قام زوجان وابناهما الصغيران بتناول العشاء في مطعم أوستريا فرانشيسكانا (Osteria Francescana) الحائز على ثلاث نجوم حسب تصنيف ميشلان. في ليلة يوم السبت، في مدينة مودينا الإيطالية، إحدى أشهر المناطق المعروفة بالطهي في إيطاليا. طلب الوالد لعائلته قائمة "تقاليد في تطور" (Tradition in Evolution)، وهي قائمة تذوق تضم 10 من أشهر الأطباق في المطعم. تتألف إحدى هذه الأطباق من الحلزونات (snails under the earth) وتقدم كحساء. تغطى الحلزونات بطبقة القهوة والمكسرات والكمأة السوداء، و"تختبئ" تحت كريم مصنوع من البطاطا النيئة ورغوة الثوم. أثناء تلقي نادل المطعم جيوسيبي بالمييري (Giuseppe Palmieri) للطلب، لاحظ وجود نظرة يائسة على وجهي الولدين. نظر بالمييري إلى الأخ الصغر وسأله: "ماذا تحب أن تطلب؟" فأجاب: "بيتزا!".
إنّ هذا المطعم ليس من الأماكن التي تقدم البيتزا. ومع ذلك، وبدون أي تردد، استأذن بالمييري منهم وذهب للاتصال بأفضل مطعم بيتزا في المدينة. بعد وقت قصير، ظهر سائق سيارة أجرة ومعه البيتزا، فقام بالمييري بتوصيل تلك البيتزا إلى الطاولة. لكان هذا الفعل غير وارد لو حصل في واحدة من العديد من المطاعم الفاخرة. لكن على الأرجح، لن ينسى الطفلان وأبواهما عمل بالمييري اللطيف أبداً. وكما أخبرني بالمييري، "من دون أدنى شك، لم يستغرق الأمر إلا مجرد تغيير، وبيتزا واحدة".
لا أحد يحب مثيري المشاكل في العمل. جميعنا نواجه زملاء يضايقوننا أو يحيدون عن المخطط من دون أي تنبيه، ما يسبب النزاعات أو إضاعة للوقت: كالأشخاص الحمقى والمتباهين الذين يبدون كأشخاص يعصب إرضاءهم من دون وجود أي سبب وجيه، والناس الذين يخرقون القوانين بلا سبب محدد ويتركون الآخرين في موقف سيء. ولكن هناك أيضاً أشخاصاً يعرفون كيف يحوّلون خرق القانون إلى مساهمة مفيدة. يستحق المتمردون مثل بالمييري احترامنا واهتمامنا، لأنهم يمتلكون الكثير من الأشياء ليعلمونا إياها. (إذا كنت مهتماً بمعرفة نوع التمرد الموجود لديك، يمكنك معرفة ذلك من خلال إجراء هذا التقييم المجاني).
نميل جميعاً عند تعرضنا لموقف مليء بالتحديات (الطفلان اللذان أرادا البيتزا) إلى الالتزام بما يجب علينا فعله بدلاً من أن نسأل أنفسنا عما يمكننا فعله. أجريت أنا وزملائي تجربة قمنا فيها بتعريض المشاركين لتحديات أخلاقية صعبة، حيث لم يبدو أنه هناك أي خيار جيد. ثم قمت بطرح سؤال على بعض الأعضاء المشاركين "ماذا يجب أن تفعلوا؟"، والبعض الآخر "ماذا يمكنكم أن تفعلوا؟". وجدنا أنّ مجموعة "يمكن" كانت قادرة على خلق المزيد من الحلول الإبداعية. بينما معالجة المشاكل مع عقلية "يجب" تجعلنا مضطرين إلى المفاضلة بين الحل وما نريده، وتضيّق من تفكيرنا وتوجب علينا إيجاد إجابة واحدة، وهي الإجابة التي تبدو أكثر وضوحاً. ولكن عندما نفكر بعقلية "يمكن" نبقى منفتحين، كما أنّ المفاضلة الموجودة في هذه العقلية تلهمنا للتوصل إلى حلول مبتكرة.
بطبيعة الحال، إنّ الشخص الذي يفكر في العمل بعقلية "ماذا يمكننا أن نفعل" هو الشخص الذي ينظر إليه على أنه يبطئ الأمور. "ماذا لو ...؟" و"ماذا عن ...؟" هي أسئلة تضيف خيارات إلى المناقشة. ولكن، يدرك المتمردون أنه من الأفضل دائماً مقاومة ضغط الوقت لإعطاء نفسك فرصة للتفكير بإمعان. لنأخذ مثالاً آخراً: كان الطيّار تشيسلي سولينبرجر "سولي" (Captain Chesley B. “Sully” Sullenberger) يقود الطائرة التابعة لشركة طيران يو إس أيه (USA airways)، والتي اصطدمت بسرب من الطيور وفقدت محركاتها بعد وقت قصير من إقلاعها من مطار لا غارديا (La Guardia) في نيويورك، في يناير/كانون الثاني من العام 2009. كان مع سولي 155 شخصاً على متن الطائرة ولم يكن معه سوى وقت قليل جداً للعثور على مكان للهبوط في مدينة تتضمن مباني شاهقة. كان معظم الطيارين سيقومون باتخاذ المسار الأكثر وضوحاً فيحاولون الهبوط في أقرب مطار، مع نتائج كارثية على الأرجح. اتبع سزلي إجراءات الطوارئ القياسية (ما يجب عليه فعله)، لكنه سمح لنفسه أيضاً بالتفكير في ما يمكنه فعله. قرر أن يهبط الطائرة على نهر هدسون (Hudson)، واستطاع إنقاذ الجميع.
في السياق ذاته، يوجد مشكلة أخرى يواجهها المتمردون في العمل، وهي النزاع الذي ينتج في بعض الأحيان. يميل المتمردون إلى النزاعات. لكن قد يكون بعض التوتر أمر إيجابي، لأنه يمكن أن يساعد في جعل الناس ينتقلون من "يجب" إلى "يمكن". تظهر الأبحاث أنه عندما نعايش نزاعاً نقوم بخلق حلولاً مبدعة أكثر من تلك التي نخلقها عندما نكون في مزاج أكثر تعاوناً. عندما يكون هناك بعض التوتر، نميل أيضاً إلى التدقيق في الخيارات واستكشاف البدائل بعمق، ما يؤدي إلى رؤى مبتكرة. مع أخذ هذا الأمر في الاعتبار، تقوم شركة "أرييل انفيستمنتس" (Ariel Investments)، وهي شركة لإدارة الأموال مقرّها في شيكاغو، بتعيين شخص ما أثناء الاجتماعات ليكون محامي الشيطان ويكون مسؤولاً عن إيجاد المشاكل، هذا النهج ساعد الشركة جيداً خلال الأزمة المالية لعام 2008. كما ساعدهم على التفكير في الأسهم التي يتابعونها: سيقوم الشخص الذي يتابع سهماً معيناً بتقديم توصية بشأن شراء السهم أو بيعه؛ سيقنعك شخص آخر بالعكس.
لقد وجدت في بحثي الخاص أنه عندما يُطلب من الناس تحقيق هدفين متضادين، يقومون بإيجاد أفكار أكثر إبداعاً. على سبيل المثال، قمت أنا وزملائي بدعوة المشاركين في تجربة واحدة إلى استخدام معدات محدودة لبناء نماذج أولية لمنتجات مختلفة في المختبر. طلبنا من البعض منهم أن يبنوا منتجات جديدة مبتكرة. وطلبنا من الآخرين بناء منتجات رخيصة. كما طلبنا أيضاً من مجموعة ثالثة أن تبني منتجاً جديداً ولكن بسعر منخفض. ثم طلبنا من مجموعة أخرى من الناس أن تقوم بتقييم جميع المنتجات التي أنشأتها المجموعات الثلاث وفقاً للإبداع الموجود فيها. كانت المنتجات التي حصلت على أعلى الدرجات هي تلك التي تم إنشاؤها من قبل أشخاص اتضح أنهم يمتلكون أهداف متضاربة في البداية. بالطبع، يمكن أن يؤخذ التضارب والخلافات إلى منحى مختلف. ولكن جعل الأمور أكثر صعوبة يؤدي إلى نتائج أفضل.
إنّ مطعم أوسترا فرانشيسكانا هو مكان يتم فيه التشجيع على كسر القواعد، بدءاً من أعلى موظف. لا يتوافق ماسيمو بوتورا (Massimo Bottura)، وهو صاحب مطعم ورئيس طباخين، مع نموذج القائد المعتاد: فهو موجود في جميع خنادق العمل، وأول ما يقوم به عند الصباح هو تنظيف الشارع الموجود أمام المطعم، يساعد في إعداد وجبة الموظفين، ويلعب كرة القدم مع الموظفين بين نوبات العمل، ويفرغ شاحنات التوصيل. كان يتلذذ في تحدي قوانين المطبخ الإيطالي. قبل قرن من الزمان، كان غلي اللحوم للطبق الإيطالي بوليتو ميستو (Bollito misto) "اللحوم المشكلة المسلوقة" خياراً عملياً، نظراً لطرق الطهي المحدودة. ولكن كان بوتورا يطبخ اللحم بطريقة "سو فيد" (sous vide) أي لا تسلق اللحمة بالكامل، ما غيّر من ذاك الطبق- الذي يسميه "اللحوم المسلوقة، غير المسلوقة" (Bollito non bollito) - ليصبح واحداً من أشهى الأطباق وأكثرها إرضاء للنظر.
عندما يرى الموظفون أنّ قائدهم يفعل ما هو غير متوقع، فإنهم يعتنقون أيضاً ما يقوم بفعله. يعرف هؤلاء الموظفون أنهم يعملون في مكان لا يُستخف فيه بخطوة طلب البيتزا لطفلين بائسين. يمكننا جميعا أن نتعلم من بالمييري. لكن يمكننا أيضاً أن نتًعظ من نوع المكان الذي يعمل فيه، حيث يشعر المتمردون أنهم في المنزل.