من يربح في عصر التوظيف الذكي: أصحاب الشهادات أم المهارات؟

5 دقيقة
عصر التوظيف الذكي
shutterstock.com/Wor Jun

في عام 2023 أعلنت شركة جوجل عن برنامج جديد للتوظيف، إذ قررت الاستغناء عن شرط الحصول على شهادة جامعية في بعض الوظائف التقنية.

كان هذا القرار بمثابة نقطة تحول في سوق العمل، خصوصاً في ظل تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، فوفقاً لهذه المبادرة، بدأت الشركة بتوظيف خريجي الدورات التدريبية عبر الإنترنت والمعسكرات التدريبية، الذين امتلكوا المهارات المطلوبة دون الحاجة إلى الشهادة الأكاديمية "التقليدية". أثار هذا الأمر جدلاً واسعاً حول إذا ما كانت الشهادات الجامعية لا تزال ضرورية في عصرنا الحالي، عصر الذكاء الاصطناعي الذي تتغير فيه سوق العمل بسرعة مذهلة. وهذا يفرض سؤالاً جوهرياً: "هل لا تزال المؤهلات الأكاديمية مثل الشهادات الجامعية ضرورية للتوظيف؟".

تشير الإحصائيات والبيانات إلى أن هذا السؤال لم يعد مجرد فضول لدى الخبراء، بل أصبح أساسياً لدى صناع القرار في مجالات التوظيف وإدارة الموارد البشرية ومدراء الشركات. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، بلغ معدل البطالة وفقاً لموقع بزنس إنسايدر بين خريجي الجامعات، خاصة في الفئة العمرية بين 22 و27 عاماً، نحو 6.6%، مقارنة بمعدل البطالة السائد الذي يقدر بنحو 4%، كما أن الوظائف المتاحة في شركات التكنولوجيا الكبرى تراجعت بأكثر من 50% منذ أزمة كوفيد-19، ولم تنخفض هذه النسبة على الرغم من انتشار الذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، لا تزال نسبة كبيرة من الشركات (نحو 82%) لا تنوي التخلي عن متطلبات الشهادة الجامعية في وظائف الخريجين الحديثي التعيين، بحسب تقرير نشرته كلية هارفارد للأعمال. وبينما تظل الشهادة الجامعية ورقة اعتماد مهمة في قطاعات عديدة، يتنامى الاتجاه نحو التوظيف القائم على المهارات. ففي تقرير حديث من سي إن بي سي، أكدت شركة واحدة من أصل كل 3 شركات أنها ألغت متطلبات الشهادة في وصف الشواغر الوظيفية المتاحة، وذكرت 41% من الشركات أنها تشترط الشهادة في وظائف معينة فقط، في حين شددت نسبة 22% على أنها لا تزال تشترط الشهادة الجامعية.

وأظهرت دراسة ضخمة منشورة في هارفارد بزنس ريفيو شملت 51 مليون إعلان توظيف حديث، أن الاتجاه نحو تخفيف متطلبات الشهادة واضح ومتزايد، وسيتعمق أكثر فأكثر مع قدرة الذكاء الاصطناعي التوليدي على محاكاة جزء معتبر من الخبرة البشرية. والأهم من ذلك، أن مهارات الذكاء الاصطناعي باتت الآن أحد أبرز محددات التوظيف؛ فقد أظهرت إحصائية من موقع ستاتيستا أن 66% من المسؤولين التنفيذيين لن يوظفوا مرشحاً لا يمتلك معرفة أساسية في الذكاء الاصطناعي.

آراء قادة بارزين حول قيمة الشهادة الجامعية في عصر الذكاء الاصطناعي

في عصر الذكاء الاصطناعي المتسارع، يزداد الجدل حول إذا ما كانت الشهادة الجامعية لا تزال تؤدي دوراً حاسماً في سوق العمل، أم أن الكفاءة والمهارات باتت تتفوق على المؤهل الأكاديمي التقليدي. من بين الأصوات البارزة في هذا النقاش، الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا، جنسن هوانغ، الذي يرى أن الذكاء الاصطناعي لا يفني الوظائف بل يعيد تشكيلها ويخلق بدائل أكثر تقدماً وتعقيداً. ويدعو إلى تطوير هذه التكنولوجيا بشفافية، معتبراً أنها قوة قادرة على دفع عجلة التحول الإيجابي في سوق العمل إذا استخدمت بطريقة صحيحة.

أما الرئيس التنفيذي لأمازون، آندي جاسي، فيعترف بأن الذكاء الاصطناعي سيؤدي حتماً إلى تقليص بعض الوظائف داخل الشركات، لكنه لا يرى في ذلك نهاية المطاف، بل فرصة لإعادة تأهيل الموظفين وتعزيز قدراتهم، خصوصاً من خلال اكتساب مهارات الذكاء الاصطناعي، ما يسمح لهم بالبقاء في موقع تنافسي ضمن وظائفهم الحالية أو الانتقال إلى أدوار أكثر تطوراً.

ومن جانبه، يؤكد المؤسس المشارك لمنصة لينكد إن، ريد هوفمان، أهمية إدراك الجيل الجديد لواقعه؛ فهو جيل ولد في قلب التحول الرقمي، ولا يحتاج بالضرورة إلى خلفية هندسية عميقة حتى يحقق التفوق. وامتلاك المهارات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، بحسب رأيه، أصبح عاملاً فارقاً في تحديد من ينجح ومن يتراجع، بصرف النظر عن المؤهل الجامعي.

