في حديث جينسن هوانغ عن أسلوبه القيادي، صرّح لصحيفة نيويورك تايمز قائلاً: ”أعتقد أنني أصبحت أقدّم عدداً أقل من الإجابات وأطرح عدداً أكبر من الأسئلة. بات بإمكاني أن أقضي يوماً كاملاً تقريباً دون أن أفعل شيئاً سوى طرح الأسئلة”. وأضاف: ”من خلال طرح الأسئلة الاستقصائية، أساعد فريقي الإداري على استكشاف أفكار لم يكونوا يدركون أهميتها”.
امتدت الحاجات الملحة الطارئة والتقلبات المفاجئة التي لطالما واجهتها شركات التكنولوجيا إلى قطاعات أكثر نضجاً، ما جعل من طرح الأسئلة مهارة أساسية. ومع التقدّم الهائل في الذكاء الاصطناعي، حدث تغيير جذري؛ إذ لم يعد العنصر الأهم يتمثل في الإجابات، بل في القدرة على صياغة أسئلة ذكية. ولم يعد الوصول إلى المعلومات مهماً، بل المهم هو القدرة على صياغة أوامر بحثية ذكية. وقد صرّحت الرئيسة التنفيذية لشركة سيتي (Citi)، جين فريزر، لمجلة فورتشن قائلة: ”لم يعد القائد مُطالَباً بامتلاك الإجابات؛ بل على موظفيه وأعضاء فريقه امتلاكها، ما أدى إلى إحداث تغيير جذري في أساليب قيادة المؤسسات؛ إذ أصبحت مهمته إطلاق العنان لطاقات الإبداع، فالابتكار لا ينبع من وجود عبقري على رأس الشركة يوفر الحلول للمشكلات كلها”.
فكرة المقال باختصار:
الموقف
في ظل ازدياد الحاجات الملحة الطارئة والتقلبات المفاجئة التي تواجهها المؤسسات بمختلف أنواعها، باتت القدرة على طرح أسئلة ذكية عنصراً أساسياً. غير أن المهنيين في عالم الأعمال لا يتلقون تدريباً رسمياً على هذه المهارة.
ما هي أسباب
صعوبة هذا الأمر؟ غالباً ما تصبح خبرة المدراء عائقاً يحجب عنهم الأفكار الجديدة، كما أن كثافة تدفق الأسئلة تصعب التعامل معها فوراً، ما يؤدي إلى عدم طرح بعض المخاوف والرؤى أبداً.
الحل
يمكن تصنيف الأسئلة الاستراتيجية إلى 5 أنواع: استقصائية، وافتراضية، وإنتاجية، وتفسيرية، وذاتية. ومن خلال الاهتمام بكل نوع منها، تزداد قدرة القادة وأعضاء فرقهم على استكشاف مختلف الجوانب، واستخلاص معلومات وخيارات ربما ظلت خافية عليهم لولا ذلك.
وقد أدرك القادة أهمية الاستماع وحب الاستطلاع والتعلّم والتواضع، وهي صفات أساسية لإتقان مهارة طرح الأسئلة بذكاء. كما أن ”العصف الذهني بطرح الأسئلة”، أي تبادل الأفكار عبر طرح الأسئلة بدلاً من الإجابات، أصبح تقنية معتمدة لتعزيز القدرة على الإبداع. غير أن قادة الأعمال، بخلاف المحامين والأطباء وعلماء النفس، لا يتلقون تدريباً رسمياً على نوعية الأسئلة التي ينبغي طرحها؛ لذلك عليهم التعلم بالممارسة. (انظر مقال ”القوة المدهشة للأسئلة” (The Surprising Power of Questions) في هارفارد بزنس ريفيو، عدد مايو/أيار–يونيو/حزيران 2018، وغيره).
مع التقدّم الهائل في الذكاء الاصطناعي، حدث تغيير جذري؛ إذ لم يعد العنصر الأهم متمثلاً في الإجابات، بل في القدرة على صياغة أوامر بحثية ذكية.
لا علاقة للأمر بطرح أكبر عدد ممكن من الأسئلة على أمل الوصول إلى الأسئلة الصحيحة في النهاية؛ فقد أوضحت النائبة السابقة لرئيس قسم التطوير الإبداعي في شركة هيرميس (Hermès)، كورين دوجيه، قائلة: ”خلال اجتماع يستغرق ساعة واحدة، لا يمكنك طرح سوى عدد محدود من الأسئلة؛ فما هي الأسئلة التي ينبغي التركيز عليها؟ عندما تطرح سؤالاً معيناً، فإنك في الوقت نفسه تحرم نفسك من طرح سؤال آخر”. وإذا هيمن أحد مسارات الأسئلة على النقاش، فإنه سيُفضي بالضرورة إلى إقصاء المسارات الأخرى. وعلى القائد الانتباه أيضاً إلى مخاطر القناعة بالوضع الراهن وتراجع العوائد وتجنُّب الموضوعات الحساسة والعناد.
لاحظنا خلال أبحاثنا وجلساتنا الاستشارية على مدار العقد الماضي أن أنواعاً معينة من الأسئلة بدأت تلقى صدى واسعاً في عالم الأعمال. وخلال مشروع امتد 3 أعوام، طلبنا من المسؤولين التنفيذيين ممارسة ”العصف الذهني بطرح الأسئلة” حول القرارات التي واجهوها وأنواع التساؤلات التي اعتمدوها. ونعرض لك في هذا المقال خلاصة ما توصلنا إليه، ونقدّم إطاراً عملياً لأنواع الأسئلة التي ينبغي طرحها عند صناعة القرارات الاستراتيجية، بالإضافة إلى أداة تساعدك على تقييم أسلوبك في طرح الأسئلة.
الأسئلة الجوهرية غير المطروحة
قبل أن نعرض الإطار العملي، نود أن نلفت الانتباه إلى نقطة أساسية، وهي أن المشكلات التي يواجهها القادة والفرق لا تنتج عن الأسئلة التي تُطرح على طاولة النقاش، بل عن أسئلة لم تُطرح أصلاً؛ فهذه الأسئلة لا تتبادر إلى الذهن تلقائياً، بل تحتاج إلى تحفيز وجهد واعٍ لاستحضارها. قد تتعارض هذه الأسئلة مع عاداتكم الفردية أو الجماعية، ومع اهتماماتك أنت وأعضاء فريقك، وأنماط تفاعلكم المعتادة.
قال المفكر الراحل في مجال القدرات القيادية وإدارة الأعمال، سومانترا غوشال، إن القيادة تعني تحقيق ما لم يكن ليحدث لولا تدخل القائد. وفي مجال طرح الأسئلة، يتمثل دور القائد في استكشاف المعلومات والرؤى والخيارات، وإبراز الأسئلة الحاسمة التي غفل عنها الفريق. لست مطالباً بأن تتولى صياغة الأسئلة غير المطروحة بنفسك، لكن عليك أن توجه الانتباه إلى المسائل المُهمَلة ليتمكن الآخرون من طرحها.
ولكن الأمر أكثر تعقيداً مما قد يبدو للوهلة الأولى، وذلك لسببين: أولاً، قد تكون خبرتك ذاتها عائقاً لك؛ إذ قد تؤدي إنجازاتك المهنية وخبراتك الواسعة إلى تقويض طريقتك في حل المشكلات. (انظر مقال ”لا تدعوا خبرتكم تعمي بصيرتكم” (Don’t Be Blinded by Your Own Expertise) في هارفارد بزنس ريفيو، عدد مايو/أيار–يونيو/حزيران 2019). وقد تجد صعوبة في التخلص من هذا النمط ما لم تراجع عاداتك في طرح الأسئلة بوعي. ثانياً، قد تجد صعوبة في التعامل مع تدفق الأسئلة وتنوعها خلال النقاشات الحادة، وغالباً ما تدرك بعد فوات الأوان أن بعض المخاوف أو البدائل لم تُطرح للنقاش إطلاقاً.
أثبتت أبحاثنا أن الأسئلة الاستراتيجية يمكن تصنيفها إلى 5 أنواع: استقصائية، وافتراضية، وإنتاجية، وتفسيرية، وذاتية. ويكشف كل نوع منها جانباً مختلفاً من عملية صناعة القرار. وعند توظيف هذه الأنواع معاً، فإنها تساعدك على التعامل مع القضايا الأساسية التي كثيراً ما يغفل عنها القادة والفرق.
ما الذي نعرفه؟
عندما يواجه صانع القرار الفعّال مشكلة أو فرصة، فإنه يبدأ بتوضيح غايته، أي تحديد ما يريد تحقيقه وما يحتاج إلى معرفته لإنجازه. ويمكن تعزيز هذه العملية عبر سلسلة متعاقبة من أسئلة ”لماذا؟” على غرار تقنية ”أسئلة لماذا الخمسة” التي ابتكرها مدراء شركة تويوتا، كما أن تكرار طرح سؤال ”كيف؟” يساعد أيضاً على تجاوز الحلول السطحية والتوصُّل إلى بدائل أكثر تطوراً؛ إذ تمثل الأسئلة الاستقصائية وسيلة للتعمق واستخلاص المعلومات الخفية؛ فأحد أكثر الأخطاء شيوعاً هو الاكتفاء بسطحية الاستقصاء.
قد تبدو هذه العملية بسيطة للوهلة الأولى، لكن الإخفاقات فيها شائعة إلى أبعد الحدود؛ ففي عام 2014، أدى الفشل في الاستقصاء إلى إغفال فريق بشركة السكك الحديدية الفرنسية، إس إن سي إف (SNCF)، بيانات أساسية خلال صفقة شراء إقليمية بقيمة 15 مليار يورو شملت 1,860 قطاراً. لم يخطر ببال أي أحد أن يتساءل عما إذا كانت مقاييس أرصفة المحطات موحَّدة، لكنها لم تكن كذلك؛ فقد تبين أن القطارات كانت أعرض من أن تمر عبر 1,300 محطة قديمة، ما استلزم إنفاق 50 مليون يورو لإصلاح هذا الخطأ. كما اكتشفت شركة السكك الحديدية الإسبانية، رينفي (Renfe)، خطأ مشابهاً عام 2021: إذ تبين أن 31 قطاراً من قطارات الضواحي الحديثة التي طلبتها الشركة كانت أعرض من أن تمر عبر بعض الأنفاق الجبلية المخصصة لها. اكتشفت الشركة المشكلة قبل تصنيع القطارات، لكن موعد التسليم تأخر فترة كبيرة.
ماذا لو؟
في حين تساعدك الأسئلة الاستقصائية على تحديد المشكلة وتحليلها بعمق، تساعدك الأسئلة الافتراضية على النظر إليها من زاوية أوسع. ولإعادة صياغة المشكلة أو البحث عن حلول مبتكرة، على القائد طرح أسئلة من قبيل: ”ماذا لو؟” و”ما هي البدائل؟” وقد رسخت شركة التصميم العالمية، آيديو (IDEO)، هذا النهج عبر استخدامها المنتظم لعبارة ”كيف يمكننا؟”، وهي عبارة صاغها مين باسادور عندما كان مديراً شاباً في شركة بروكتر آند غامبل (P&G) للتغلب على الافتراضات المقيِّدة وتحفيز حل المشكلات بأسلوب إبداعي.
على سبيل المثال، فاز فريق طيران الإمارات نيوزيلندا لليخوت الشراعية (Emirates Team New Zealand) بكأس أميركا عام 2017 مستخدماً قارباً مبتكراً من نوع كاتاماران، حيث عمل الفريق على توليد الطاقة عبر قيادة دراجات ثابتة بدلاً من استخدام المقابض اليدوية التقليدية لتشغيل الأنظمة الهيدروليكية.
ظن كثيرون أن السؤال المحوري كان: ”ماذا لو استخدمنا قوة الأرجل بدلاً من قوة الذراعين؟” لكن هذه الفكرة لم تكن جديدة؛ إذ سبق لمنافسين آخرين التفكير فيها ورفضوها خوفاً من تقييد حركة الطاقم على متن القارب، بل إن أحد الفرق سبق أن جرّبها فعلياً.
تمثل الأسئلة الاستقصائية وسيلة للتعمق واستخلاص المعلومات الخفية. أحد أكثر الأخطاء شيوعاً هو الاكتفاء بسطحية الاستقصاء.
أما فريق نيوزيلندا فقد اتخذ خطوة إضافية؛ إذ تساءل: ”ما هي المزايا الأخرى التي يتيحها نظام التبديل بالدواسات؟” أدرك الفريق أن بإمكانه تحرير أيدي الطاقم لتشغيل الأنظمة الهيدروليكية باستخدام مقابض مثبتة على المقود. وقد سمح هذا التغيير بتوزيع الأدوار بين أفراد الطاقم بصورة أكثر توازناً، ما أتاح تنفيذ عدة مناورات بسرعة أكبر. وقد مكنّهم هذا من قيادة القارب بدقة وشراسة، ما أدى إلى تحقيق فوز مفاجئ على فريق أوراكل الأميركي (Oracle Team USA).
وماذا بعد؟
تساعدك الأسئلة الإنتاجية على تقييم توافر المواهب والقدرات والوقت، وغيرها من الموارد، كما تؤثر في سرعة صناعة القرار وإطلاق المبادرات وإيقاع النمو.
في تسعينيات القرن العشرين، رسَّخ الرئيس التنفيذي لشركة آلايد سيغنال (AlliedSignal)، لاري بوسيدي، ثقافة ترتكز على التنفيذ العملي؛ إذ أصرّ على طرح أسئلة دقيقة ومتكررة حول كيفية تنفيذ الاستراتيجية: ”كيف سننجز هذه المهمة؟”، ”كيف سننسق جهودنا؟”، ”كيف سنقيس التقدم؟” وهلمّ جراً. تساعد هذه الأسئلة على تحديد المقاييس الأساسية والمعالم المهمة، فضلاً عن اكتشاف المعوقات المحتملة، ما يسهّل توجيه الأفراد والمشروعات وضمان سير الخطط ضمن المسار الصحيح، كما تكشف هذه الأسئلة عن المخاطر، ومنها الأعباء التي قد تستنزف قدرات المؤسسة.
غفل الفريق القيادي في شركة ليغو (Lego) عن طرح الأسئلة الإنتاجية عندما واجه تصاعد شعبية الألعاب الرقمية مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة. وحاولت الشركة الخروج من مأزقها عبر تنويع أنشطتها، فطرحت عدة منتجات متتالية بوتيرة سريعة. ولم تكن هذه المبادرات خاطئة بحد ذاتها، لكنها مثّلت في كل مرة توسعاً نحو قطاعات متجاورة، سواء في البرمجيات مثل ”ليغو موفي ميكر” (LEGO Movie Maker) أو المفاهيم التعليمية مثل ”ليغو إدجوكيشن” (LEGO Education) أو الملابس مثل ”ليغو وير” (LEGO Wear)، لكنها مجتمعة تجاوزت الطاقة الاستيعابية للشركة، ما أدى إلى تكبُّدها خسائر قياسية عام 2003. وعندما تولّى الرئيس التنفيذي الجديد، يورغن فيغ كنودستورب، قيادة الشركة، قدّم تحليله للمشكلة أمام مجلس الإدارة قائلاً: ”بدلاً من التوسع في مجال واحد كل 3 إلى 5 أعوام، توسعنا في 3 إلى 5 مجالات كل عام”. وأوضح لاحقاً للأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ديفيد روبرتسون، قائلاً: ”وجدنا أنفسنا ندير أنشطة متعددة لم نكن نلم بها. لم تكن لدينا الإمكانات، ولم نكن قادرين على مواكبة وتيرتها بالسرعة المطلوبة”.
قد يرفض أعضاء الفريق التعبير عن شكوكهم لمجرد أن أحداً آخر لم يفعل ذلك، وهو نمط اجتماعي يُعرف بظاهرة الجهل التعددي.
وماذا بعد؟
تمكِّنك الأسئلة التفسيرية، أو أسئلة فهم المعنى، من تحقيق التكامل بين الأفكار؛ فهي تدفعك إلى إعادة تعريف جوهر المشكلة باستمرار متجاوزاً المظاهر السطحية عبر طرح سؤال مثل: ”ما هي المشكلة الحقيقية التي نواجهها؟" وتمثل الأسئلة التفسيرية امتداداً طبيعياً للأسئلة الاستقصائية والافتراضية والإنتاجية؛ إذ تساعد على استنباط دلالات أي ملاحظة أو فكرة. فعقب طرح سؤال استقصائي، يمكنك أن تسأل: "ماذا لو استمر هذا التوجه؟"، وبعد سؤال افتراضي، يمكنك أن تتساءل: "ما هي الفرص التي تتيحها هذه الفكرة؟"، وبعد سؤال إنتاجي، يمكنك أن تتساءل: "ما الذي تعنيه هذه النتائج لخططنا التوسعية؟".
تتخذ الأسئلة التفسيرية أشكالاً أخرى أيضاً، مثل: ”ما الذي تعلمناه من هذه التجربة؟”، ”ما هي الفائدة العملية منه؟”، ”هل نطرح الأسئلة الصحيحة؟”. في مقابلة للرئيس التنفيذي لشركة سبوتيفاي (Spotify)، دانيال إك، على برنامج ذا تيم فيريس شو (The Tim Ferriss Show)، تحدّث عن رؤيته لدوره الرئيسي قائلاً: ”الأمر يعود دائماً إلى الغاية، مثل: لماذا نفعل ما نفعله؟ ما هي أهميته؟ كيف يصبّ هذا في خدمة رسالة الشركة؟”
ينبغي أن تعود عملية صناعة القرار دائماً إلى الأسئلة التفسيرية؛ فهي التي تولّد الزخم اللازم للانتقال بين أنماط الأسئلة المختلفة، كما تحوّل المعلومات إلى رؤى قابلة للتنفيذ. ومهما كانت رصانة التحليلات، فستصبح عديمة الجدوى إذا عجزتَ عن استخلاص معناها. عملنا قبل 10 أعوام مع الفريق القيادي بإحدى الشركات الأوروبية المتخصصة في صناعة السيارات الفاخرة. وعندما تطرّق الحديث إلى سيارة تيسلا السيدان الكهربائية الجديدة آنذاك، ضحك بعض المهندسين، وعلّق أحدهم قائلاً: ”هناك فجوة بمقدار 7 مليمترات بين الباب والهيكل”، وأضاف: ”هؤلاء لا يعرفون كيف يصنعون سيارة”.
كان ذلك خطأً جسيماً في استيعاب المعنى؛ فبتركيز شركة صناعة السيارات على عيب تقني بسيط، عجزت عن إدراك الطابع الثوري للسيارة، وأضاعت على نفسها فرصة طرح الأسئلة المرتبطة بالتحديات التنافسية المُلحة التي كان ينبغي أن تطرحها.
ما الذي لم يُقَل؟
تختلف هذه الفئة من الأسئلة عن الفئات الأخرى؛ فبينما تركز الفئات السابقة على جوهر التحدي، تركز هذه الفئة على التحفظات الشخصية والإحباطات والتوترات والأجندات الخفية التي قد تُخرِج عملية صناعة القرار عن مسارها. قال لنا الرئيس التنفيذي لشركة فولوكوبتر (Volocopter)، ديرك هوك: ”غالباً ما يكون فشلنا ناجماً عن تجاهلنا للجانب العاطفي”.
برزت فكرة اعتبار قضايا الموظفين ميزة تنافسية في قطاع الطيران مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وقد أدرك هيرب كيليهر الذي كان يشغل حينها منصب الرئيس التنفيذي لشركة ساوث ويست إيرلاينز (Southwest Airlines) أن تحسين تجربة العملاء يمكن أن يتحقق بصورة جذرية من خلال إعطاء الأولوية للموظفين وتمكينهم من التعامل مع العملاء بأسلوب لائق. حوّل الرئيس التنفيذي لشركة الخطوط الجوية الإسكندنافية (SAS)، يان كارسون، مسار الشركة عبر ”قلب الهرم” لدعم الموظفين الذين يتعاملون مباشرة مع العملاء في ”لحظات الحقيقة” (انظر مقال ”عمل القيادة” (The Work of Leadership) في هارفارد بزنس ريفيو، عدد ديسمبر/كانون الأول 2001). وفي الحالتين، أصبح دور المدراء يتمثل في التدريب والدعم بدلاً من المراقبة والسيطرة، حيث تعلموا أن يسألوا عملاءهم الداخليين: ”كيف يمكنني مساعدتك؟”
إذا أهملت هذا النمط من الأسئلة أو لم تتابعه بالقدر الكافي، فقد تقوّض حلولك المقترحة بفعل ردود الفعل الذاتية، حتى لو كانت تحليلاتك ورؤاك وخططك سليمة. ومن أبرز الأمثلة التحذيرية على ذلك ما حدث مع الخطوط الجوية البريطانية (British Airways)؛ ففي عام 1997 كانت أكبر شركة للنقل الجوي على مستوى العالم من حيث عدد الركاب، لكن الدراسات الاستقصائية أثبتت أن المشاركين يرونها شركة جامدة ومتزمتة؛ لذلك قرر الرئيس التنفيذي روبرت أيلينغ وفريقه تعزيز صورة الشركة على مستوى العالم عبر استبدال الألوان البريطانية التقليدية على ذيول الطائرات بتصاميم ثقافية أنجزها فنانون من مختلف أنحاء العالم.
كانت التصاميم جذابة بصرياً، لكن الفريق القيادي أخطأ تقدير ردود الفعل العاطفية لدى الموظفين والعملاء؛ فقد شعر الموظفون بالاستياء من إنفاق 60 مليون جنيه إسترليني على عملية تغيير الهوية البصرية في خضم حملة مستمرة لخفض التكاليف. أما المسافرون البريطانيون لأغراض العمل الذين يمثلون الشريحة الأساسية من عملاء الشركة فقد كانوا مرتبطين بشدة بالهوية الوطنية، وأدت إزالتها إلى إثارة حفيظتهم. ولزيادة توضيح حجم الخطأ، أعلن الرئيس التنفيذي لشركة فيرجين (Virgin)، ريتشارد برانسون، أن طائراته ستواصل ”رفع العلم الوطني” بكل فخر. وفي نهاية المطاف، تخلت الخطوط الجوية البريطانية عن التصاميم الجديدة بعد عامين، وأسهم هذا الخطأ في الإطاحة بروبرت أيلينغ من منصبه.
