لا يمكن التشكيك في منطق نهج التوظيف القائم على المهارات، فالمواهب نادرة، والتقدم في تعزيز تنوع القوى العاملة لا يزال بطيئاً، لذلك من المنطقي أن تحاول الشركات الوصول إلى أكبر عدد ممكن من المرشحين المحتملين عند التوظيف. والطريقة البديهية لتحقيق ذلك هي التوقف عن اشتراط الحصول على شهادة جامعية في العديد من الوظائف الشاغرة، وهي ممارسة تؤدي وفقاً لتقرير مكتب الإحصاء لعام 2023 إلى استبعاد نحو ثلثي الموظفين عن المنافسة على الوظائف وتؤثر في الموظفين المحتملين من أصول إفريقية ولاتينية أكثر من غيرهم.
استجابة لذلك، تعهّد العديد من الرؤساء التنفيذيين الآن بإلغاء المطالبة بالشهادات الجامعية في إعلانات الوظائف الشاغرة لدى شركاتهم. لكننا أجرينا مؤخراً بحثاً يشير إلى وجود فجوة كبيرة بين ما تنص عليه إعلانات الوظائف وما تفعله الشركات في الواقع. اكتشفنا أن عدد إعلانات الوظائف الشاغرة التي كانت تتطلب شهادات جامعية في السابق ولم تعد تتطلبها الآن تضاعف 4 مرات على مدى السنوات العشر الماضية، ولكن مقابل كل 100 إعلان من هذه الإعلانات، كانت الزيادة في عدد الموظفين الجدد من الذين لا يحملون شهادات جامعية أقل من 4 مرشحين.
لا تتعلق المسألة بسوء النية، إذ ليس لدينا شك في أن الشركات غيّرت سياساتها بناءً على رغبة صادقة في أن يؤدي إلغاء متطلبات الشهادات الجامعية إلى توفير مجموعات جديدة من المرشحين الأكفاء والمتنوعين.
تكمن المشكلة في أن غالبية الشركات تعتقد أن ما تحتاج إليه لإحداث التغيير هو التوقف عن ممارساتها القديمة (المطالبة التلقائية بشهادة جامعية في حين لا حاجة لها) بدلاً من الشروع في ممارسات جديدة (تطبيق ممارسات جديدة تعزز عملية توظيف شاملة ومنصفة أكثر).
هذه قصة قديمة تتكرر. في عالم الشركات، تسعى الجهات التنظيمية إلى الحد من التجاوزات، لكن بعض الجهات الفاعلة تجد دائماً ثغرات للالتفاف حول القواعد الجديدة. ينطبق الأمر نفسه على التوظيف القائم على المهارات. يعدّل المسؤولون التنفيذيون سياسات التوظيف، لكن الآلاف من مدراء التوظيف يجدون طرقاً للتفكير والتصرف بالطريقة التي اعتادوها دائماً.
إن القصور الذاتي في نهج التوظيف القائم على المهارات غير مفاجئ تماماً؛ فليست هناك طريقة مؤكدة لضمان نجاح المرشح للوظيفة في دور جديد. وفي غياب أدوات فرز فعالة، أصبح المدراء يعتمدون على شهادة البكالوريوس بصفتها معياراً لقدرة المرشح على التعلم والتطور في وظيفة جديدة، وأيضاً طريقة سهلة لتقليص مجموعة المتقدمين للوظيفة.
في الوقت الحالي، الشهادات الجامعية المطلوبة في قطاعات الرعاية الصحية والمعلومات قليلة نسبياً، وذلك بسبب قبول شهادات معتمدة وواضحة في هذه القطاعات بديلاً عن الشهادات الأكاديمية. يدرك مدراء التوظيف مثلاً أن المرشح الحاصل على شهادة سيكيوريتي بلس (+ Security) يتمتع بمعرفة أساسية بالأمن السيبراني، وأن المرشح الحاصل على شهادة مختص في أمن نظم المعلومات المعتمد (CISSP) يتمتع بخبرة أكبر. وبالتالي يمكن للمدراء في هذه القطاعات الاعتماد على هذا النوع من الشهادات عند اتخاذ قرارات التوظيف بدلاً من الاعتماد على الاستدلالات المبنية على شهادة البكالوريوس فقط.
لكن تفتقر غالبية المهن إلى مثل هذه الشهادات. ومن دون إرشادات عملية حول كيفية تقييم مهارات المرشح، سيستمر العديد من مدراء التوظيف حتماً بالاستعانة بدرجة التحصيل العملي على اعتبارها طريقة ملائمة لفرز المتقدمين واختيار المرشحين النهائيين، بغض النظر عن المتطلبات الفعلية المذكورة في إعلانات الوظائف. لكن أبحاثنا تشير إلى أنهم سيدفعون ثمناً لفعل ذلك؛ فقد وجدنا أن الموظفين الذين لا يحملون شهادات جامعية تزيد احتمالات بقائهم في شركاتهم بنسبة 20% مقارنة بنظرائهم الحاصلين على شهادات جامعية.
6 خطوات عملية لتطبّق نهج التوظيف القائم على المهارات
إلى أن يمتلك المدراء أدوات أثبتت فعاليتها لتقييم مهارات المرشحين -وقد لا يحدث ذلك أبداً- ثمة 6 خطوات عملية يمكن اتخاذها لتزويد مدراء التوظيف بالأدوات اللازمة لتطبيق نهج التوظيف القائم على المهارات حقاً:
1) احتفِ بالأمثلة الناجحة على التوظيف القائم على المهارات ووضح إمكاناته لمدراء التوظيف
في مجال تحفيز الأشخاص، يمكن أن تفوق قيمة قصة نجاح واحدة قيمة كمّ هائل من الحقائق. لذلك يجب على الشركات الاحتفاء بنجاحاتها في التوظيف القائم على المهارات، وعرض أمثلة فعلية عليه.
واحدة من أفضل الطرق لتحقيق ذلك هي البدء من القمة. على سبيل المثال، تسلط شركات مثل ديل (Dell) وغرينجر (Grainger) الضوء على قادة في جميع أنحاء المؤسسة ممن ارتقوا على السلم الوظيفي دون الحاجة إلى شهادة جامعية. قصص النجاح هذه مهمة في تشكيل ثقافة الشركة ومنح مدراء التوظيف الحرية للنظر في شريحة أوسع من المواهب.
2) استنساخ تجربة النجاح
ادرس قصص النجاح هذه بعناية لأنها تحتوي على مؤشرات حول قدرة المرشح على تقديم أداء استثنائي؛ هل هناك قواسم مشتركة في خبرات أصحاب هذه القصص أو تاريخهم الوظيفي السابق؟ ما هي الأدوار التي جرى تعينهم فيها في البداية؟ ما هو المسار الذي سلكوه للوصول إلى مناصب أعلى؟ هل كانت لديهم خبرات عمل أو تدريب أو تطوير مهني مشتركة؟ على سبيل المثال، طرحت شركة كومكاست مثل هذه الأسئلة على نفسها، فحللت قوتها العاملة كلها لتحديد المهارات الأهم للنجاح في كل دور.
من المهم أيضاً معرفة إذا ما كانت هناك وحدات معيّنة داخل المؤسسة تبرز في مجال التوظيف القائم على المهارات. هل هناك وحدات أو أقسام تستمر في تعيين موظفين لا يحملون شهادات جامعية وتطويرهم؟ هل هناك مدراء توظيف أو مشرفون لديهم سجلات مميزة في تنمية مثل هذه المواهب؟ إذا كان بمقدورك تحديد أنماط نجاح واضحة، فيمكنك محاولة استنساخها والاستفادة منها.
