تواجه الشركات الناشئة والشركات الراسخة جميعها معضلة عند تصميم منتجات تقنية جديدة بسبب مشكلة الشركات الناشئة في عصر عمالقة التكنولوجيا. فإذا توصلت لشيء مبتكَر ينطوي على إمكانات عالية، يؤدي ذلك إلى خضوعهم للمراقبة من الشركات التقنية الكبرى مثل "أمازون" و"جوجل" و"فيسبوك" و"مايكروسوفت". فعمالقة التكنولوجيا يمتلكون المال والتقنيات والبيانات والمواهب التي تمكنهم من تقليد وتعزيز أي ابتكار تقني غير محمي بشكل كامل ببراءات اختراع، بما يشمل معظم المنتجات الرقمية.
الشركات الناشئة في عصر عمالقة التكنولوجيا
اتضح من خلال الوقائع الأخيرة أن هذا التقليد أمر شائع للغاية وأنه مهدّد لوجود الشركات الناشئة. يأخذ هذا التقليد عدة أشكال. فأحياناً يقلد عمالقة التكنولوجيا بعض الميزات المبتكرة ببساطة. على سبيل المثال، عندما كانت الشركة المالكة لتطبيق "سناب شات" تحقق نتائج جيدة بميزة القصص التي تختفي بعد 24 ساعة، انتقمت "فيسبوك" منها بتقديم الميزة ذاتها في منتجاتها بما في ذلك "إنستغرام" و"واتساب". وهو ما أدى إلى تراجع نمو قاعدة مستخدمي تطبيق "سناب شات". وواجهت الشركة صعوبة في استعادة زخمها وانخفضت أسعار أسهمها بشكل كبير.
اقرأ أيضاً: كيف تدير مؤسسة حكومية كرائد أعمال؟
هناك حالات أكثر فظاعة وفيها قُلّد "العامل الشكلي" (حسب المصطلحات المستخدمة في وادي السيليكون) بالكامل. على سبيل المثال، تباطأ معدل استخدام تطبيق "سلاك" (Slack) وبدأ يشهد تراجعاً بعد سنوات من نمو قاعدة مستخدميه بنسبة 5% تقريباً شهرياً (!). ولكن أين الحدث المحوري؟ أطلقت "مايكروسوفت" منتجاً يُعد نسخة مقلدة منه وهو تطبيق "تيمز" (Teams). فقد فعلت "مايكروسوفت" ما تتقن فعله: انتظرت إلى أن رأت بوادر نجاح (في هذه الحالة، أربع سنوات) ثم قلدت المنتج ولاحقاً أدمجته في منتجاتها أخرى.
وهناك نهج ثالث يتمثل في تقليد منتج متخصص. على سبيل المثال، اكتسبت شركة "أولبردز" (Allbirds) قاعدة من العملاء بعد طرح خط من الأحذية الصوفية المصنعة بطريقة مسؤولة بيئياً. رداً على ذلك، قلدت "أمازون" المنتج الأكثر مبيعاً بكل تفاصيله تقريباً وباعته عبر الإنترنت بنصف الثمن تقريباً.
على الرغم من هذا السلوك الاستغلالي، وما نتج عنه من عزوف شركات رأس المال المغامر (أو ما تسمى شركات رأس المال الجريء) عن الاستثمار، تمكنت القليل من الشركات الناشئة من النجاة بما يتجاوز مراحلها الأولى وأصبحت أطرافاً فاعلة كبيرة في المجال نفسه الذي تنشط فيه عمالقة التكنولوجيا. ظاهرياً يبدو وكأنهم نجحوا لحظهم الجيد أو لعدم اهتمام عمالقة التكنولوجيا بهم. ولكنهم نجحوا في الواقع باستخدامهم مواطن قوة تلك الشركات ضدها. فهذه الخطوة الاستراتيجية، على الرغم من أنها تبدو غير منطقية في البداية، يمكن أن تؤدي إلى حماية الابتكار من التقليد.
اقرأ أيضاً: كيف لريادة الأعمال أن تستفيد من الثورة الصناعية الرابعة؟
من الأمثلة على ذلك، شركة "واي فير" (Wayfair). فهي تُعد اليوم أكبر شركة لبيع السلع المنزلية والأثاث عبر الإنترنت. في عام 2014، شاركتُ في إعداد دراسة حالة بجامعة هارفارد، وقد تناولت كيف ضمت الشركة أكثر من 200 موقع إلكتروني لمنتجات متخصصة تحت علامتها التجارية. عندما تحدثت مع نيراج شاه، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي، كان من الواضح أن "أمازون" تشكل تهديداً دائماً. فعلى مر السنين نفّذت "واي فير" العديد من الميزات التي كانت من عمل "أمازون"، وأيضاً قلد المطورون في شركة "أمازون" ميزات من "واي فير".
ولكن الشيء الوحيد الذي لم تقلده "أمازون"، والذي كان يعمل بشكل جيد وملحوظ للغاية مع شركة "واي فير"، هو أخذ تصميمات ومقاسات الأثاث والمفروشات المنزلية التي تبيعها شركة "واي فير". وهذه التفاصيل الإضافية ساعدت المستهلكين على تصور ديكور منازلهم الذي يخططون لتنفيذه وأيضاً ساعد "واي فير" على تمييز نفسها عن منافسيها واكتساب زخم. (كان نمو الإيرادات في خمس سنوات مذهلاً حيث بلغ 49% [معدل النمو السنوي المركب]، مقارنة بمعدل نمو إيرادات أمازون الذي بلغ 26%). إلا أن "أمازون" استمرت في عرض التصميمات التي توفرها الشركة المصنعة فحسب.
نهج الشركات في المنافسة
ولكن ما السبب؟ أشك أن السبب في ذلك هو أن "أمازون" تمتلك 3 مليارات سلعة للبيع بينما تعرض "واي فير" 14 مليون سلعة. فالبنية التحتية والتكاليف الإضافية التي ستحتاج "أمازون" إليها لالتقاط صور مميزة لمنتجاتها سيرهقها، لاسيما وأن أكثر من نصف مبيعاتها تأتي من قوائم الأسواق التي يديرها بائعو الطرف الثالث بصورة مستقلة. ولا يتعلق الأمر بالتكاليف فحسب. كي تنجح "أمازون" في تطبيق نهج شركة "واي فير" ستحتاج إلى فترات إنتاج أطول لإضافة منتجات جديدة، ما يقلل سرعة النمو في "أمازون" التي تُعد "المتجر الذي يبيع كل شيء". كما أن ذلك قد يتسبب في بطء تحميل الموقع الإلكتروني لأمازون وسيصبح فوضوياً ومزدحماً بشكل أكبر. كان بإمكان "أمازون" أن تقلد "واي فير" ولكنها اختارت ألا تفعل، لأن ذلك لم يكن يصب في مصلحتها.
اتبعت شركة "زوليلي" (Zulily)، التي تبيع ملابس النساء والأطفال عبر الإنترنت، نهجاً مختلفاً فيما يتعلق بالتنافس مع "أمازون" بطريقة جعلت شركة البيع بالتجزئة العملاقة تختار ألا تقلدها. تتبع "أمازون" باستمرار نهجاً متمركزاً حول العميل: فالمتسوقون يفضلون الأسعار المنخفضة ومواعيد التسليم القريبة وخدمة العملاء الرائعة. إلا أن في عالم البيع بالتجزئة، إيلاء الأولوية لتلبية احتياجات المتسوق يأتي على حساب المورد، وقد تحمّل موردو "أمازون" الكثير. إذ إن "أمازون" عادة ما تمتنع عن الدفع أو تؤخره، وغالباً ما تفعل ذلك تعسفاً. والأسوأ من ذلك أنها تقلد منتجات الموردين، وهو ما يضعفهم ويُوقف أعمالهم في الغالب.
اقرأ أيضاً: كيف لرائد الأعمال أن يدير مقاومة فريق عمله للتغيير؟
لذلك بدا الأمر منطقياً تماماً أن تقدم "زوليلي" للموردين خدمة عالية الجودة وأن تلتزم بحجم المشتريات وأن تقدم لهم عروض أسعار منصفة. ونتيجة للنهج الذي تتبعه "زوليلي"، وافق العديد من الموردين على عقد صفقات توريد حصرية مع الشركة الناشئة بدلاً من البيع في "أمازون" التي تُعد سوقاً أكبر بكثير. وهو ما سمح لـ "زوليلي" بأن تعرض سلعاً جديدة وفريدة من نوعها وغير متوفرة في مكان آخر. وقد ازدادت إيرادات الشركة بشكل هائل، حيث بلغ معدل النمو السنوي المركب 161% من عام 2009 إلى 2014، إلى أن استحوذت عليها شركة "كيوريت" (Qurate)، المالكة للشبكة التلفزيونية "كيو في سي" (QVC) وشبكة التسوق المنزلي "آتش إس إن" (HSN)، في عام 2015 مقابل 2.4 مليار دولار، كما أوضحت دراسة الحالة هذه التي أجرتها جامعة هارفارد.
