هناك أمور في الحياة نأخذها بشكل بديهي، حيث تشرق الشمس من الشرق وتغرب من الغرب. ويظل الجسم في حالة حركة مستمرة ما لم تُطبّق عليه قوة خارجية توقفه. كما أنّ أفضل طريقة لتحفيز مندوبي المبيعات هي عبر تقديم العمولات.
لكن ماذا لو كنا مخطئين، على الأقل فيما يخص الفكرة الأخيرة؟ ماذا لو كانت فكرة دفع عمولات لمندوبي المبيعات فكرة تقليدية أكثر منها منطقية؟ ماذا لو كانت ممارسة مترسخة في عمل المؤسسات لدرجة لم يعد أحد يفكر بدراستها؟ هذا ما بدأت مجموعة من المؤسسات اكتشافه لتصل إلى نتيجة مفاجئة للكثيرين مفادها: أنّ ضرر العمولات أحياناً أكثر من نفعها، ويعود التخلص منها بأرباح أعلى للشركة.
يبدو هذا غير متوقعاً، لكن البحوث العملية حول السلوك البشري تدعم هذه الفكرة. إذ قامت مجموعات من العلماء المختصين بعلم الاجتماع حول العالم على مدار السنوات الثلاثين الماضية بالتعبير عن وجهة نظر أكثر دقة تجاه ما يحفّز الناس ضمن أوضاع مختلفة، بما فيها العمل، حيث رأينا مجموعة بحوث لعلماء رواد أمثال إدوارد ديسي وريتشارد راين في جامعة روتشستر (Rochester)، وعلماء شباب أمثال آدم غرانت، في وارتون.
وكانت إحدى النتائج التي توصلوا إليها هي أنّ فعالية المحفزات تختلف بحسب المهمة. وبشكل أكثر تحديداً، اكتشفوا أنّ المكافآت الشرطية - أدعوها مكافآت "إذا... سوف"، كما في "إذا قمت بذلك، سوف تحصل على هذا"- تنجح مع المهام التقليدية التي يصفها علماء الاجتماع على أنها متوقعة النتائج مثل تعبئة صناديق أو تدوير نفس المسار بنفس الطريقة على خط تجميع. إضافة إلى أنه يحفز الوعد بالمكافأة، (وبخاصة النقدية) اهتمامنا، ويجعلنا نركز بشكل ضيق على إنجاز المهمة.
إلا أنّ المكافآت القائمة على فكرة "إذا- سوف" تصبح أقل فعالية بكثير للمهام المعقدة والتي تتطلب إبداعاً وفهماً أكثر. بمعنى آخر، المهام التي يدعوها علماء النفس بالمهام الاستكشافية، كما في حالة التفكير باختراع منتج جديد أو العمل مع عميل لمعالجة مشكلة لم تتم مواجهتها سابقاً. إذ تحتاج هكذا مشاريع إلى منظور أوسع، وتظهر البحوث بدورها أنّ أثر المكافآت من نظام "إذا- سوف" هو أثر سلبي.
بالعودة إلى المبيعات، كانت عمليات البيع بسيطة في منتصف القرن الماضي، وكل ما كان عليك فعله هو حفظ النص الذي لديك، وفتح العينة التي معك بطريقة محددة، وحفظ مجموعة إجابات جاهزة لأسئلة أو اعتراضات متوقعة من قبل الزبائن، ثم تكرار ذلك مرات كثيرة حتى تحقق معدلاً مرتفعاً في صالحك.
أما اليوم، فقد اختفت تلك الجوانب من فن المبيعات، حيث تم أتمتة الجوانب الروتينية منه، وبات لدى العملاء الحاليين والمستقبليين ذات المعلومات التي تملكها، بالتالي بات عليك الانتقال إلى النمط الاستكشافي في عملية البيع. بمعنى آخر، تفصيل وتفسير المعلومات بدلاً من مجرد إلقائها عن غيب، فضلاً عن تحديد المشاكل ومحاولة حلها، والعمل على بيع الأفكار بدلاً من بيع المنتجات.
بدأ ميتش ليتل بإعادة النظر في الطريقة التقليدية للمبيعات القائمة على العمولة أواخر تسعينيات القرن الماضي قبيل توليه منصب نائب الرئيس للمبيعات والتطبيقات في ميكروشيب تكنولوجي (Microchip Technology)، وهي شركة أشباه موصلات أميركية كبيرة تقع قرب فينيكس. كان يشرف على 400 مندوب مبيعات تنقسم مدخلاتهم المادية من الشركة بين 60% راتب أساسي و40% عمولات.
قال ليتل: "كان ذلك منطقياً قبل 40 عاماً، عندما كان بائع شركة فولر بروش (Fuller Brush) يجوب أبواب المنازل، لكن عالم المبيعات قد تغير لدى الشركات بشكل جذري". بالتالي، قام ليتل بإنهاء مبدأ العمولة تماماً واضعاً خطة جديدة يتلقى فيها مندوبي المبيعات 90% من دخلهم كمرتب أساسي مرتفع، و10% متصلة بتقدم الشركة بشكل عام (لا الفرد نفسه) وتحقيقها لنمو أو أرباح على السهم أو أرباح فصلية.
ماذا عن النتائج؟ لقد ارتفعت المبيعات، مع بقاء تكلفتها كما هي. كما زاد معدل من يبقون في الشركة وقلّ عدد المغادرين. إذ تبلغ قيمة شركة ميكروشيب اليوم 6,5 مليار دولار. ولا تزال الشركة مدرجة في سوق الأسهم، ولا تزال تطبق نظام العمولات 90/10، وذلك لكل موظفي الشركة، لا فقط مندوبي المبيعات (بمن فيهم الرئيس التنفيذي ليتل نفسه). وكان برنامج التعويضات البديل هذا أحد أسباب تفوق أداء ميكروشيب على منافسيها في مجال صناعة أشباه الموصلات، وتحقيقها لأرباح فصلية على مدار 86 فصلاً على التوالي.
في سياق متصل، اتبع نيل ديفيدسون المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي المشارك لشركة ريد جيت للبرمجيات، في كامبريدج، انكلترا، مساراً مماثلاً، حيث ألغى العمولات في العام 2009 مستبدلاً إياها برواتب أساسية ممتازة ومجموعة مزايا سخية، ثم شرع في مراقبة نمو المبيعات. وفي العام الماضي، انضمت شركة غلاكسو سميث كلاين (GlaxoSmithKline) إلى ركب الشركات التي ألغت العمولات وأنهت هذا النظام لدى مندوبي أدويتها في الولايات المتحدة.
هل يجب على كل شركة إنهاء نظام عمولات المبيعات؟ لا، ولكن تحدي هذا العرف التقليدي السائد يساعدنا على الاعتراف بأنّ بيع اليوم عمل متطور ومعقد، وأنّ من يفعلون يحتاجون إلى حوافز مختلفة عن تلك التي كانت قبل أعوام مضت.