3) حدد المتطلبات والأدلة المقبولة
عندما سعت شركة وول مارت إلى تطبيق نهج قائم على المهارات في التوظيف، بدأت بإنشاء توصيفات وظيفية جديدة تحدد بدقة المهارات اللازمة لأداء الوظيفة بدلاً من مجرد تعديل الأوصاف الوظيفية الحالية. الهدف هو تحديد المهارات اللازمة للنجاح منذ البداية، وليس المهارات التي ننظر إليها على أنها "ميزة إضافية" عموماً أو المكتسبة فقط من خلال خبرة عملية كبيرة. يمكن لهذه المهارات "الإضافية" أن تحجب بسهولة ما هو مهم حقاً في الوصف الوظيفي وقد تردع المتقدمين المؤهلين.
للبدء بعملية تحديد المتطلبات، يجب أن تسأل مدراء الموارد البشرية عن المهارات المحددة التي يحتاج إليها الموظفون الجدد ليكونوا منتجين في الوظيفة المعلن عنها، والإطار الزمني المعقول الذي يجب أن يثبتوا فيه امتلاكهم هذه المهارات. إن التركيز على مثل هذه المهارات جانب مهم لأن بعض المهارات يمكن اكتسابها في أثناء أداء الوظيفة. على وجه التحديد، يجب ألا يكون الموظفون الجدد مطالبين بامتلاك المهارات المتقدمة التي يتمتع بها الموظفون المخضرمون.
بمجرد الحصول على هذه المعلومات، اطلب من مدراء الموارد البشرية تحديد ما يشكل دليلاً جيداً على إتقان المهارة. هل هو شهادة اعتماد؟ أم خبرة عمل سابقة؟ أم جودة الأداء في اختبار خاص بالقطاع أو الشركة؟ يمكن أن تكون هذه الجوانب كلها مؤشرات أفضل من الشهادة الجامعية على مؤهلات المرشح ويمكن أن تطمئن مدراء التوظيف إلى أنهم يتبعون النهج الصحيح في اتخاذ قرارات التوظيف بناءً على المهارات.
4) إعادة تصميم عملية إعداد الموظفين المعيّنين على أساس المهارات ودعمهم
لا تنتهي عملية التوظيف القائم على المهارات الفعالة في مرحلة التوظيف. قد يتمتع الموظفون الذين لا يحملون شهادات جامعية بالمهارات الفنية المناسبة بالفعل، لكنهم في بعض الأحيان ربما لم يطوروا بعد رأس المال الاجتماعي الذي يمتلكه نظراؤهم من حاملي الشهادات. وقد يواجهون صعوبة أكبر في التأقلم مع تفاصيل ثقافة العمل، أو قد يفتقرون إلى الثقة بالنفس للتفاعل بثقة مع الرؤساء أو الزملاء خارج وحدتهم المباشرة أو العملاء.
يمكن للشركات تقديم المساعدة من خلال تنفيذ برامج تخفف من المخاطر المرتبطة بتوظيف غير الحاصلين على شهادات خلال فترة تأهيلهم الأولي أو من خلال الجهود المستمرة لإدماجهم. على سبيل المثال، اتخذت شركة أكسنتشر (Accenture) العديد من الخطوات الناجحة في هذا الاتجاه. حيث ترسل الشركة للموظفين الجدد مواد الإعداد والتوجيه السهلة الاستخدام قبل أسبوعين من بدء العمل، ما يساعد على تخفيف القلق والحد من احتمالات مغادرتهم العمل. وخلال عملية إعداد الموظفين الجدد نفسها، تستخدم الشركة أجهزة الواقع الافتراضي للتأقلم وممارسة التمارين الجماعية (التي لا تقلل من وقت التدريب في القاعات الدراسية فحسب، بل تبرز أيضاً التطور التقني لشركة أكسنتشر)، وتضع خطة توجيهية للمهارات الخاصة بكل دور مع إجراء عمليات مراجعة دورية للتقدم المحرز. كما أنها تشكل مجموعات دعم للأقران (بحسب النوع والعِرق) مع قادة مجموعات من ذوي الخبرة يجري اختيارهم من الفئة السكانية ذات الصلة.
5) طبّق نهج الترقية القائمة على المهارات فعلاً قبل تجربة التوظيف القائم على المهارات
التوظيف ممارسة مرتبطة بإدارة المخاطر، إذ يمكن أن يكون قرار التوظيف السيئ خطأً يكلّف الشركة ما لا يقل عن ثلث راتب الموظف في عامه الأول، ومن الطبيعي أن يحذر المدراء من تحمل مثل هذه التكاليف. تمنح هذه المخاطر المدراء حافزاً قوياً، وإن كان ضمنياً، لاختيار المرشح الذي يبدو لهم الخيار الأكثر أماناً، عادة من خلال تفضيل أصحاب الشهادات الجامعية وغيرها من المؤهلات التي يسهل تقييمها والتحقق من صحتها.
بالنظر إلى هذه المخاطر، من الحكمة التفكير في الترقية من داخل الشركة قبل التوظيف من الخارج؛ ففوائد الترقية الداخلية القائمة على المهارات واضحة، إذ يمكن للمسؤولين التنفيذيين ومدراء التوظيف تقييم مؤهلات الموظف الحالي للترقية بفعالية أكبر لأن مهاراته وقدراته والتزامه هي عناصر معروفة ومثبتة بالفعل. تتلاشى أهمية الشهادات وغيرها من أوراق الاعتماد البديلة الأخرى عند مقارنتها بالبيانات الموثقة، بشرط تخصيص موارد كبيرة لإعداد الموظفين للتنقلات الوظيفية المستمرة، مثلما فعلت شركة سيسكو (Cisco) فيما تسميه برحلة التوظيف القائمة على المهارات.
ينطبق المنطق نفسه على المتدربين والمشاركين في برامج التدريب الداخلية وبرامج التعلم الأخرى القائمة على العمل. يجب على الشركات أن تتخذ خطوات لضمان البحث بين موظفيها ذوي الأجور الأقل عن مرشحين للترقية، وأن تتأكد من توافر برامج لمساعدتهم على اكتساب المهارات اللازمة للتأهل لمثل هذه الفرص والترويج لها على نطاق واسع.
6) الاعتراف بأن العديد من الوظائف تتطلب شهادة جامعية بالفعل
يمكن أن يكون هذا الاعتراف مفيداً للجميع. فهناك العديد من المهن، إلى جانب تلك التي تتطلب شهادات عليا، تُعد الشهادة الجامعية مؤهلاً مشروعاً لها.
تأمّل كيف تتعامل شركة آي بي إم الرائدة في مجال التوظيف القائم على المهارات مع هذه المسألة. تقول الشركة إنها ألغت متطلبات الشهادات الجامعية من نصف الأوصاف الوظيفية، وإن 20% من الموظفين الجدد لا يحملون شهادات جامعية. لكن الشركة اتبعت نهجاً مختلفاً في بعض المجالات؛ ففي عام 2017، كانت 21% من الأوصاف الوظيفية لأدوار تكنولوجيا المعلومات لديها تتطلب درجة البكالوريوس، ولكن بحلول عام 2021، ارتفع هذا الرقم إلى 27%. في سياق الانخفاض العام، لا يمثل هذا تراجعاً، بل معايرة دقيقة. من الواضح أن الشركة قيّمت الأدلة وخلصت إلى أن بعض الأدوار هي بالفعل أكثر ملاءمة للموظفين الحاصلين على شهادات جامعية.
سيصبح التوظيف القائم على المهارات في النهاية جانباً مهماً من استراتيجيات التوظيف في الشركات. لكن الطريق لن يكون سهلاً. لقد زاد نحو 40% من الشركات التي درسناها بالفعل عدد الموظفين الذين لا يحملون شهادات جامعية بنسبة 20%. وإذا اعتمدت الشركات كلها بلا استثناء هذا النهج، فسيؤدي ذلك إلى توفير 1.5 مليون فرصة عمل أمام المواهب التي لا تحمل شهادات جامعية، وهو رقم أكبر بـ 15 مرة مما لاحظناه حتى الآن.