ويضيف الرئيس التنفيذي لشركة أوبن أيه آي، سام ألتمان، بعداً آخر للمسألة، إذ يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة مساعدة، بل بات ينافس أصحاب الشهادات العليا، وقد يتجاوزهم في أداء العديد من المهام المعرفية بدقة وسرعة. ويتطلب هذا التحول إعادة التفكير في الأوزان التي نمنحها للمؤهلات الأكاديمية مقارنة بالمهارات التقنية والتطبيق العملي للمعرفة.

ويأتي تعليق الرئيس التنفيذي لـ بيت.كوم، ربيع عطايا، في بودكاست طريقتي ليؤكد هذا الاتجاه، إذ يرى أن الشهادة الجامعية ليست المعيار الحاسم في التوظيف، بل القيم والخبرات التي يمتلكها الفرد. وهو نفسه خير مثال على هذا التحول؛ فعلى الرغم من دراسته الجامعية للهندسة الكهربائية، بدأ مسيرته في الاستثمار البنكي، قبل أن ينتقل إلى عالم ريادة الأعمال، مستنداً إلى تجربته المتنوعة وقناعاته الشخصية، لا إلى شهادته فقط.

كل هذه الآراء تشترك في رسالة واحدة: الذكاء الاصطناعي لا يقصي الإنسان، بل يعيد تعريف المهارات المطلوبة، ويوجه التركيز من الأوراق الأكاديمية إلى ما يمكن للفرد أن يقدمه عملياً في بيئة عمل تتغير باستمرار.

التحديات والمخاوف

في ظل تصاعد استخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات التوظيف، بدأت تبرز تحديات تتعلق بالتحيز الأخلاقي والوظيفي لهذه الأنظمة. فقد كشفت دراسة صادرة عن كلية كينيدي بجامعة هارفارد أن أنظمة التوظيف الذكية قد تتجاهل مرشحين مؤهلين بنسبة تقارب 19%، بسبب اعتمادها على خوارزميات قد تتضمن تحيزاً غير مقصود، ما يثير تساؤلات جدية حول العدالة والشفافية في التقييم؛ وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من التوجه المتزايد لدى بعض الشركات نحو إلغاء شرط الشهادة الجامعية في التوظيف، تشير البيانات إلى أن ذلك لم ينعكس فعلياً على نسب التوظيف. ووفقاً لتقرير من فايننشال تايمز، لا يزال توظيف الأفراد غير الحاصلين على شهادة جامعية منخفضاً، إذ لا تتجاوز النسبة حالة واحدة من بين كل 700 حالة توظيف، ما يكشف عن فجوة بين السياسات المعلنة والممارسات الفعلية.

وفي المقابل، تبرز المهارات الناعمة بوصفها عاملاً حاسماً لا يقل أهمية عن المؤهلات التقنية. وبحسب تقرير "اتجاهات المهارات" من لينكد إن، يرى 54% من مدراء التوظيف أن المهارات الشخصية، مثل الذكاء العاطفي والقدرة على العمل الجماعي، ضرورية في بيئة العمل. وفي الواقع، اضطرت نسبة 48% منهم إلى رفض مرشحين يمتلكون كفاءات تكنولوجية عالية، فقط لأنهم يفتقرون إلى هذه المهارات الأساسية.

تؤكد هذه المعطيات جميعها أن مستقبل التوظيف لا يتعمد فقط على المؤهلات الأكاديمية أو التقنية، بل يتطلب مزيجاً متوازناً من العدالة الخوارزمية، والمهارات الإنسانية، والتطبيق الواقعي للسياسات المرنة.

مستقبل الشهادة

في ظل تنامي دور الذكاء الاصطناعي وتأثيره المتسارع على سوق العمل، لم تعد الشهادة الجامعية شرطاً حاسماً للتوظيف كما كانت في السابق، على الرغم من أنها لا تزال تحافظ على قيمتها في بعض المجالات الأساسية التي تتطلب معرفة نظرية عميقة أو تخصصات دقيقة. لكن مع ذلك، بدأت الكفة تميل ميلاً ملحوظاً نحو المهارات العملية المكتسبة، التي أصبحت في العديد من الصناعات معياراً تفضيلياً يتفوق على المؤهلات الأكاديمية، خصوصاً في القطاعات التقنية والمبتكرة.

التحول الرقمي الذي يقوده الذكاء الاصطناعي لم يغير فقط أدوات العمل، بل غير أيضاً ما يبحث عنه أصحاب الشركات، فقد أصبحت الكفاءة في التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي ومواكبة تطوراته من المتطلبات الأساسية لا ميزة إضافية. وتتوقع الشركات اليوم من الموظفين أن يكونوا قادرين على التكيف مع هذه التحولات واستثمارها لزيادة الإنتاجية وتحسين الأداء.

في هذا السياق، يتضح أن المستقبل المهني لا يعتمد على عنصر واحد فقط، بل على مزيج مرن يجمع بين المؤهلات الأكاديمية، والمهارات المهنية التطبيقية، والقدرة على التعلم المستمر. هذه التوليفة هي ما يصنع صورة المرشح المثالي الذي يستطيع الصمود والتميز في بيئة عمل متغيرة باستمرار.

ومن منظور إداري وتنظيمي، يجب على المؤسسات أن تجعل ثقافة التعلم المستمر جزءاً أساسياً من بنيتها، من خلال توفير مسارات تطوير مهني مرنة ومفتوحة أمام جميع الموظفين. هذا النهج لا يضمن فقط استمرارية الكفاءة داخل الشركات، بل يسهم في بناء بيئة توظيف أكثر عدالة واستدامة وابتكاراً.

اقرأ أيضاً: تعرف على مستقبل 300 وظيفة أمام تهديدات الذكاء الاصطناعي

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي