لقد بات فن طرح الأسئلة بأسلوب مناسب واحداً من الفنون التي أضعناها. فأي طفل في الرابعة من العمر يتمتع بالفضول المعرفي يطرح الكثير من الأسئلة. أليس من الشائع إيجاد طفل يقصفك بوابل من الأسئلة من قبيل "لماذا" و"لم لا؟"، ولكن مع تقدمنا في العمر، تبدأ قدرتنا على طرح الأسئلة بالتراجع. ففي استطلاع حديث شمل 200 من زبائننا، وجدنا أن من لديهم أطفال قدّروا بأن 70 إلى 80% من حوارات أطفالهم مع الآخرين تتألف من أسئلة. لكن هؤلاء الزبائن أنفسهم قالوا إن 15 إلى 25% فقط من أحاديثهم مع الآخرين كانت مؤلفة من أسئلة. فلماذا هذا التراجع الكبير؟
إذا عدنا بذاكرتنا إلى أيام طفولتنا في المدرسة، سنتذكر أن معظم الثناء والمديح والمكافآت التي حصلنا عليها كانت مرتبطة بتقديمنا الإجابات الصحيحة. وفي المراحل اللاحقة من حياتنا، استمرت الحوافز. في مكان العمل، غالباً ما نكافئ الموظفين الذين يجيبون عن الأسئلة وليس من يطرحون الأسئلة. كما أن من يطرحون الكثير من الأسئلة ويشككون في تقاليد العمل السائدة غالباً ما يجري تهميشهم أو عزلهم أو يُنظر إليهم بوصفهم يشكلون تهديداً.
وبما أن التوقعات المتعلقة باتخاذنا للقرارات تحولت كثيراً من "أنجز عملك في أسرع وقت" إلى "أنجز عملك الآن"، إلى "هذا العمل كان يجب أن يُنجز البارحة"، أصبحنا نحبذ القفز إلى الاستنتاجات عوضاً عن طرح المزيد من الأسئلة. وهناك جانب مؤسف لعدم طرح ما يكفي من الأسئلة وهو اتخاذ القرارات بشكل سيئ. وبالتالي، بات علينا أن نهدأ من روعنا ونأخذ وقتاً إضافياً لطرح أسئلة إضافية أفضل. ففي أحسن الأحوال، هذا الأمر سيقودنا إلى استنتاجات أفضل، وفي أسوأ الأحوال، سيوفر علينا الكثير من عناء إعادة العمل في مرحلة لاحقة.
لكن العديد من الاختصاصيين لا يأخذون بالحسبان أن الأنواع المختلفة من الأسئلة يمكن أن تقود إلى نتائج مختلفة بسبب تنوع كيفية طرح السؤال. إذا كنت تريد التحكم بمسار حديث معين، فعليك طرح الأنواع الصحيحة من الأسئلة، بحسب نوع المشكلة التي تحاول حلها. في بعض الحالات، ربما ترغب في توسيع نظرتك إلى مشكلة معينة، عوضاً عن التركيز عليها بشكل ضيق. وفي حالات أخرى، ربما ترغب في اختبار الافتراضات الأساسية ومراجعتها، أو تأكيد فهمك للأمر لكي تكون أكثر ارتياحاً في الخلاصات والنتائج التي تتوصل إليها.
فن توجيه الأسئلة المنوعة
وإليك فيما يلي 4 أنواع من الأسئلة، هي: أسئلة الاستيضاح، وأسئلة الربط، وأسئلة التعمق، وأسئلة التوسع، حيث يسعى كل واحد من هذه الأنماط إلى تحقيق هدف مختلف:
أسئلة الاستيضاح:
تساعدنا على فهم أفضل لما قيل، خلال العديد من المحادثات، تجد أن الناس يتحدثون مباشرة وراء بعضهم البعض. وبالتالي، فإن طرح أسئلة استيضاحية يمكن أن يكشف النوايا الحقيقية من وراء ما قيل. كما أنها تساعدنا على فهم بعضنا بشكل أفضل وتقودنا إلى طرح المزيد من الأسئلة التي تبني على ما سبقها من كلام. ومن الأمثلة على ذلك السؤالين التاليين: "هل يمكنك أن تخبرني بالمزيد من التفاصيل من فضلك؟"، و"لماذا تقول هذا الكلام؟". غالباً لا يطرح الناس هذا النوع من الأسئلة لأنهم ميّالون إلى وضع افتراضات معينة وملء الفراغات وأجزاء الحديث المفقودة من رؤوسهم.
أسئلة الربط:
تُستعمل لاستكشاف الجوانب المترابطة في مشكلة معينة والتي يجري تجاهلها أثناء الحديث. ومن الأمثلة على هذا النوع من الأسئلة السؤالين التاليين: "كيف يمكن تطبيق هذا المفهوم في سياق مختلف؟"، أو "ما الاستعمالات الأخرى لهذه التكنولوجيا؟". على سبيل المثال، عندما تسأل "كيف يمكن تطبيق هذه الأفكار في كندا؟"، ضمن حديث حول القيمة التي يحملها الزبون طوال حياته بالنسبة للشركة، فإن ذلك السؤال يفتح الباب أمام نقاش مفيد حول الاختلافات في السلوك بين الزبائن في أميركا والزبائن في كندا. فتركيزنا على المهام العاجلة تركيزاً دقيقاً يشبه شعاع الليزر الموجه غالباً على ما يثبط هممنا ويمنعنا من طرح المزيد من هذه الأسئلة الاستكشافية، غير أن تخصيص بعض الوقت لطرحها، يمكن أن يساعدنا على توسيع فهمنا للموضوع المعني.
أسئلة التعمق:
هي أسئلة تستعمل للغوص عميقاً وسبر أغوار المواضيع بالتفصيل. ونحن نطرح هذه الأسئلة لنعرف كيف تم التوصل إلى إجابة معينة، ولتحدي بعض الافتراضات الحالية، ولفهم الأسباب الجذرية العميقة للمشاكل. ومن الأمثلة على هذا النوع من الأسئلة، السؤالين التاليين: "كيف أجريت البحث؟"، و"لماذا لم تتخذ هذه الخطوة أيضاً؟". يمكن أن تتعلق أسئلة التعمق أيضاً بالشكل التصميمي للمؤسسة والمنتجات التي تقدمها، كأن تسأل مثلاً: "هل يمكننا أخذ هذا التحليل الخاص بالمنتجات المستعملة في الهواء الطلق لنطبقه على صنف معين من الأثاث المستعمل في الحدائق الخارجية؟"، وتعتبر معظم الفرق المعنية بوظيفة التحليل، ولا سيما التي تعمل ضمن قسم العمليات التجارية، بارعة في استعمال هذا النوع من الأسئلة.
أسئلة التوسع:
هي نوع من الأسئلة التي تطرح القضايا من منظور واسع، وتسلط الضوء على الصورة الكبرى، وتساعدنا على إلقاء نظرة من بعيد أو من الأعلى. إن انغماس المرء في مشكلة فورية يجعل من الصعب عليه رؤية السياق الإجمالي الكامن وراءها. وهنا يمكنك طرح السؤالين التاليين: "لو عدنا خطوة إلى الوراء، ما هي القضايا الأكبر والأوسع؟"، أو "هل نحن نحاول الإجابة عن السؤال الصحيح حتى؟". على سبيل المثال، يمكن لنقاش يدور حول قضايا مثل التراجع في هوامش الأرباح والتراجع في مستويات الرضا لدى الزبائن أن يتحول إلى نقاش لاستراتيجية الشركة من خلال طرح الأسئلة التالية التي تهدف إلى التوسع: "عوضاً عن مناقشة هذه القضايا بشكل منفصل، ما التوجهات الأكبر التي يجب أن نقلق منها؟ وما وجه الربط بين كل هذه العناصر معاً؟". فهذه الأسئلة تنقلنا إلى مستوى أعلى وتأخذنا إلى السياق العريض حتى نتمكن من رؤية الصلات القائمة بين المشاكل المبعثرة.
وبالحديث عن كيفية طرح الأسئلة، في عالم اليوم الذي يفرض على المرء أن يكون في حالة تفاعل كبير وجاهزية دائمة، نحن مُطالبون بالاندفاع لتقديم الإجابات. كما أن سهولة الوصول إلى البيانات من أي مكان وفي أي وقت والمتطلبات المتقلبة للعمل التجاري تسرّع من هذه الحاجة إلى الإلحاح والعجلة في تقديم الإجابات. لكننا يجب أن نهدئ من روعنا ونتباطأ قليلاً ونفهم بعضنا بعضاً أكثر من أجل تجنب اتخاذ القرارات السيئة والقدرة على النجاح في هذه البيئة. وبما أن طرح الأسئلة ينطوي على قدر معين من الشعور بعدم الراحة، فإن ثقافات العمل السائدة في الشركات الكبرى يجب أن تتحول باتجاه دعم هذا السلوك. فالقادة يجب أن يشجعوا الناس على طرح المزيد من الأسئلة، بحسب الأهداف التي يحاولون تحقيقها، عوضاً عن دفع الناس إلى الإسراع في تقديم الإجابات. وإذا أراد الناس اتخاذ القرارات الصائبة، فعليهم البدء بطرح الأسئلة التي تعتبر مهمة فعلاً في عالم فن طرح السؤال.