تنطوي المعضلات التي يواجهها الأزواج العاملون على تنازلات خصوصاً عندما يكون الأبوين يعملان أو كان أحدهما عاملاً والآخر يتولى رعاية الأبناء، فهناك الكثير من المشكلات عندما يعود الأب الذي يتولى رعاية أبنائه إلى العمل ويجب على الأسرة بأكملها التعاون لتجاوز ذلك.
منذ عام مضى، انقلبت أحوال أسرتي وانتقلنا من ولاية بوسطن الأميركية التي أقمنا فيها لمدة تقارب 15 عاماً إلى ولاية فرجينيا ليتولى زوجي منصبه في "جامعة فرجينيا الجنوبية" (Southern Virginia University)، وهي جامعة فنون حرة صاعدة.
يحمل "روجر" درجة الدكتوراه من جامعة كولومبيا في علم الأحياء الجزيئي، وقد نشر بحثاً في مجلة "نيتشر" (Nature) وكان يبحث عن وظيفة مرموقة كأستاذ مساعد في "كلية الطب بجامعة ماساتشوستس" (University of Massachusetts Medical School). حدث هذا منذ 10 أعوام، وقت أن
كان أطفالنا في عمر الثامنة والرابعة، وكنت أسافر باستمرار لأجل العمل، فقررنا أن أطفالنا بحاجة إلى بيئة رعاية واهتمام أكثر بالعائلة من طرف الأب والأم، وهو سيناريو يواجه العديد من الأزواج العاملين.
توقف زوجي عن عمله ليتولى رعاية أبنائنا في المنزل. في 2012، كانت نسبة الآباء المتوقفين عن العمل لرعاية أبنائهم في الولايات المتحدة 21% (420,000) من أصل 2,000,000، بينما كان الآخرون في المنزل لأسباب أخرى. أي أنهم كانوا مجموعة صغيرة.
استفاد أطفالنا من هذا الوجود بشدة، كما أنني استفدت منه أيضاً. أما زوجي، فشعر بارتياح لأنه وضع الأسرة في المقام الأول كقيمة يتمسك بها، وكان قد أنهك من محاولاته الجمع بين عمله ورعايته للأسرة أثناء رحلات عمله المتكررة.
الأمر الوحيد الذي لم يستفد من هذه التجربة هو عمله.
انطلاقة جديدة في العمل
وبينما كنا نستعد لانطلاقه جديدة -وفقاً لتسمية "سيلفيا آن هيوليت"-، وجدنا أن الرجال عند عودتهم للعمل يواجهون عقبات مختلفة. إن إعادة الانطلاق بالنسبة للنساء أمر صعب، لكنه أمر قابل للتنفيذ. ربما يكون الطريق شاقاً، لكنه معتاد وسلكته الكثيرات. فمن السهل أن تشرح المرأة أسباب إجازاتها لأجل الأسرة، وتكون هذه الإجازات مفهومة، وإن لم تكن في صالحها. أما الرجال، فلا يوجد أمامهم طريق فعال في هذا الشأن. لا تزال بعض تحيزاتنا تجاه الأدوار الخاصة بكل نوع مستمرة بعناد، فالأشخاص يظنون أن خطباً ما أصاب الرجل الذي يترك عمله لتربية أبنائه. يتساءلون هل يخبئ شيئاً، أو على الأقل يفكرون أن جزءاً ما من القصة لم يصل إلى علمهم.
في الواقع، ساورت الشكوك زملاء "روجر" خلال السنة الأولى. هل سيترك العمل فعلاً؟ أم أنه يبحث فقط عن فرصة جديدة؟ وهكذا ظهرت عروض الوظائف من حيث لا ندري، لكنه رفضها مراراً وتكراراً.
بعد سبع سنوات، عندما التحق أبناؤنا بمرحلة التعليم المتوسط والتعليم الثانوي، بدأ "روجر" يتقدم باستفسارات وأسئلة، ظناً منه أنه لا يزال محافظاً على مركزه في السوق. لكن شهاداته لم تُغنِ عنه شيئاً عدا الاقتراح الذي تلقاه بأن يحاول في مجال العمل التطوعي. وكان هذا محبطاً ومحزناً. فإلى جانب الغرابة التي قد يراها البعض في توقفه عن العمل، فإن المجال الأكاديمي على وجه الخصوص واعتماده على مدة العمل لنيل الترقيات، لا يتقبل الانقطاع عن العمل. أوشك على الاستسلام معتقداً أن حياته المهنية قد انتهت.
لكننا في العام الماضي، بينما كان ابننا الأكبر على وشك التخرج من المرحلة الثانوية، خاطر زوجي وبدأ يستغل شبكة معارفه، حتى حصل على فرصة لتدريس علوم الأحياء والكيمياء والكيمياء الحيوية في "جامعة فرجينيا الجنوبية". لو أنه استمر في عمله في الأصل، لقاده الطريق إلى اتجاه البحث العلمي. أما الآن، فقد صار تركيزه منصباً على التدريس ومساعدة الجهود الريادية لتوسيع هذه الجامعة الصغيرة. فهو يحب الصف الدراسي، حيث توجد فرص للتطور المهني والشخصي. في العالم الأكاديمي، يُنظر إلى التركيز على التدريس كخطوة إلى الخلف، لكن زوجي يرى وظيفته الجديدة خطوة واعدة مع مساحة جديدة للنمو والازدهار.
ولأنني أعمل بشكل مستقل وحر الآن، يمكنني العيش والعمل أينما شئت، وهي رفاهية لم أتمتع بها مسبقاً في حياتي المهنية. كنت أعمل مثلاً في "وول ستريت"، لا لأن الشؤون المالية تتطلب موضع قدم في نيويورك أو لندن فحسب، بل لأن التكنولوجيا المتقدمة المساعدة على العمل عن بعد لم تكن متوفرة خلال هذه السنوات. أعجز عن التعبير عن الأثر العظيم لهذه التطورات التقنية في توسيع الخيارات المتاحة للكثيرين من الأزواج. ففي تلك المرحلة من حياتي المهنية، لم يكن السؤال قط "هل سننتقل إلى فرجينيا لنقبل بفرصة العمل المعروضة على زوجي؟"، بل كان "كيف لا نفعل ذلك؟".
مواجهة المعضلات التي يواجهها الأزواج العاملون
تنطوي المعضلات التي يواجهها الأزواج العاملون على تنازلات، وتكون صعبة للغاية في معظم الأحيان. فعادة ما نجهل التحديات التي ستواجهنا في طريق ما حتى نكتشفها أثناء السير. فهي مبهمة بدرجة كبيرة في بداية الرحلة، وتختلف حسب تفاصيل كل موقف. لكن فيما يلي بعض الأمور التي تعلمناها من تجربتنا التي قد تساعد أزواجاً آخرين يفكرون في هذا الخيار:
أولاً، تصعب العودة بعد انقطاع إلى بعض الوظائف أكثر من غيرها. زوجي يعمل في المجال العلمي، وهو مجال سريع التطور، كما أن المجال الأكاديمي لا يجعل هذا خياراً سهلاً. "كارول فيشمان كوهين" -مؤسس "آي ريلونش" (iRelaunch) ولديه خبرة طويلة مع العائدين من العمل بعد انقطاع- يؤكد ما يلي: "لقد شهدت آلافاً من حالات إعادة الانطلاق إلى العمل، إلا أن أربع حالات منها فقط كانوا في مناصب تعتمد على مدة تولى الوظيفة للترقّي فيها. وزوجك سيكون الخامس". في كثير من مجالات الجهود والمحاولات، من الوارد أن نتخلف عن الركب بسرعة ونُترك. لذا يتعين عليك مهما كانت صناعتك أن تخطط لعودتك إلى العمل بعد الانقطاع عنه -ويشمل ذلك كيفية البقاء مطلعاً على كل جديد في مجالك- خاصة إذا كنت تخطط للانقطاع لأكثر من سنة.
ثانياً، على الرغم من أن نوع "روجر" كذكر بدا عائقاً في طريقه للعودة إلى العمل -نظراً لنُدرة الآباء المتولين رعاية أبنائهم-، إلا أننا شهدنا بعض المزايا الخاصة بهذا. فشبكة العلاقات المهنية للرجل -إذا طورها وحافظ عليها- تقدم طرقاً للعودة إلى الحياة المهنية، وتكون هذه الطرق في الأغلب أكثر إفادة مما تتمتع به النساء، حيث تكون الغالبية لنوعنا في شبكة علاقاتنا المهنية، ويشغل الرجال على الأرجح المناصب المؤثرة في المؤسسات. أما النساء، فقدرتهن على مساعدة الأخريات أقل (تدعم الأبحاث هذه الحقيقة، ويسري ذلك على أصحاب البشرة السمراء كذلك للأسف). قد لا تجد هذا في حالتك، لكن هذا ما شهدناه في تجربتنا.
ثالثاً، أولينا الاهتمام إلى تأثير الدخل غير العادل على الأنا الذكورية، لكن التحدي الأكبر يكمن في التكيّف مع خسارة هوية "العمل". وقد يكون هذا صعباً لأي شخص، لكن الأثر مضاعف في حالة الرجال. وقد يترتب عليه آثاراً انفعالية يجب ألا يُساء تقديرها. كما أن الأب الذي يتولى رعاية أبنائه لا يملك شبكة الدعم التي تستطيع الأمهات ربات البيوت تطويرها. لدي شبكة هائلة من أمهات رائدات يُحتذى بهن، لكن لمجموعة من الأسباب لم يكن بإمكان زوجي دخول هذه الشبكة.
رابعاً، بينما يُنظر إلى الأمهات في معظم الأحيان على أنهن يقمن بـ "أصعب وظيفة في العالم" أو "الوظيفة الأهم على الإطلاق"، يُنظر إلى الآباء على الأرجح كمُهرّجين غير أكفاء ولا يعرفون كيفية تغيير الحفاضات أو إلباس أطفالهم بالصورة الصحيحة. ويأتي جزء من هذا الوصف من النساء، وآخر من آباء آخرين، وغيره من الوسائل الإعلامية. الحقيقة أن الآباء الذين يتحملون المسؤولية الرئيسية لرعاية أطفالهم يقومون بمساهمات مهمة، فلا تصحّ السخرية منهم أو التقليل من شأنهم. لا أحد يستفيد من أسلوب الحوار الذي يحطّ من شأن عمل أي شخص اختار أن يكون أباً عاملاً.
خامساً، عندما تُقدم على إعادة الانطلاق، تحدث عنه. تقول "كارول فيشمان كوهين" "إن جزءاً من المشكلة هو عدم وجود أمثلة كافية من الرجال العائدين إلى العمل بعد سنوات من الانقطاع. وإحدى أولوياتنا في "آي ريلونش" (iRelaunch) أن ننشر في مقالاتنا وعلى موقعنا الإلكتروني المئات من قصص النجاح في العودة إلى العمل. لكننا نجد صعوبة في إقناع الرجال بتسجيل تجربتهم عندما ينجحون في العودة إلى العمل، ويجيبوننا دائماً أنهم يفضلون أن ينسى الجميع أنهم انقطعوا عن العمل أصلاً. هذا يوضح أن التعامل مع الأمر كوصمة لا يزال مستمراً. لكنني أتوقع أن هذا سيتغير مع زيادة عدد الرجال المنقطعين عن العمل لرعاية أبنائهم ثم عودتهم بنجاح إلى حياتهم المهنية".
في كل أسرة، هناك أدوار عديدة تحتاج إلى من يشغلها. كأزواج، نتغلب على الصعاب التي تواجهنا حسب ظروفنا الخاصة، سواء كان كلانا عاملاً، أو كان أحدنا عاملاً والآخر منشغلاً بوظيفة أخرى، أو كان أحدنا عاملاً والآخر يتولى رعاية الأبناء، أو كنا في طريقنا إلى العودة للعمل أو لا. لقد اعتدت على تولي زوجي الكثير من الأعمال الرائعة في المنزل، وما زلت حقيقة لا أجيد الطهي، وقد أحتاج أن أغير هذا يوماً ما. لعل مفتاح النجاح هو التكيف والقدرة على الابتكار وإعادة الابتكار، وتبديل الأولويات عند الحاجة على أن يكون هذا دائماً في سياق تلبية الاحتياجات والطموحات الشخصية والأسرية.