قد يتردد أعضاء الفريق في مناقشة القضايا العاطفية ما لم يوفر القائد حافزاً وبيئة آمنة للنقاش. وقد يرفضون التعبير عن شكوكهم لمجرد أن أحداً آخر لم يفعل ذلك، وهو نمط اجتماعي يُعرف بظاهرة الجهل التعددي. وعلى القائد أن يدعو إلى طرح الآراء المعارضة ويشجع المتشككين على التعبير عن مخاوفهم.
الموازنة بين أنماط أسئلتك
ابتكرنا أداة لمساعدة الأفراد على تقييم أساليبهم في طرح الأسئلة، وقدمناها إلى 1,200 مسؤول تنفيذي حول العالم. وعلى الرغم من أن النتائج الإجمالية أظهرت توازن توزيع الأساليب الخمسة التي تناولناها، فقد كشفت الإجابات الفردية عن اختلالات كبيرة؛ إذ تبين أن نمطاً أو أكثر من أنماط الأسئلة لم يكن يحظى بأي انتباه يُذكر لدى أكثر من ثلث المسؤولين التنفيذيين. وأوضحت المقابلات اللاحقة أن قادة عديدين ظلوا متشبثين بأنماط الأسئلة التي حققت لهم النجاح سابقاً، ما جعلهم يعتمدون عليها ويهملون أنماطاً أخرى من الأسئلة.
قيّم أسلوبك الحالي في طرح الأسئلة؛ فالوعي الذاتي يشكل الخطوة الأولى والأساسية لتصحيح مواطن الضعف أو سدّ النقص. وللحصول على تصور أوضح عن تفضيلاتك وعاداتك في طرح الأسئلة، يمكنك الاستفادة من النسخة المختصرة لتقييمنا الذاتي (انظر العمود الجانبي ”ما هو مزيج أسئلتك؟”). وبعد أن تحدد مواطن قوتك وضعفك، يمكنك تحسين مزيج أسئلتك باتباع 3 استراتيجيات: تنويع مجموعة الأسئلة التي تطرحها، وتغيير تركيزك بما يتناسب مع الاحتياجات الجديدة، وإحاطة نفسك بأشخاص يسدّون النقص الذي تسببه مواطن ضعفك الخفية.
نوِّع مجموعة الأسئلة التي تطرحها؛ بعد أن تحدد أنماط الأسئلة التي ترتاح لطرحها وتلك التي تجد صعوبة في طرحها، عليك أن تسعى إلى الموازنة فيما بينها على نحو أفضل. يمكنك البدء بتذكير نفسك بالفئات الخمس قبل كل اجتماع خاص بصناعة القرار والتأكد من مراعاتها جميعاً. وقد طلب الرئيس التنفيذي لشؤون الموارد البشرية في إحدى كبرى شركات التكنولوجيا التي عملنا معها أن نعرض الإطار النظري طوال فترة تنفيذ برنامج مهم في الشركة.
يمكنك أيضاً تجربة طرح أسئلة من الفئات التي تعاني فيها ضعفاً أو لا تجيدها مطلقاً في مواقف لا تنطوي على مخاطر كبيرة. سيساعدك ذلك على فهم دور الأسئلة غير المألوفة في إثراء الحوار. وقد وصف الرئيس التنفيذي السابق لشؤون الأفراد والأعمال التنظيمية في شركة نوفارتس (Novartis)، ستيفن بيرت، تجربته في بودكاست ذا كيوريس أدفانتج (The Curious Advantage)، قائلاً للمضيف: ”كنت في السابق أركز على الاستماع بغرض الإصلاح. كان الأمر يبدو وكأنني أقول للطرف الآخر: ’لديك مشكلة، وأحتاج منك إلى بعض البيانات كي أتمكن من حلها‘. أما الآن، فأتدرّب على الاستماع بغرض التعلم”.
ثمة خطوة إضافية في عملية تنويع مجموعة الأسئلة التي تطرحها؛ فقد تحتاج إلى التخلي عن بعض أنواع الأسئلة التي كانت تفيدك في الماضي. وقد أوضحت صحيفة فايننشال تايمز هذه الفكرة في تقرير نشرته عن الرئيس التنفيذي لمجموعة الاستثمار نيواي كابيتال (NeWay Capital)، إريك بريمن، الذي يصف نفسه بأنه مدير تفصيلي عنيد يركز على تحقيق الأهداف؛ إذ يقول: ”الدرس الذي بدأت أعيه هو أن أتوقف عن الانشغال بكيفية الوصول إلى وجهة معينة وأوجه انتباهي نحو الوجهة التي نريد الوصول إليها”.
غيّر تركيزك؛ فمزيج الأسئلة الذي تعتمد عليه يتغير بمرور الوقت، خاصة إذا تقلّدت منصباً جديداً أو انتقلت إلى شركة أخرى أو قطاع مختلف. على سبيل المثال، مع اتساع نطاق مسؤولياتك، ستواجه تحديات أكثر تعقيداً، ليس فقط بسبب كثرة مكوناتها، بل لأنك ستحظى أيضاً بفرصة اتخاذ إجراءات أكثر جرأة. عند تأمُّل الرئيسة التنفيذية لشؤون التسويق والرقمنة والمعلومات في شركة باير كونسيومر هيلث (Bayer Consumer Health)، باتريشيا كورسي، مسيرتها المهنية، قالت: ”مع تقدم مسيرتك المهنية، تُعرض عليك فرص تنطوي على مخاطر أكثر في وظائف لم تمارسها من قبل ومجالات لا تعرفها وتحديات لم يسبق لك أن واجهتها، بينما يعتمد الآخرون على قدرتك على طرح الأسئلة التي ستساعدك على التعلم”.
كلما انتقلت إلى وظيفة جديدة، واجهت تحدياً يتمثل في ضرورة التكيف مع متطلباتها؛ فقد يصبح مزيج الأسئلة الذي ساعدك في السابق على نيل منصبك الجديد سبباً في خروجك عن المسار الصحيح الآن. وقد تحدثنا مع النائب الأول لرئيس علامة ألفا روميو وفيات في أميركا الشمالية (Alfa Romeo and Fiat North America)، لاري دومينيك، بينما كان يحاول التأقلم مع مهام منصبه الجديد؛ إذ قال لنا: ”سأستفيد من خبرتي الهندسية للتعمق في التكاليف وكفاءة إدارة الموارد ورضا العملاء”. لكنه أدرك خطورة الاعتماد على مواطن قوته المعهودة فحسب، مضيفاً: ”عليَّ أن أذكّر نفسي بأن قيمتي الحقيقية بصفتي قائداً تكمن في تقديم الرؤية الكلية، دون الاكتفاء بالأسئلة التي يسهل علي طرحها”.
ابحث عن آخرين يسدّون النقص؛ مثلما أشرنا سابقاً، لست مطالباً بأن تتولى صياغة الأسئلة كلها بنفسك؛ إذ ينبغي أن يكون الأمر جهداً جماعياً. وفي هذا السياق، يعهد رئيس شركة هيونداي موتور على مستوى العالم والرئيس التنفيذي للعمليات بها، خوسيه مونيوس، أحياناً بدور صياغة الأسئلة إلى أحد أعضاء فريقه؛ إذ قال لنا: ”يجب أن يكون الشخص الذي يطرح السؤال هو أكثر أعضاء الفريق قدرة على أداء هذه المهمة. وبوصفي الرئيس، قد أدعو أحد أعضاء فريقي إلى استكمال مسار معين من الأسئلة”. وبعد أن أجرى العضو المنتدب السابق بشركة دانون في رومانيا، روبرت ياشينسكي، تقييماً ذاتياً لنمط أسئلته، قال: ”سأولي مزيداً من الاهتمام لنوعية الأسئلة التي لم أكن أمنحها التقدير اللازم (الأسئلة الافتراضية). وإذا كان هناك مَن يتمتع بموهبة التفكير الإبداعي ضمن فريقي، فسأحرص على الإصغاء جيداً لما يطرحه”.
بصفتك قائداً، تقع على عاتقك مسؤولية ملاحظة الرؤى والتصورات غير المطروحة على طاولة النقاش وإتاحة الفرصة للآخرين للإدلاء بدلوهم. قال لنا رئيس شركة ويرلبول (Whirlpool) بأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا، جيل موريل: ”عليّ أن أُفسح المجال أمام الموظفين المختلفين عني لطرح الأسئلة التي لا أجيد طرحها”. ومع ذلك، قد لا يكون إشراك الجميع مهمة سهلة؛ فتبنّي أسلوب قيادي أكثر فضولاً قد يبدو مقلقاً للبعض، كما أن الطريقة التي تُصاغ بها الأسئلة قد تحفز الآخرين على تقديم إسهامات حيوية أو تثير لديهم ردود فعل دفاعية. وتوصّل أحد المتخصصين في الموارد البشرية إلى أن طرح سؤال يبدأ بـ”لماذا؟” قد يثير أحياناً الرغبة في المقاومة لدى الطرف الآخر، في حين أن مجرد تغييره إلى ”ما السبب؟” يؤدي إلى نتائج أفضل. وقد قال لنا الرئيس التنفيذي لشركة إبسن (Ipsen) للصناعات الدوائية الحيوية، ديفيد لو: ”إذا بدأت بطرح أسئلة مُغلَقة أو مشحونة بالانفعالات العاطفية، مثل: ’لماذا فعلت ذلك بهذه الطريقة؟‘، فقد يشعر الطرف الآخر وكأنه يخضع لتحقيق بوليسي، ما يخلق بيئة غير آمنة، وينشر الشعور بالانزعاج بين أعضاء الفريق”.
ونبرة صوت مَن يطرح السؤال ونواياه لا تقل أهمية عن الكلمات المستخدمة فيه. على سبيل المثال، قد تُفهم عبارة ”هل الجميع موافق على ذلك؟” إما بوصفها دعوة صادقة لإبداء التحفظات وإما بوصفها محاولة لإنهاء النقاش. قال لنا الرئيس التنفيذي لمجموعة إم تي دي (MTD) للتكنولوجيا الطبية، تشارلز بوعزيز: ”عندما أطرح أسئلة تتطلب بحثاً عميقاً، أوضّح منذ البداية أنه لا بأس إذا لم يكن لدى الشخص إجابة، أو إذا احتاج إلى بعض الوقت ليجدها. غالباً ما تكون نبرة صوتك أهم من السؤال ذاته؛ لأن الآخرين يفترضون أحياناً أنك تختبرهم”. وتزداد مشكلات سوء الفهم في الاجتماعات الافتراضية التي يصعب فيها تفسير النوايا؛ إذ لا يمكنك أن تعرف يقيناً وقع سؤالك على الآخرين. كتبت مؤسِّسة شركة كولي كولي فودز (Kuli Kuli Foods) ورئيستها التنفيذية، ليزا كورتس، في مجلة ”إنك.” (Inc.): ”في غياب الإشارات الجسدية الكاملة التي تميز الاجتماعات الحضورية، على القادة أن يضاعفوا جهدهم لطرح الأسئلة الصحيحة والإصغاء بعناية والانتباه إلى أي سوء فهم أو نقاط قد تثير التوتر”.
عليك توعية فريقك بأنواع الأسئلة المختلفة وأهمية الاهتمام بها جميعاً. ومن اللافت أن بعض أنجح المسؤولين التنفيذيين الذين نعرفهم يبدؤون محادثاتهم مع الموظفين الجدد بخلق مساحة آمنة وإظهار روح الانفتاح والاستعداد للكشف عن نقاط الضعف؛ إذ يتبنون ما تسميه مؤلفة كتاب ”غيّر أسئلتك، تغيّر حياتك” (Change Your Questions, Change Your Life) ومؤسِّسة معهد الاستقصاء (Inquiry Institute)، ماريلي آدامز، ”وضع المتعلّم” بدلاً من”وضع المُحاكِم”. يتسم الوضع الأول بالانفتاح ويُركز على الافتراضات والإمكانات والحلول والإجراءات الهادفة، أما الوضع الثاني فيتسم بردود الفعل وقصر النظر وينصب اهتمامه على تحديد الطرف المخطئ.
لكن حتى إذا شارك الفريق بأكمله، فلا يوجد ما يضمن أن تغطي المناقشات أنواع الأسئلة الخمسة كافة، خاصة في المواقف التي تنطوي على ضغوط عالية؛ فقد يواجه أعضاء الفريق كلهم نقطة مبهمة مشتركة. وإذا كان الأمر كذلك، يمكنك أن تكلّف كل عضو بنوع محدد من الأسئلة، على الأقل إلى أن تصبح مجموعة أسئلة الفريق متوازنة إلى حدٍّ معقول.
يرى جيل موريل أن الهدف النهائي واضح؛ إذ يقول: ”أريد تنمية مهارة طرح الأسئلة لدى أعضاء الفريق. عليَّ أن أهيئ الأجواء بحيث يتضاعف فضولي نتيجة فضول الآخرين. وينبغي أن تحفز أسئلتهم أسئلتي”. وتتقاطع رؤيته تلك مع قناعة جينسن هوانغ بأن القيادة تتمثل في ”تحفيز الجميع على طرح الأسئلة والإجابة عنها”.
بتحديد مواطن قوتك وضعفك في أساليب طرح الأسئلة ومراعاة الأساليب الخمسة التي عرضناها، يمكنك أنت وفريقك صناعة قرارات استراتيجية أكثر ذكاءً. وستزداد قدرتكم على تغطية مختلف الجوانب الحيوية التي تحتاج إلى الاستكشاف، كما ستكتشفون معلومات ورؤى وخيارات كان من الممكن أن تغيب عنكم.