كيف تتحدد اختياراتنا وفقاً لعلم الاقتصاد السلوكي؟

4 دقيقة
تأثير علم الاقتصاد السلوكي على اتخاذ القرارات

بدأ مصطلح علم الاقتصاد السلوكي يطرق مسامعنا في الآونة الأخيرة، خاصة مع نيل عالم الاقتصاد المرموق ريتشارد ثالر، أحد الباحثين الرائدين في الاقتصاد السلوكي، جائزة "نوبل" في الاقتصاد لعام 2017؛ وذلك لمساهمته في مجال الاقتصاد السلوكي، ووضعه لهذا العلم على الطاولة البحث العلمي من خلال توظيف دراساته بشكل عملي، وإطلاقه مصطلح الترغيب (Nudge) الذي يهدف إلى توظيف استراتيجيات الاقتصاد السلوكي في تغيير سلوكيات الأشخاص للأفضل بشكل غير مباشر.

مجالات تطبيق علم الاقتصاد السلوكي

إن أهداف علم الاقتصاد السلوكي متنوعة، إذ يهتم بدراسة السلوك الحقيقي للبشر واستكشاف عقلانيتهم بشكل أو بآخر ضمن المختبر، وبذلك فإنّ دراسات الاقتصاد السلوكي مهمة حقاً؛ لأنها تُعطي فكرة عن السلوك الحقيقي للأشخاص في المختبر عوضاً عن الاستبانات التي تُعطي السلوك المثالي لهم أو السلوك غير الفعلي على أقل تقدير.

حينما يُسأل الناس عن رأيهم في أي موضوع أو عن خيارهم الذي يفضّلون اتخاذه؛ لا يُفصحون عن سلوكهم الحقيقي، ولا يعود السبب في ذلك أبداً إلى تدليس منهم أو عدم الرغبة في التصريح عما في داخلهم؛ وإنما ببساطة لأن سلوكهم الحقيقي عندما يحين الموقف الفعلي سيختلف عن السلوك الذي يؤمنون بأنهم سيقومون به، وهذا ما يتم استكشافه في التجارب المخبرية وما يركّز عليه الاقتصاد السلوكي.

اقرأ أيضاً: كيف تبني مهارات العلوم السلوكية في شركتك؟

على سبيل المثال، حينما تُطرح استبانة على مجموعة من الأشخاص حول ما هي قهوتهم المفضلة؛ هل يفضلون شربها مع حليب أو مكوّن آخر، يُجيب معظمهم أنّهم يفضلون شرب القهوة من غير الحليب، إذ سيميل الناس لإعطاء الإجابة النموذجية: قهوة سوداء غامقة من غير حليب؛ أما عندما تحين ساعة السلوك الفعلي، سيقرر الكثير شرب القهوة مع حليب، وتناول أحد الأنواع المختلفة من القهوة مع الحليب بأسمائها المتنوعة الجذّابة.

كل ما يحدث أنّ السلوك النظري مختلف تماماً عن السلوك الحقيقي، إذ لدينا في السلوك النظري ترف التفكير بالخيارات المثالية وأخذ رأي المجتمع بعين الاعتبار والتفكير بشكل مثالي، ولكن في الحياة الواقعية، وحين نتخذ القرار عملياً؛ نتخذه بناء على مؤشرات أخرى، وتتحكم بنا مؤثرات خارجية بلا دراية منا، وغالباً ما يكون قرارنا غير عقلاني حينئذ، ولربما بعيداً كل البعد عن المثالية التي ننشدها. بالعودة لمثال القهوة، فالإجابة المثالية في المجتمع، والتي يتعارف الجميع أنها مميزة هي: القهوة الغامقة والمركزة ومن غير حليب، ولذلك سيخبرك الناس أنهم يفضلون شُربها بتلك المواصفات.

يقلب الاقتصاد السلوكي قواعد اللعبة، فعوضاً عن سؤال الناس عن رأيهم؛ يتم إجراء تجربة عملية تحاكي ذلك السلوك واختباره، ولذلك يُدعى أيضاً بالاقتصاد التجريبي. وعوضاً عن سؤال الأشخاص عن رأيهم بالقهوة، ماذا لو وضعنا لهم أكواباً من القهوة المتنوعة على الطاولة (قهوة وقهوة بالحليب وغيرها)، وتركنا لهم حرية الاختيار؟ هنا نحصل على السلوك الحقيقي لهم وليس النظري.

يرفض الاقتصاد السلوكي الاستبانات، إذ لا تضمن لك الاستبانات صحة النتائج قطعياً، حيث يميل المشاركون في إجاباتهم إلى تقديم إحدى الإجابات التالية: إجابة مثالية، أو إجابة متوافقة مع المجتمع، أو إجابة مدلّسة، ومهما كانت الإجابة فهي مجرد صدفة أن تتشابه مع السلوك الحقيقي الفعلي.

روّاد علم الاقتصاد السلوكي

تعود نشأة الاقتصاد السلوكي بشكله الحالي إلى عالمين شهيرين هما: دانيال كانيمان وعاموس تفيرسكي، اللذين درسا انحيازات الحدس، وهي أهمّ الانحيازات التي تؤثر في صناعة القرار، وذلك بهدف فهم الأخطاء في الأحكام والخيارات لدى الآخرين وتحسينها. بدأ التعاون بين العالمين، ليخرج أول بحث مشترك لهما عام 1974 وهو: "إصدار الأحكام في ظل عدم اليقين: طرق الاستدلال والانحيازات"؛ أما البحث الثاني فقد كان عام 1979 بعنوان "نظرية التوقع: تحليل لعملية اتخاذ القرار في ظلّ المخاطرة"، ويُعد هذين البحثين من أهم الأبحاث التي مهدت لنشوء الاقتصاد السلوكي، ويكفي أنّ نشير إلى أنه قد تم اقتباس كل بحث على حدة نحو خمسين ألف مرة حتى الآن.

تابع كانيمان أبحاثه وقام بنشرها والتعليق عليها لاحقاً ضمن كتاب "التفكير: السريع والبطيء" (Thinking, Fast and Slow)، والذي يعد من أمتع الأعمال التي تُسهب في شرح آلية عمل الدماغ في كيفية اتخاذ القرارات والتفكير بشكل عام، وهو يشرح البحوث التي قام بها كانيمان وزميله تفيرسكي.

اقرأ أيضاً: صعود نجم الاقتصاد السلوكي وتأثيره على الشركات

ومن الجدير ذكره أنه قد توّجت أعمال كانيمان بجائزة نوبل للاقتصاد عام 2002 مناصفةً مع فيرنون سميث؛ ما وضع الاقتصاد السلوكي على خارطة فروع الاقتصاد بقوة، خاصة أنّ إسهامات فيرنون سميث تتعلق بالاقتصاد التجريبي أيضاً؛ ما جعل الاقتصاد السلوكي معترفًا به كفرع من فروع الاقتصاد.

وفي العقد الأخير، أضحى الاقتصاد السلوكي فرعاً من فروع الاقتصاد، الذي يركز على دراسة السلوك الفردي ضمن إطار بيئة مختبرية مراقبة، ولذلك يُدعى أيضاً بالاقتصاد التجريبي، حيث يتم إجراء التجارب ضمن المختبر. تبدأ بدعوة الأشخاص للقيام بالتجربة، ومن ثم مراقبة سلوك الأشخاص وقياس أداء التجربة بدقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه يجب أن تكون التجارب ذات مقابل مادي، بحيث يحصل الشخص المشارك على مقابل مادي عند مشاركته في التجربة، بالإضافة إلى جائزة قيمة تتناسب مع التجربة التي يقوم بها؛ ما يجعله يقوم بالسلوك الحقيقي المقابل للحياة العملية، وهذا ما يجعلها مختلفة جذرياً عن الاستبانات المجانية الورقية.

إلى جانب ذلك، يساعد الاقتصاد التجريبي على إثبات أو دحض النظريات الاقتصادية، وخلق توقعات ورؤى حول سلوك الأشخاص الحقيقي ودراسة دوافعهم وسلوكهم.

يُعرف الاقتصاد السلوكي بأنّه حقل دراسي يتطلب من الاقتصاديين مواجهة الواقع الذي يتمثل في القرارات الفعلية التي اتخذتها العينة. وهنا لا بدّ من التذكير مرة أخرى أنّ المشاركين يحصلون على مقابل مادي حقيقي جراء مشاركتهم في التجربة، ما يعني دراسة سلوكهم الفعلي الحقيقي قدر الإمكان ووجود مقابل مادي وليس عيني هو شرط أساسي لإجراء التجارب الاقتصادية العملية.

تأثير الاقتصاد السلوكي على عملية اتخاذ القرار

وكي نعرف أهمية تلك النقطة، أشير إلى تجربة خلال عملي سابقاً حين كنت مديراً لمخبر الاقتصاد السلوكي في كلية الاقتصاد في "جامعة غرناطة" (إسبانيا)، فخلال إحدى التجارب التي قمت بها في أثناء التحضير لنيل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد السلوكي واتخاذ القرار؛ قام المشاركون بتغيير رأيهم بنسبة وصلت إلى 92% حين أخبرناهم في نهاية التجربة أنّ عليهم اتخاذ قرارهم النهائي القطعي بشكل عملي وسيكون هناك مكافأة مادية وفق قواعد معينة.

في بداية التجربة اختار المشاركون خيارهم جازمين أنه الأفضل وفق مقاربتهم، ولكن في نهاية التجربة، وحين تم إخبارهم أنّ الأمر ليس مجرد استبانة وإنما هناك احتمال نيل مكافأة مادية هذه المرة (كانت نحو عشرين يورو)، غيّر معظم المشاركين خيارهم إلى خيار آخر، لم يكن المشاركون مستعدين لخسارة مكافأة مادية من أجل إعطاء إجابة مثالية، وأعادوا التفكير مرة أخرى حين أصبح الأمر عملياً.

اقرأ أيضاً: دروس وإرشادات لوحدات الترغيب والتوجيه السلوكي في الشرق الأوسط

نحن نزعم أننا عقلانيون وأننا نتحكم في الأمور ونتخذ القرارات بعقلانية كاملة، ولكن حقيقة الأمر أنّ هناك عوامل خفيةً تتلاعب بنا وتؤثر على قراراتنا، وعليه إذا كنت تنوي بيع خدمة ما فانتبه من فخ الاستبانات ورأي الزبائن بمَ يفضّلونه، والأفضل التفكير بطريقة عملية مخبرية لاختبار ما يفضلونه بشكل علمي وعملي مبني على التجارب والمبيعات الفعلية، واحذر مما يخبرونك به بأنهم يفضلونه، هم لا يغشّونك، هم ببساطة لا يعرفون ولن يقتنعوا أصلاً أنّ سلوكهم الحقيقي غير عقلاني.

إنّ إدماج علم الاقتصاد السلوكي في قطاعات الأعمال بمختلف توجهاتها يوفر علينا الكثير من الوقت والجهد، ويقدم لنا الخلطة السحرية للترويج الأنجع لخدماتنا، وتجنب الوقوع في فخ الحيل التسويقية للمنتجين، ولعله الأهم فعلاً؛ فهمنا لأنفسنا ولأدمغتنا بشكل واضح، ولهذا علينا فهم أهداف الاقتصاد السلوكي بشكل دقيق.

اقرأ أيضاً: تطبيقات مفاهيم الاقتصاد السلوكي من قبل المصارف المركزية والبنوك

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي