ما الذي يحفز من يتبنون عقلية التعلم مدى الحياة؟

5 دقائق
التعلم مدى الحياة

ملخص: تنشئ الشركات اليوم برامج التعلم مدى الحياة لموظفيها سعياً إلى البقاء في مقدمة المنافسة، لكن من الممكن أن تكون أكثر فعالية مما هي عليه غالباً، وذلك لأنها لا تحثّ على النوع الصحيح من التعلم المتمثل في تكوين معارف جديدة (وعدم الاكتفاء بنقل المعارف الحالية عن المهارات الحالية). يبين بحث المؤلف أن من لديهم الدافع لاتباع هذا النوع من التعلم لا يدفعهم الحافز المعتاد المتمثل في الخوف من خسارة الوظيفة، بل يحفزهم ما يسميه المؤلف "شغف المستكشف". يصف المقال هذه العقلية وما يمكن للشركات فعله من أجل تنميتها لدى موظفيها.

يبدو أن جميع من يعملون في قطاع الأعمال اليوم يتحدثون عن ضرورة مشاركة جميع الموظفين في عملية التعلم مدى الحياة نتيجة لسرعة التغييرات التكنولوجية والاستراتيجية من حولنا. لكني توصلت إلى أن غالبية المسؤولين التنفيذيين وخبراء إدارة المواهب المسؤولين عن دفع موظفيهم للتعلم لا يفكرون فيما يحفز التعلم الحقيقي؛ أي تكوين معارف جديدة لا نقل المعارف الحالية فحسب. بالنتيجة تفوّت شركات كثيرة فرص تحفيز موظفيها للانخراط في عملية التعلم التي ستساعدهم فعلياً على الابتكار ومواكبة احتياجات العملاء المتغيرة.

فاليوم لا يكفي دفع الموظفين للمشاركة في برامج تحسين المهارات ببساطة، إذ تركز برامج التدريب هذه بدرجة كبيرة على مشاركة المعارف الحالية والمهارات الموجودة بالفعل. لكن في عالمنا سريع التغير سرعان ما تصبح المعارف الحالية غير قابلة للاستخدام، لذلك يجب علينا توسيع تعريفنا لمفهوم "التعلم" ليشمل تكوين معارف جديدة. يجب أن يختبر خبراء التسويق وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات التحليل الجديدة، ويجب أن يتوصل عمال المعمل إلى طرق جديدة لاستخدام الروبوت "القاتل للوظائف"، ويجب أن يتوصل فنيو تكنولوجيا المعلومات إلى طرق جديدة لمعالجة البطاقات باستخدام الذكاء الاصطناعي.

هذا المقال هو أحد مقالات سلسلة "الضرورات الإنسانية"، وهي موضوع مؤتمر "بيتر دراكر" العالمي الثالث عشر. يمكنك الاطلاع على برنامج المؤتمر من هنا.

يتطلب تطوير معارف جديدة بهذه الطريقة جهوداً كبيرة ومستمرة والمجازفة في أثناء العمل أكثر مما يتطلبه برنامج تحسين المهارات التقليدي، ولذلك يجب أن يملك المتعلمون حافزاً أعمق بكثير للانخراط في هذه العملية. لكن نادراً ما أسمع مسؤولاً تنفيذياً يسأل عن سبب رغبة موظفيه في الانخراط في عملية التعلم مدى الحياة، وعندما ألحّ في طرح هذا السؤال غالباً ما يكون الجواب هو أن على الموظفين الانخراط في هذه العملية لأنهم إذا لم يفعلوا ذلك فسيخسرون وظائفهم لأن مهاراتهم الحالية تصبح عديمة الفائدة. إذن فالحافز الذي يعتمد المسؤولون التنفيذيون عليه هو الخوف، خوفك من خسارة وظيفتك.

رأيت أنا وزملائي في مركز "ديلويت للتميز" أن الخوف ليس أقوى حافز يدفع الموظفين للتعلم، وأردنا معرفة السبب. ما الذي يدفع خبير التسويق لاختبار أدوات جديدة، وعامل المعمل للعب بالروبوت، وفني تكنولوجيا المعلومات للعبث بالذكاء الاصطناعي؟ بناء على أعوام من البحث حول دوافع الموظفين في العمل، أجرينا دراسة على 1,300 موظف في الولايات المتحدة يعملون بدوام كامل في الخطوط الأمامية ضمن 15 قطاعاً وعدة مستويات وظيفية بهدف فهم آلية التحفيز عندما نلاحظ تحسناً كبيراً في الأداء.

اكتشفنا أن الموظفين الذين تعلموا وحققوا نمواً بهذه الطريقة بدلاً من التعلم بدافع الخوف أظهروا ما أطلقنا عليه اسم شغف المستكشف. يمثل هذا الشغف حافزاً قوياً جداً للتعلم (أبحث في الأمر بتفصيل أكبر بكثير في كتابي الجديد الرحلة بعيداً عن الخوف (The Journey Beyond Fear)).

لاحظنا لدى الموظفين الذين أجرينا عليهم دراستنا أن شغف المستكشف يتكون من 3 عناصر أساسية:

  • يتمتع المستكشف بالتزام طويل الأمد بتحقيق أثر في مجال معين يثير حماسه، بدءاً من العمل في المعمل أو الخدمات المالية وصولاً إلى ركوب الأمواج العالية.
  • وهو يشعر بالحماس عندما يواجه تحديات مفاجئة، ويعتبر هذه العقبات فرصة للتعلم وتحقيق أثر أكبر. في الحقيقة، سيشعر بالملل إذا لم يواجه ما يكفي من التحديات وسيبحث عن بيئات تقدم المزيد منها.
  • وعندما يواجه المستكشف تحدياً جديداً سيشعر على الفور برغبة في البحث عمن يمكنهم مساعدته والتواصل معهم بهدف الحصول على أجوبة أفضل كي يتمكن من زيادة تأثيره.

اقرأ أيضا: ما علاقة التعليم مدى الحياة بالسوق؟

بينت دراستنا أن الموظفين الذين يتمتعون بهذا الشغف يتعلمون بسرعة أكبر بكثير ممن يدفعهم الخوف.

لكن هنا يظهر التحدي بالنسبة لقادة المؤسسات الذين يسعون لترسيخ هذا الشغف لدى موظفيهم. كشف البحث ذاته أن 14% على الأكثر من الموظفين الأميركيين يُظهرون هذا النوع من الشغف في عملهم.

لماذا هذه النسبة صغيرة جداً؟ وهل يمكن تغييرها وترسيخ هذا الشغف لدى موظفيك؟ أو أن بعض الموظفين لا يستطيعون امتلاك شغف بهذه الطريقة؟

أعتقد أننا جميعاً قادرون على امتلاك هذا الشغف. اذهب إلى الملعب وراقب الأطفال بعمر 5 إلى 6 أعوام، فهم جميعهم يملكون جميع العناصر اللازمة: الفضول والمخيلة والإبداع والرغبة في المجازفة والتواصل مع الآخرين.

لذا، أعتقد أن سبب ضآلة هذه النسبة لدى البالغين هو أن معظمنا قد تم تثبيطه عن السعي إلى تحقيق أمر إنساني جوهرياً في سبيل التأقلم مع المؤسسات التي تريد تحويلنا إلى أجزاء من آلة نتّبع الإجراءات المكتوبة في كتيب الإرشادات حرفياً ونعمل بسرعة أكبر وكلفة أقل. هذا لأن أصحاب العمل كانوا من القدم يشكّون في فعالية هذا النوع من الشغف، فالمستكشف الشغوف يطرح كثيراً من الأسئلة ويخرج عن التعليمات المحددة ويجازف كثيراً.

خذ مثلاً واحدة من معارفي كانت تعمل في قسم التوريد بشركة سيارات كبيرة، بناء على حماسها لتحسين شبكة التوريد في الشركة، أنشأت نموذجاً جديداً لشبكة التوريد من أجل تقييم إمكانية الاعتماد على الموردين وبدأت باختباره، لكنها أقيلت من العمل بسبب عدم اتباعها إجراءات التوريد القياسية.

نرى المؤسسات الكبيرة حول العالم مدفوعة بنموذج الفاعلية القابلة للقياس حيث يكمن سرّ النجاح في القيام بالعمل على نحو أسرع وأقلّ تكلفة، لكن تتمثل الصعوبة في ارتباط فاعلية تلك الإجراءات المحددة بالعمل ضمن بيئة ثابتة حيث تكون الحالات معروفة مسبقاً. أما في عالم سريع التغير يشهد غموضاً متنامياً، فإن موظفي الخطوط الأمامية يرون أنهم يستهلكون مزيداً من الوقت والجهد لأنهم مجبرون على الخروج عن الإجراءات المحددة بدقة، وبالتالي تصبح الفاعلية القابلة للقياس عديمة الفاعلية بصورة متزايدة.

لكن ما إن ندرك أهمية شغف المستكشف فإننا ندرك أن علينا الانتقال من الفاعلية القابلة للقياس إلى التعلم القابل للقياس حيث نحول تركيزنا عن تنفيذ المهام الروتينية ونصبّه على مساعدة الجميع على التعلم بصورة جماعية أسرع. يستدعي القيام بذلك أن نعيد تصميم ممارسات شركاتنا وبيئات عملنا كي ننمي شغف المستكشف لدى جميع موظفينا (وليس لدى من يعملون في مختبرات البحث أو مراكز الابتكار فقط).

ولتحقيق ذلك ابدأ بتحديد جزء من الشركة يواجه مشكلات كبيرة في الأداء وتوصل إلى طرق لمساعدة الموظفين على البدء بمعالجة المشكلات التي لم يتعامل معها أحد من قبل. مثلاً، كانت شركة "كويست داياغنوستيكس" (Quest Diagnostics) تواجه استياء ملحوظاً لدى العملاء من عمليات مركز اتصالات العملاء، فشجعت موظفي مركز الاتصالات على العمل مع قسم تكنولوجيا المعلومات والتوصل إلى طرق لأتمتة كثير من المهام الروتينية التي كانت تستهلك جزءاً كبيراً من وقتهم واهتمامهم. وبعد تحرير قدرات الموظفين تم تشجيعهم على توجيه تركيزهم إلى المسائل الأصعب التي كان العملاء يطرحونها عليهم والتعامل معها بأساليب إبداعية أكثر قادرة على زيادة القيمة المقدمة للعملاء، وبالنتيجة تحسن رضا العملاء بدرجة كبيرة وأصبح موظفو مركز الاتصالات أكثر حماساً بشأن قدرتهم على إضافة القيمة، وبدأ شغف المستكشف لديهم بالظهور.

تتيح تنمية شغف المستكشف المجال للتفكير الابتكاري في المؤسسة على مستوى جديد كلياً، والمؤسسات التي تحيي إنسانيتنا بهذه الطريقة ستطلق العنان لعملية تعلم أقوى بكثير بين الموظفين كافة تؤدي بدورها إلى توسيع الفرص بدرجة هائلة، لكن تسخير تلك الفرص يتطلب منا التحرك بعيداً عن الخوف والعثور على شغف المستكشف الذي ينتظر اكتشافه في كلّ واحد منا وتنميته.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي