؤية: المؤسسات تعمل، والبيانات هي العملة المستخدمة في هذا العالم، واقتراح القيمة "القاتل" للتطبيقات الرقمية يحكم. بهذه الطريقة، تعمل شركات التقنية من بُعد، فهي في الغالب ليست "مثبتة" في البيئات المحلية.

في المقابل، غالباً ما تندمج شركات المنتجات الاستهلاكية مثل "يونيليفر" (Unilever) و"نستله" جيداً بنسيج البيئات المحلية، بالمبيعات، واللوجستيات، والعلاقات مع الوسطاء في البلدات والمناطق الريفية. وحتى إذا افتتحت شركات التقنية، مثل "فيسبوك"، فروعاً محلية لها، فإنها غالباً ما تفتقر إلى الخبرة في تخطي تعقيدات السياسة والقوانين المحلية. بالنسبة إلى اللاعبين في مجال الرقميات، العاملين في بيئات شبيهة بفقاعة الهواء، قد يبدو سياق العالم النامي مختلفاً تماماً.

وكما كتبت سابقاً، هناك أسباب جيدة للإعجاب بمبادرة "فري بايزيكس" من "فيسبوك"، وقد استدللتُ على رأيي هذا بأنه من الأفضل للمجتمع توفير ولوج محدود لشريحة أكبر من الناس، بدلاً من الوضع الحالي، حيث تقرب نسبة من لا يملكون أي ولوج إلى الشبكة على الإطلاق حوالي 80% من الشعب الهندي. ويُتيح رهان "فيسبوك" المُكلِف على "فري بايزيكس" فرصة مهمة للحديث عن إمكانات المبتكرين الرقميين ليكونوا أكثر شمولاً في مقاربتهم للعالم النامي. وفيما يأتي بضعة أمور لا ينبغي نسيانها:

السياق مهم مثل الرمز تماماً: حاولت "فيسبوك" بالفعل محاكاة سمات سياق الأماكن التي كانت تحاول خدمتها عبر "فري بايزيكس" لموظفيها، فقد أطلقت مبادرات مثل "أيام ثلاثاء الجيل الثاني من الإنترنت" (2G Tuesdays)، التي أتاحت لموظفي الشركة الذين يعملون في أماكن بعيدة جداً عن العالم النامي، استخدام خدمة الجيل الثاني من الإنترنت فقط واختبار شخصياً السرعات البطيئة والقيود التي ستؤثر على تجارب الإنترنت للمليار التالي من المستخدمين. إلا أن مفعول المحاكاة محدود، بخاصة حيث يوجد عالم من الإنترنت شديد السرعة عند عتبة منزلك. وسيكون على الشركات القيام بالمزيد لتُثبت نفسها أمام هؤلاء المستخدمين المستقبليين، وتفهم حياتهم اليومية، بما فيها آمالهم ومخاوفهم الكبرى، بالإضافة إلى تاريخهم وثقافتهم. فمجرد امتلاك نوايا مثيرة للإعجاب لا يكفي لكسب الدعم لفكرتك المهمة في تطوير الأسواق، حتى لو كنت تقدِّم أفضل رمز في العالم.

يجب أن يأخذ المشرعون في الحسبان القوانين والمشاعر على حد سواء: على اللاعبين في مجال الرقميات الخوض في نزاع مع الإطارات التشريعية المختلفة في كل بلد. في الهند، على سبيل المثال، تعد القوانين محصِّلة لمزيج من الحجج الاقتصادية والقانونية "المنطقية"، بالإضافة إلى تاريخ البلد ومناخه السياسي. والشعب الهندي حساس بشكل خاص للشركات الغربية التي تأتي إلى بلاده لتسيير أعمالها بطرق غير مضرّة ظاهرياً. فكر، مثلاً، أن شركة "الهند الشرقية البريطانية" قَدِمَت إلى الهند بنوايا حسنة للمتاجرة مع الهند، ما أدى في النهاية إلى استعمار ذلك البلد. وبالرغم من أن الهند بلد مليء بعدم المساواة الاقتصادية، فإن القول بالمساواة بين البشر مفهوم له أهميته في هذا البلد. هذه العوامل بأنواعها المختلفة حاسمة لكيفية إصدار المشرِّعين قراراتهم. وبالإضافة إلى كل ما تقدم، كان من سوء حظ خدمة "فري بايزكس" أنها أتت في خضم تنامي الشعور العام لصالح حيادية الإنترنت، وبدا أن الخدمة تنتهك هذه المعايير. وكان المشرِّعون الهنود ليواجهوا صعوبة في مخالفة الشعور الشعبي في هذا الخصوص.

يجب أن تكون الرسائل التسويقية منسجمة مع المنتَج: حين تُطرح مبادرة بطريقة ما -في حالة خدمة "فري بايزكس" كانت المبادرة عملاً خيرياً- واحتوت الخدمة نفسها نسخة "خفيفة" لـ "فيسبوك" ومجموعة مختارة لمواقع إلكترونية أخرى، موحيةً بوجود دافع مغاير وراء المبادرة، أي كسب عملاء مستقبليين مربحين، قد يتغيّر الرأي العام السائد بسرعة كبيرة جداً. في النهاية، أدت محاولات "فيسبوك" صياغة السجال والانتصار على المشرِّعين بإطلاق حملة تسويقية ضخمة، إلى تحقيق نتائج عكسية. لذلك، إن أردت توصيل الرسالة الصحيحة حول فكرتك، فعليك أن تدرك بوضوح ما تريد تحقيقه. أخبر الناس عن أهدافك بطُرق يثقون بها، حتى إن كان لديك أكثر من هدف.

لمقاربة بديلة أكثر تناسباً مع السياق، خذ مثلاً شراكة "غوغل" مع "السكك الحديدية الهندية" لتركيب 400 نقطة اتصال لاسلكي بالإنترنت في أكثر محطات القطار ازدحاماً، والتي يقدّر أن توفر إمكانية الاتصال لاسلكياً بالإنترنت لأكثر من 10 ملايين شخص، حتى من خلال 100 نقطة فقط. وقد لقيَت مبادرة "غوغل" قبولاً أكثر من "فري بايزكس"، والسر في ذلك أن "غوغل" وعدت بمنتج بدا منصفاً: إنترنت كامل وسرعات عالية، تشبه المنتَج الذي يتمتع به من يستطيع تحمل تكلفته.

منطقياً، ثمة مفارقة مثيرة للسخرية في أن عدم المساواة ستكون أكبر من دون "فري بايزكس"، أو مبادرة "غوغل"، نظراً لان حوالي 80% من الشعب لا يتمتعون بأي نوع من الاتصال بالإنترنت على الإطلاق. مع ذلك، ونظراً إلى السياق، يغيب المنطق.

وفي نهاية الحديث عن موضوع فشل فيسبوك في الهند تحديداً، ستحتاج "فيسبوك" إلى التعافي من نكستها في الهند، ثاني أكبر أسواقها. أما أندرسن، في إدارة "فيسبوك"، ومبتكرون آخرون في مجال الرقميات، فبإمكانهم أخذ العبر مما قاله ستيف جوبز مرة: "التقنية وحدها لا تكفي، وإنما التقنية المقترنة بالفنون الحرة، والمقترنة بالعلوم الإنسانية، هي التي تحقّق لنا النتائج التي تجعلنا نطير من الفرح". كان جوبز يتحدث عن جهاز "آي باد 2"، إلا أن كلامه ينمّ اليوم عن فطنة استثنائية، إذ إن مبتكري الرقميات يفكرون في كيفية تحقيق نمو في أسواق العالم النامية، بسياقات شديدة الاختلاف عن سياقاتهم.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي