ما الذي نعنيه بالأصالة والمصداقية والجدارة بالثقة، ومن يمتلكهما، وكيف يتأتى لنا التحلي بهما؟ يربط معظمنا الأصالة بالصدق مع الذات؛ أي أن نقول ما نفعل ونفعل ما نقول، ولكننا نجد معضلة في هذا الربط تتمثل في أن محوره هو ما يشعر به المرء تجاه نفسه. ومكمن المعضلة هنا أن الأصالة هي في واقع الحال "سلوك متعلق بالعلاقات" وليست سلوكاً يقتصر تأثيره على من يمارسه؛ أي أن أصالتك الحقيقية تتمثل في رضاك عن ذاتك وتواصلك مع الآخرين بارتياح في آن معاً.
لنأخذ على سبيل المثال أحد عملائنا الذين دربناهم، وهو مدير العمليات في إحدى شركات الأسهم الخاصة، واسمه مارك. بعد مرور ساعة على بداية أول اجتماع معه سألنا عن رأينا فيه، والإجابة عن مثل هذا السؤال في مرحلة مبكرة للغاية من هذا التعامل محفوفة بالمخاطر، ولكنه كان في الوقت نفسه سؤالاً مهماً للغاية بالنظر إلى ما لاحظناه حتى تلك اللحظة. لذلك، أجبناه: "من الواضح أنك شخص ذكي وطموح وشغوف بعملك، ويبدو لنا أنك تمتلك دائماً إجابة 'ملائمة' عن أسئلتنا، ومع ذلك نشعر بأنها ليست الإجابات الحقيقية التي في ذهنك، وكأنك تخبرنا بما تعتقد أننا نود سماعه. لذا، يتنامى لدينا فضول لنعرف إن كان في شركتك من يرى فيك ما رأيناه نحن". فتح ردنا باب التوجُسات؛ إذ تبين من تقييم أداء مارك بطريقة "360 درجة" أنه يفتقر إلى صفتي النزاهة والثقة، وقد أوضحت المقابلات اللاحقة التي أجريناها مع أقرانه ومع رئيسه هذه النتيجة وأكدتها.
كان مبعث تشكك زملاء مارك فيه أنهم لم يتيقنوا يوماً إن كان ما يقوله لهم هو ما يعنيه بصدق، ولك أن تعلم أن جوهر الحضور القيادي هو أن يتيقن الآخرون من موقفك؛ فهم لا يريدون أن يخمّنوا ما تريده ولا أن تفاجئهم في أثناء العمل بما لا يتوقعونه. على الرغم من عدم توافر حل ناجع سريع أو وصفة تناسب الجميع لتعزيز المرء مصداقيته، فثمة العديد من مجالات التركيز التي تساعد في ذلك بكل تأكيد:
وجهة النظر
إن تبنّي وجهة نظر بعينها خطوة جوهرية في طريقك لاكتساب المصداقية. وفي توضيح وجهة نظرك للآخرين والاستعداد لمناقشتهم فيها وتقبّل آرائهم حولها تجسيد ملموس لصفاتك القيادية وما تنطوي عليه من قوة ومرونة. ازدادت قدرة مارك على التعبير عن أفكاره بصدق بعد أن أفصح عن وجهة نظره إزاء القضايا والتحديات والخلافات في الشركة.
الموقف
من المهم أن يتخذ المرء موقفاً، ولكن الأهم هو ألا يبالغ في التشبث بذلك الموقف، وننصحك بأن تميز بين النجاح في التعامل مع التعقيدات السياسية في شركتك وأن تشارك فيها بنفسك. احشد الدعم لمبادراتك لكن تحلّ بالشفافية فيما تفعله وأسبابه وخطوات تحقيقه. أصبح مارك يوضح جهوده الرامية إلى إحداث التغيير في شركته بصراحة أكبر بعد أن كان يفضّل العمل من وراء ستار.
التاريخ الشخصي
ثمة خطوة جوهرية تتمثل في أن تعزز ارتباطك بتاريخك الشخصي وتحدد تأثيره في تشكيل شخصيتك الحالية من أحداث ورسائل وأشخاص. نشأ مارك في ظروف صعبة عانى فيها الحرمان، وتعلم كيف يتجاوزها لكي يتقدم في حياته. وعندما أُلحق بمدارس النخبة وهو بعد في سن مبكرة، كان الدرس الذي تعلمه هو: "لكي تنجو من براثن هذا النظام، عليك أن تتوخى الحذر وألا تسبب المشاكل". ومع أنه استفاد جيداً من الدرس وقتذاك، فهو لم يكن مفيداً له في عالم قيادة الشركات. غالباً ما يؤدي استكشافك لجوانب من تاريخك إلى ظهور رسائل تستحق أن تعيد النظر فيها كي تعبّر عن حقيقة شخصيتك بصدق.
يشير روبرت غوفي وغاريث جونز في كتابهما، "لماذا ينقاد لك الآخرون؟" (Why Should Anyone Be Led By You?): "لن يكون للقائد أتباع إلا بعد أن يصبح رمزاً لقيم عديدة لدى عدد كبير من الأفراد. والقائد البارع هو من يحقق ذلك دون أن ينال من صدقه مع ذاته". ومع سهولة تمييز الشخصية الأصيلة ذات المصداقية دون سواها، فهذه السهولة تتحول إلى مهمة عسيرة ما إن نفتش عن الأصالة في أنفسنا.