هناك أيضاً أمثلة من خارج قطاع التجارة الإلكترونية، فقد استغلت شركة "دروب بوكس" (Dropbox) في بداياتها براعة شركة "مايكروسوفت" في بيع البرمجيات للشركات. فقد كانت "دروب بوكس" لسنوات شركة ناشئة صغيرة ذات بضع عشرات من الموظفين ولم يكن لديها موظفو مبيعات لبيع خدمات التخزين السحابي للرؤساء التنفيذيين للمعلومات والرؤساء التنفيذيين للتكنولوجيا بالشركات. ولكنها كانت تقدم خدماتها مجاناً لفرادى المستهلكين. ومع تبنّي الأشخاص للخدمة ونموها، كوّنت "دروب بوكس" شبكة من المستخدمين لبدء استخدام منتجها في العمل. وبمرور الزمن، ضغط هؤلاء المستخدمون على مدرائهم والرؤساء التنفيذيين للمعلومات والرؤساء التنفيذيين للتكنولوجيا لشراء برنامج "دروب بوكس" واستخدامه في العمل، وهو موضوع إحدى دراسات الحالة التي أجرتها جامعة هارفارد. ما يعني أن شركة "دروب بوكس" استخدمت الاستهلاك الشخصي باعتباره حصان طروادة.
يُعد هذا النهج الذي يشبه رياضة الجودو، لأن المتحدي الأصغر حجماً يستفيد من الحجم الأكبر للمنافس وقوته، مشجعاً ولكن بالتأكيد نجاحه غير مضمون وكذلك قابليته للاستمرار على المدى الطويل. فإذا لم تقلدك الشركة التقنية العملاقة التي تتحداها، فإنها قد تلجأ إلى بناء منافس قائم بذاته لتظل تقلد ما تصنعه بكل تفاصيله تقريباً. ومع ذلك، بشكل عام التنافس مع منافس فرعي قائم بذاته أكثر سهولة من التنافس مع "الشركة الأم". عندما أتاح تطبيق "تيك توك" (TikTok) للمستخدمين مشاركة مقاطع غنائية، أعجب ذلك المستخدمين الأصغر سناً الذين كانوا يعتقدون أن "الفيسبوك" مناسب لآبائهم وأجدادهم، وسرعان ما اكتسب زخماً. ردت "فيسبوك" على ذلك بإطلاق تطبيق قائم بذاته مماثل له تقريباً يسمى "لاسو" (Lasso) الذي لم يكتسب زخماً حتى الآن.
الاستحواذ على الشركات بعيداً عن التقليد
عوضاً عن ذلك، يمكن لعمالقة التكنولوجيا أن يحاولوا ببساطة الاستحواذ على الشركات التي تشكل تهديداً لهم. ولكنه إجراء غير مضمون النجاح أيضاً. فالاستحواذ مكلف للغاية وأصبح على نحو متزايد لا يُعد مجرد خيار. فمثلاً حاولت "فيسبوك" شراء "سناب شات" ولكنها قوبلت بالرفض. و"مايكروسوفت" حاولت شراء تطبيق "سلاك" ولكنها لم تنجح. في هاتين الحالتين، كان مؤسسو الشركة الناشئة والمستثمرون هم مَن رفضوا العروض. أما "أمازون"، التي من واقع سمعتها تُعد الأقل ميلاً بين عمالقة التكنولوجيا إلى إجراء عمليات استحواذ، فإنها فضّلت على مر التاريخ أن تطور منتجاتها داخلياً عوضاً عن الحصول على ما تحتاج إليه من الخارج.
اقرأ أيضاً: كيف تجعل خيارات الأسهم في الشركات الناشئة صفقة أفضل للموظفين؟
كنت أستخدم هذا النهج مع الشركات الناشئة التي أقدم لها المشورة، وقد حقق درجات مختلفة من النجاح. كي تستخدم مواطن قوة عمالقة التكنولوجيا ضدهم وتتجنب أن يحاصروك بتقليد منتجاتك، ستحتاج إلى الإجابة عن هذه الأسئلة:
-
هل يمتلك المنافس موطن قوة أساسي مسؤول في الغالب عن نجاحه؟
-
هل يمكنك تحديد منتج معروض (من حيث التخصص أو الميزة أو الشكل) تثمنه شريحة من العملاء وسيكون تقديمه أكثر صعوبة بامتلاك موطن القوة المذكور أعلاه؟
-
هل تقليد المنتج الجديد يضر بطريقة ما العمل التجاري الأساسي للمنافس الأكبر حجماً؟
-
إذا كان المنتج المعروض يكتسب زخماً في السوق، هل ستحتاج الشركة التقنية العملاقة المنافسة بالضرورة إلى التخلي عن موطن قوتها لتقليد المنتج أو للمنافسة؟
إذا أجبت بـ "نعم" عن هذه الأسئلة، فقد وجدت طريقة لتمنع محاولات تقليدك الصارخة ولتحقق النجاح دون عوائق. بالطبع لا توجد استراتيجية محددة يمكنها أن تحقق مزايا إلى الأبد. ولكن كي تنجح وتزدهر، من الضروري أن تحمي باستمرار ابتكاراتك من التقليد مع تجاوز مشكلة الشركات الناشئة في عصر عمالقة التكنولوجيا.
شكر وتقدير: لياندرو غيسوني ومارك هيل وغريغ بيتشوتو وهيم سوري، قدموا اقتراحات قيمة لهذه المقالة.