ملخص: لماذا ينطلق الرصاص في الهواء؟ إذا كان جوابك: قوة ضغط البارود المتفجر، فأنت محق. لكنك تحمل صورة ناقصة وتكتفي بجواب يقف عند فوهة المسدس! أحياناً ما يمنع منتجاتك من إصابة أهدافها ليس نقصاً في الجهد المبذول في تصميمها (البارود)، بل المقاومات الخفية في الهواء التي تعترض طريقها.
لماذا ينطلق الرصاص في الهواء؟ جواب هذا السؤال يكشف أحد الأسباب الخفية التي تطيح بمنتجات وخدمات وتسرّع بفناء شركات ومشاريع ومبادرات واعدة. سأل باحثان من جامعة نوردويستيرين الأميركية عدداً من الناس عن سر اندفاع الرصاص في الهواء. حصلا على الجواب نفسه تقريباً: البارود. حين يشتعل البارود يخلق ضغطاً داخل أنبوب المسدس والطريقة الوحيدة للتخلص من ذلك الضغط هو بدفع الرصاصة خارج الأنبوب.
إذا كنت ترى أن هذا الجواب صحيح، فأنت محق. لكنك تحمل صورة ناقصة وتكتفي بجواب يقف عند فوهة المسدس! وإلا فإن "المقاومة الخارجية" تؤثر بقوة في اندفاع الرصاصة أيضاً، وتحديداً الريح والجاذبية. فالعائق الحقيقي أمام الرصاصة هو تلك المقاومة، التي لا يمكن القضاء عليها بزيادة البارود، فعلى قدر الضغط على قدر المقاومة.
ما الذي يفسر إذاً فعالية الرصاصة في الانطلاق وإصابة هدفها؟ تصميمها! تصميمها بشكل يسمح لها بتقليص المقاومة الخارجية التي تعترض طريقها نحو الهدف!
يستعمل أستاذ علم نفس التنظيمي بكلية كيلوغ لإدارة الأعمال التابعة لجامعة نوردويستيرين الأميركية، لوران نوردغرين، وزميله ديفيد سكونثال هذا المثال لتوضيح كيف تفكر شركات بطريقة "البارود" حين تعترض خدماتها أو منتجاتها مشاكل، مهملةً المقاومة.
ثنائية التحريض والمقاومة
يحكي لوران نوردغرين كيف أنه قبل عدة عقود، طُلب من خبراء علم النفس المساعدة في رفع إقبال الناس على أخذ اللقاح المضاد لداء الكزاز. ركز الخبراء بدءاً في رسائلهم على أهمية أخذ اللقاح وما يدفعه من مخاطر دون طائل. لم تتجاوز استجابة الفئات المستهدفة 3%. بتغيير الرسالة ارتفعت نسبة الاستجابة إلى 28%. كيف؟
قدّم الخبراء هذه المرة خرائط للناس تبيّن موقع مركز اللقاحات الأقرب إليهم وطلبوا منهم كتابة موعد أخذ الجرعة على أجنداتهم. خطوتان بسيطتان رفعتا الإقبال على التلقيح. تبيّن أن الناس لم يكونوا بحاجة إلى مَن يقنعهم بأهمية التلقيح بل بمن يساعدهم على ترتيب التزاماتهم لتفادي نسيان أخذ الجرعة بموعدها.
يحلل أستاذ علم النفس التنظيمي لوران نوردغرين، في مقابلة مع الصحافي والكاتب الأميركي شانكار فيدانتام، العقبات التي تواجه الابتكارات انطلاقاً من ثنائية "التحريض والمقاومة" (Fuel and Friction).
يقوم التحريض، بحسب نوردغرين، على إذكاء جاذبية فكرة ما وتحسينها. تحريض الجمهور على استهلاك منتج. ومن ثم فتقديم تحفيزات وتوظيف النداء العاطفي وتقديم الأدلة والحجج على فائدة المنتج كلها أمور مصممة لتظهر قيمة الفكرة والمبادرة الجديدة. المقاومة (Friction) بالمقابل هي القوة النفسية أو مجموع القوى النفسية التي تقاوم التغيير. وتتخذ أشكالاً مختلفة كلها تعيق الابتكار.
كيف كسر "تيندر" والجيش الأميركي المقاومات؟
واجه مختصو التجنيد بالجيش الأميركي ما يطلق عليه خبير علم النفس التنظيمي نوردغرين "المقاومة العاطفية" (Emotional Friction). فعلى الرغم من اقتناع فئات مهمة من شباب البلاد بالانضمام إلى صفوف الجيش لما يحمله ذلك من قيم الاعتزاز والوطنية والتضحية والإباء، ظل الإقبال على التسجيل بصفوف الجيش منخفضاً جداً في الواقع.
لم تكن المشكلة في إغراء نداء الدفاع عن الوطن، بل في ضغط الآباء على أبنائهم لعدم التسجيل بالجيش. بدأ الجيش الأميركي يواكب هؤلاء الشباب في فتح حوار صريح ومسؤول مع أولياء أمورهم وأحياناً كان ممثلون عنه يحضرون النقاشات بين الأبناء والآباء أو يشاركون في خوضها.
"فعلى الرغم من طاقة الاستعداد الكبيرة التي لدى هؤلاء الشباب للانضمام إلى الجيش، كانت هناك "مقاومة عاطفية" تبعدهم عن صفوفه في النهاية"، يعلق لوران نوردغرين في حديثه مع الصحافي شانكار فيدانتام.
ويمكن التماس مثال آخر للمقاومة العاطفية بالفرق بين الجيل الأول والجيل الثاني من تطبيقات المواعدة عبر الإنترنت.
فحين يبحث شخص عن شريك على تطبيق مواعدة من الجيل الأول مثل (Match.com) يجد عدة أشكال من المقاومة العاطفية وعلى رأسها الخوف من الرفض. تطبيقات الجيل الثاني مثل تيندر (Tinder) تنبهت لهذا النوع من الخوف وأتت بحل مبتكَر للأمر، بحسب نوردغرين.
حين تتصفح تطبيقاً مثل تيندر يتم استعراض فقط الأشخاص الذين من الممكن أن تنجذب إليهم ولا يتم وصلك بأي شخص إلا إذا عبّر عن اهتمامه بك بدوره. هذا الأمر يخفض احتمال الرفض بشكل كبير، كما يوضح نوردغرين.
كيف يعمي البحث عن الإغراء الشركات؟
يعطي نوردغرين مثالاً آخر عن شركة أثاث أميركية اقترحت فكرة عبقرية على زبائنها تتمثل في تصميم الأثاث الذي يرغبون في اقتنائه هم أنفسهم وعلى ذوقهم، ما يعني أن كل زبون سيحصل على قطعة أثاث فريدة فعلاً ومنها نسخة واحدة في العالم.
وبالفعل وجد الزبائن الفكرة مغرية وبدؤوا تصميم قطع الأثاث التي يحبونها إما عبر موقع الشركة على الإنترنت أو داخل معارضها. بشكل غير متوقع، بدأ هؤلاء الزبائن ينسحبون حين لم يتبق أمامهم غير إتمام عملية الشراء.
قدّرت شركة الأثاث أنها ربما بحاجة إلى تحسين تجربة الزبائن أو اقتراح خصومات على السعر أو تحسين جودة المواد الأولية التي تصنع منها الأثاث. وكل هذه الافتراضات كانت غير صائبة، كما يعلّق أستاذ علم النفس التنظيمي في حواره مع شانكار فيدانتام ضمن بودكاست "هيدن برين" (Hidden Brain). لقد كان تركيز الشركة منصباً على جهة التحريض (Fuel).
لفهم المشكل، استدعت الشركة أستاذ الابتكار وريادة الأعمال بكلية كيلوغ لإدارة الأعمال ديفيد سكونتال وكلّفته بقيادة أبحاث معمقة في خلفيات وحاجيات هؤلاء الزبائن المختفين. توصل سكونتال إلى أن ما كان يمنع الزبائن من إتمام عمليات الشراء هو سؤال مؤرق مشترك بينهم جميعاً: ماذا سنصنع بالأثاث القديم بعد استقدام الأثاث الجديد؟ والشركة لم تكن تقدم حلاً.
اقترحت الشركة بعدها على زبائنها أخذ الأثاث القديم منهم عند توصيل الأثاث الجديد. مباشرة بعد تقديمها هذا العرض بدأت عمليات الشراء تتم دون مشاكل. "لم تكن الشركة بحاجة إلى تخفيض الأسعار أو زيادة عمليات التسويق أو تغيير نموذجها الاقتصادي بقدر ما كانت بحاجة إلى إزالة عقبة خفية كانت تمنع الزبائن من إتمام عملية الشراء". هذه العقبة إذاً كانت تسبب بمقاومة للعرض المغري.
مقاومات خفية تحتاج إلى استكشاف
الذي يحصل، حسب الخبير بعلم النفس، أننا تلقائياً نؤول السلوكيات علاقة بالقوى الداخلية مثل المحفزات والنوايا أي علاقة بما يغذيها ويحفزها (Fuel). لذا إذا أطلقنا منتجاً جديداً ولم يحقق ما يكفي من مبيعات فسنرجع السبب إلى نقص جاذبية المنتج، وحين تبدأ بتصور المشكل بهذا الشكل فأنت تحله بتحسين نداء المنتج (Product Appeal) ومن ثم فأنت لا تحله بنهاية المطاف.
بالمقابل، يوضح نوردغرين مستشهداً بخلاصات كتابه "العنصر البشري: التغلب على المقاومة التي تترصد الأفكار الجديدة"، أن المقاومة تفرض استكشافاً للمشكل وتحتاج إلى تحويل التركيز من المنتج أو الفكرة نفسها إلى الجمهور وسياق حاجياته العاطفية الأوسع نطاقاً. فبخلاف التحريض (fuel) تبقى المقاومة مستترة ما يتطلب استكشافاً لها وفهماً للجمهور وللسياق.
وفي الكتاب نفسه الذي ألّفه رفقة زميله بالكلية ديفيد سكونتال يشير المؤلفان إلى أن المقاومة تأتي بعدة أشكال، وفي الغالب ما نعجز عن تفكيك المقاومة لأننا ببساطة لا نراها.
فالإنسان يفضّل المسار الذي فيه أقل جهد، ويميل إلى المألوف على الغريب والجديد. فمثلاً، لو اقترحت فكرة جديدة في العمل وشهدتها تُرفض بشدة لأنها جديدة فأنت تواجه مقاومة سببها تفضيل الجمود على التغيير (Friction of Inertia).
لا أحد يريد كيكة سريعة التحضير!
يروي نوردغرين كيف راهنت شركات الغذاء الأميركية في ثلاثينيات القرن العشرين على اكتساح الموائد الأميركية حين أطلقت خليطاً لتحضير الحلويات يسمح بتحضير الكيكات بسرعة ودون عناء. كل ما تحتاجه إلى تحضير كيكة هو إضافة الماء للخليط وانتظار استوائها في الفرن. لم تجد ربات البيوت الأميركيات العرض مغرياً. وظل منحنى المبيعات يتحرك ببطء لعقدين.
نادت شركة جنرال ميليز (General Mills) المالكة لشركة ومنتج "بيتي كروكر" (Betty Crocker)؛ أي خليط كيكة، على خبير في علم النفس لحل لغز بطء المبيعات. تفطن الخبير إلى أن المنتج كان يواجه مقاومة لأسباب نفسية، فتحضير الكيكة ينم عن قيم مثل الرعاية والاهتمام والدفء الأسري، وتحضير كيك معلب بشكل سريع جاء على طرف النقيض من هذه القيم.
عدّلت الشركة منتجها وخطابها الإعلاني وصارت هذه المرة تقترح خليطاً يحتاج ممن يحضره إلى إضافة البيض الطازج وتحريكه في المزيج قبل إرساله إلى الفرن. تحريك البيض المفقوس على الخليط استعاد تلك الحاجة النفسية المفقودة في السابق. وبسرعة ارتفعت مبيعات المنتج.
نصبر على المعاناة ولا نترك قططنا وراءنا!
يروي نوردغرين قصة أخرى تفيد في فهم العراقيل الخفية التي تعرقل تنفيذ بعض الحلول. كانت ستايسي ألونزو تعمل بمأوى اسمه "The Shade Tree" خاص بمساعدة النساء والأطفال ضحايا العنف المنزلي.
مشهد غريب كان يتكرر مع ستايسي: تصل نساء حتى باب المأوى، يقفن أمامه لساعات أو دقائق ثم يولين ولا يعقبن. اكتشفت ستايسي أن السبب الذي كان يثني النساء عن الاستفادة من خدمات المأوى هو لافتة مكتوب عليها "ممنوع اصطحاب الحيوانات للمأوى".
بالنسبة للنساء، لم يكن معقولاً التخلي عن قططهم وكلابهم الأليفة وتركها وراءهم في بيوت سامة. حلَّ المأوى المشكل بإنشاء مبنى خاص لرعاية الحيوانات بجواره.
مصاعد مملة
قصة إضافة المرايا للمصاعد تكشف وجهاً آخر للمقاومات الخفية. يقول أليساندرو لانتيري، أستاذ الاستراتيجية والابتكار في كلية إدارة الأعمال التابعة للكلية العليا للتجارة في باريس (ESCP): "المصعد أعظم ابتكار بعالم العقارات التي حدثت منتصف القرن التاسع عشر حين بدأنا نبني البيوت بعضها فوق بعض".
قدم المصعد حلاً لقطاع العقار الذي كان يعرف تحولاً حينها مع بدء انتشار المباني العمودية وناطحات السحاب التي تُعد بدورها ابتكاراً بما أنها تستغل مساحة واحدة وتنتج منها عدة مساكن.
لكن سرعان ما سيتعرض هذا الابتكار ومعه قطاع العقار لمحنة شديدة. قابل الناس المصاعد باستياء شديد. وجدوها بطيئة. ما تسبب بنفورهم من السكن في المباني الشاهقة، وهو ما صار يهدد حينها ابتكار المصاعد بالفشل.
ما الحل؟ ابتكار مصاعد أسرع؟ إضافة عدد كبير من المصاعد لكل مبنى؟ أم تصنيع مصاعد تتسع لعدد كبير من الأشخاص؟ لا، الحل تركيب مرآة في المصعد!
"الابتكار لا يتعلق بميزات الحل بل بفهم ما يريده المستخدمون وتقديمه لهم، فمثلاً لو ابتكرنا مصاعد أسرع كيف سنحدد السرعة المطلوبة؟ يختلف الشعور بالبطء من شخص لآخر. إذا صنعنا مصاعد تتسع لعدد كبير من الأشخاص عليها أن تتوقف بكل طابق. أما إذا تم تثبيت عدة مصاعد بكل مبنى فستأخذ مساحة كبيرة وتصبح مكلفة"، يوضح لانتيري في جلسة حوارية شيقة حول "الابتكار والتأثير" نظمتها هارفارد بزنس ريفيو العربية.
ويواصل: "إذا حفرنا بشكل أعمق في القضية فسنجد أن الأمر لا يتعلق ببطء المصاعد بل بأن الناس تجدها مملة. فكان الحل في تركيب مرايا، لأن الناس تحب أن ترى نفسها فيها". الابتكار هو باختصار "الأداة المناسبة في الوقت المناسب"، كما يقول لانتيري.
على قدر الضغط على قدر المقاومة
الضغط على الجمهور يخلق مقاومة تعادله. يعطي أستاذ علم النفس التنظيمي لوران نوردغرين مثالاً لذلك بلافتتين وُضعتا لمنع الأشخاص من الكتابة على جدران أحد المراحيض العمومية. كُتب على واحدة "الرجاء عدم الكتابة على جدار المرحاض" وعلى الثانية "يمنع منعاً باتاً الكتابة على جدار المرحاض". اللافتة الثانية الأكثر صرامة خلقت رد فعل عكسياً. "فكلما ضغطت بشكل أكبر على الناس، قاوموك أكثر بشكل غريزي"، يعلق أستاذ علم النفس التنظيمي.
يمكن هنا التفكير فيما حصل من جدل حول لقاحات كوفيد-19. كلما زادت الأدلة على ضرورتها تعالت الأصوات الرافضة لها بشكل أكبر. وكما حصل مع لقاحات الكزاز عقوداً من قبل تبيّن أن الناس لم تكن بحاجة إلى مزيد من الأدلة بل إلى مساعدة بتفكيك مشاكل ترتبط بترتيب الأولويات.
يرى نوردغرين أن كثيراً من الشركات تفشل في المضي قُدماً بمنتجاتها بسبب تركيزها على ما يمكن أن يدفعها إلى الأمام عوضاً عن التركيز على ما يمنعها من التقدم.
ويقدم لوران مثالاً ثانياً بجامعة شيكاغو التي شهدت انخفاض طلبات التقدم للدراسة بها لسنوات متتالية. مثلاً سنة 2005 تقدم للدراسة بجامعة برينستون 28 ألف طالب مقابل أقل من 4 آلاف طالب لجامعة شيكاغو. للوهلة الأولى، فسرت الجامعة تدني الإقبال على الدراسة داخل أسوارها بمعاييرها الصارمة.
غير أن السبب كان مختلفاً. كانت الجامعة تطلب من المترشحين كتابة موضوع بشروط دقيقة وخاصة ومختلفة عما هو جار به العمل بباقي الجامعات، ما كان يستنزف المترشحين. قبل سنوات، قررت جامعة شيكاغو إسقاط مسطرة الترشيح الخاصة بها واتباع نظام الترشيح نفسه المعتمد لدى الجامعات المنافسة لها، ما نتج عنه مباشرة ارتفاع قياسي في عدد طلبات التقدم.
الممانعة
سنة 1984، صادقت ولاية نيويورك على أول قانون يلزم السائقين بوضع حزام السلامة. ومع أن هذا القانون يرمي إلى حماية عشرات آلاف الأرواح فقد أنه واجه ما يسميه نوردغرين بالممانعة (Reactance) وهي أحد أشكال المقاومة وفق تعريفه لها.
يقول نوردغرين: "يرغب البشر طبيعياً في بسط نفوذهم والتحكم في محيطهم، وإلا فالابتكار وإحداث التغيير والتأثير يعارض هذه الحاجة البشرية الأساسية. يتمثل البشر التغييرات كقيود على حريتهم. ومن ثم رد الفعل هو الرفض لاستعادة الاستقلالية والنفوذ".