إلى أي مدى يمكن أن تكون حكمة الجماعة مفيدة؟ على مدى أعوام، كان تجميع أفكار عدد كبير من الأشخاص من أجل وضع توقعات دقيقة للغاية أسلوباً معترفاً به، يتيح للمتوقعين الهواة التفوق على الخبراء. وكان الاعتقاد السائد هو أنه عندما يضع عدد كبير من الأشخاص توقعاتهم على نحو مستقل فإنّ أخطاءهم لن تكون مترابطة، وسيلغي بعضها بعضاً في النهاية. مما سيؤدي إلى إجابات نهائية أكثر دقة.
ولكن يقول الباحثون والنقاد إنّ حكمة الجماعة هشة للغاية، وخصوصاً ضمن حالتين محددتين من الظروف: عندما يتأثر الأشخاص بآراء الآخرين (لأنهم يفقدون استقلاليتهم بذلك)، وعندما تنحرف الآراء بفعل الانحيازات المعرفية، كوجهات النظر السياسية القوية التي تملكها المجموعة على سبيل المثال.
وفي بحث جديد، قمنا مع زملائنا بالتركيز على هذه الافتراضات، ووجدنا أن حكمة الجماعة أقوى مما كان يُعتَقد سابقاً، فهي تضاهي التفكير الجماعي والموحّد لأشخاص متماثلين في العقلية والتفكير. ولكن يبرز هنا تحذير واحد مهم: كي تحافظ حكمة الجماعة على دقتها في وضع التوقعات، يجب أن يُمنَح جميع أفراد المجموعة أصواتاً متكافئة دون أن يكون أيّ منهم مهيمناً. وبحسب نتائجنا، فإن نمط التأثير الاجتماعي ضمن المجموعات هو العنصر الرئيسي المحدِّد لدقة توقعات الجماعة. ونقصد بنمط التأثير الاجتماعي تحديد من يتكلم وإلى من يتوجه بكلامه والوقت الذي سيتكلم فيه.
ولمعرفة كيف يتبادل أفراد المجموعات المعلومات والآراء فيما بينهم، قررنا إعادة النظر ومراجعة الدراسات السابقة التي أجريت على حكمة الجماعة والتفكير الجماعي. وبما أن دراسات التفكير الجماعي الكلاسيكية لم تراقب سوى كيفية اتخاذ المجموعات قراراتها كممارسة عملية، خارج أي تجربة خاضعة للمراقبة، لم يتمكن الباحثون من التعرف بوضوح على العوامل التي تسبب المشاكل. وبالمقابل، لم يحظ الباحثون بفرصة لمراقبة الحالات التي يكون فيها التأثير الاجتماعي مفيداً، وذلك بسبب اقتصار تركيز هذه الدراسات على حالات فشل حكمة الجماعة. وفي حين استعان بحث أجري في وقت قريب بأساليب مضبوطة لدراسة حكمة الجماعة، إلا أنه ركز على التوقعات المستقلة أو سمح لبعض الأشخاص أن يكونوا أكثر تأثيراً في الإفصاح عن آرائهم.
لقد افترضنا أنّ الجاني الحقيقي في إضعاف حكمة الجماعة وتقويضها وفقاً لتفسيرنا، هو ظاهرة تدعى الشبكات "المركزية"، وهي المجموعات التي تتأثر بقادة الرأي على نحو مفرط ومبالغ فيه. وفي هذه الحالات، ما يحدث غالباً هو التفكير الجماعي. ولذلك، أنشأنا نموذجاً لاختبار ديناميكية أو طريقة مختلفة، وهي ما سميناها الشبكات "اللامركزية"، حيث يمكن أن يتحدث الأشخاص بعضهم إلى بعض بالتساوي من أجل مشاركة المعلومات والآراء. وفي نظريتنا، قلنا إنّ هذا النوع من "المعلومات الاجتماعية" سيتيح للأشخاص التوصل إلى توافق وإجماع بصورة تدريجية، إذ تصبح آراؤهم أكثر تشابهاً، ويحافظون على دقة حكمة الجماعة. وتتوافق هذه النظرية مع نتائج بحث سابق وجد أنّ القادة المستبدين يحطون من شأن قرارات المجموعة ويقوضونها، وأنّ الأشخاص الذين يتخذون القرارات أولاً يؤثرون غالباً في قرارات الآخرين. ويصف نموذجنا هاتين الحالتين على أنهما تنتميان إلى مفهوم الشبكات المركزية، بعيداً عن المفهوم اللامركزي الذي يبقي على التأثير المتساوي للأفراد.
قمنا باختبار نظريتنا مع سلسلة تحديات للتقديرات ضمن 34 مجموعة تتألف من 40 شخصاً، وامتدّ نطاق هذه التحديات بدءاً من التحدي الكلاسيكي لتخمين عدد حبات السكاكر في الوعاء وصولاً إلى تقدير تكلفة السلع الاستهلاكية. وقمنا - في الكواليس - بضبط هيكلية تدفق المعلومات (أي مَن يراقب من)، وأدى ذلك إلى وضع بعض الأشخاص ضمن شبكات مركزية مع أشخاص في مواقع مهيمنة تم اختيارهم عشوائياً، ووضع آخرين في شبكات لا مركزية حيث يتمتع الجميع بتأثير متساوٍ.
لم تكن نتائج الشبكات المركزية مفاجئة، فقد اعتمدت دقة المجموعة على دقة عدد قليل من أصحاب التأثير والنفوذ. بينما وجدنا في الشبكات اللامركزية أن الاعتقاد أو الرأي المتوسط أصبح أكثر دقة بعد توصل أفرادها فيما بينهم. ويمكن معرفة تفسير ذلك من خلال طريقة عمل التفكير الاجتماعي. فعند مشاركة الآراء، يبدو أن الأفراد يغيرون وجهات نظرهم بناء على ما يعتقده أقرانهم، ولكن لا يتساوى هذا التغيير لدى الجميع. إذ يدرك البعض أنهم أكثر دقة فيتمسكون بآرائهم، بينما يجري الآخرون الأقل دقّة وثقةً مراجعات أكبر لآرائهم. وبالنتيجة، يتصرف الأفراد أصحاب الثقة والدقة الأكبر في قناعاتهم كمرساة، فيجذبون الآخرين نحوهم، رغم أنهم لا يمارسون "سلطة الخبير" التي يمارسها قادة الرأي المهيمنون.
ماذا عن الفكرة القائلة بأنّ الانحياز الفكري يعوق حكمة الجماعة؟ أردنا اختبار تصور لأسوأ حالة، وهي السياسات الحزبية فيما يسمى غرف الصدى التي يقوم التأثير الاجتماعي فيها بتضخيم التحيزات الحزبية ويقلل من دقة المعتقدات السياسية، مثل معدل البطالة أو عدد المهاجرين القادمين إلى الولايات المتحدة سنوياً. سألنا 2,240 شخصاً في الولايات المتحدة عن مواضيع مثيرة للجدل، كالهجرة والبطالة والإنفاق العسكري، مع وجود أشخاص منهم في غرف الصدى حيث لا يرى الجمهوريون سوى جمهوريين آخرين ولا يرى الديمقراطيون سوى ديمقراطيين آخرين. دخل مئات الأشخاص إلى موقع التجربة الإلكتروني في نفس الوقت، وطُرح على كل شخص منهم السؤال نفسه مرتين: مرة قبل أن يتمكن من رؤية رأي أي شخص آخر، ومرة ثانية بعد أن رأى آراء الآخرين. ووجدنا أن التأثير الاجتماعي زاد من الدقة. والأمر الأكثر دلالة هو أنّ التواصل قلل من الاستقطاب، وأصبح الديمقراطي العادي أشبه بالجمهوري العادي، رغم عدم وجود صلات بينهما. ومرة أخرى، كان الاختلاف هو التكيف مع المعلومات الاجتماعية التي تتصدى للاستقطاب الذي يسببه المتطرفون. (توضح البيانات أنه حتى إذا تمسك المتطرفون بآرائهم التي قد تجذب الآخرين نحوهم، إلا أنهم يظلون أقل عدداً ويتفوق عليهم وجود قوة تعويضية: وهي عدد أكبر من المعتدلين الذين يتمتعون بالدقة ويثقون بآرائهم).
وإذا كانت حكمة الجماعة متينة وتمتلك القوة في مواجهة الضغوطات اليومية، كتأثير الأقران والانحياز المعرفي، فماذا عن المخالفات الصريحة؟ ماذا لو حاول أحدهم إعاقة المجموعة عن طريق مشاركة معلومات سيئة؟ من أجل اختبار هذا الأمر، لجأنا إلى موقع إيستيمايز Estimize وهو منصة تتفوق على توقعات وول ستريت بانتظام عن طريق وضع توقعات ذات مصادر جماعية للإيرادات والأرباح. وبالنسبة لمعظم مستخدمي هذا الموقع، تصبح توقعاتهم أكثر دقة مع الممارسة. إلا أننا ميزنا بروز مجموعة واحدة أصبحت توقعاتها أقل دقة مع ازدياد الخبرة. كانت هذه المجموعة مكونة من مهنيين ماليين تشكل منصة إيستيمايز منافسة مباشرة لهم، ويبدو أنهم كانوا يحاولون التأثير على النتيجة عن طريق تعمد إدخال توقعات وتقديرات سيئة. ومع ذلك، تمّ -بالإجمال- إلغاء كل تخمين أو توقع مبالغ فيه بشكل كبير من خلال الاستخفاف الشديد بأهميته، وسادت المعلومات الجماعية والمفاهيم المشتركة. (وبما أن هذه المعلومات السيئة التي توصف "بالتفاحات الفاسدة" كانت في الأساس تضيف أرقاماً عشوائية تشكل مغالاة واستخفافاً في التقدير على حدّ سواء، فإنها ألغت نفسها بنفسها. ويمكن أن يحدث الشيء نفسه في أي موقف يحاول أشخاص فيه إضافة بعض الضجيج إلى البيانات، بدلاً من وضع توقعات صادقة بشأن الاعتقاد العام. والطريقة الوحيدة التي يمكن أن يفشل بها ذلك هي من خلال وجود نوع من التواطؤ.)
يبين عملنا أنه يمكن لحكمة الجماعة أن تسود حتى عندما تجتمع الصعاب ضدها، وهذا خبر مفرح لقادة الشركات الذين يسعون لتحصيل حكمة الجماعة في مجموعة قضايا، بدءاً من توقع شعبية عروض معينة أو نجاح عملية اندماج، وصولاً إلى معدلات الضغط على الإعلانات في المواقع الإلكترونية. وفي سبيل الحصول على أدق التوقعات واتخاذ قرارات أفضل، يستطيع القادة تشجيع الناس على التواصل وتبادل المعلومات من أجل ضمان وصول الجماعة إلى أفضل الحلول.