في يوليو/ تموز من عام 2015، طرحت شركة نوفارتس (Novartis)، عقارها الطبي إنريستو (Entresto) لعلاج قصور القلب، الذي توقعت مجلة فوربس في عام 2014 أن يحظى برواج كبير، بمبيعات تصل 10 إلى مليارات دولار سنوياً، إذ يتجاوز السوق المحتمل في الولايات المتحدة 5 ملايين شخص يعانون من مشكلة قصور القلب. لكن، في الربع الأول من عام 2016، باعت الشركة فقط بمبلغ 17 مليون دولار من عقار إنريستو في سوق الولايات المتحدة.
ونشأ فشل العقار من الممانعة في الولايات المتحدة التي كان يبديها كل من شركات التأمين ومختصي القلب للأدوية الجديدة والمكلفة (تكلف أكثر من 4 آلاف دولار في السنة، مقارنةً بإنفاق بنسات فقط في اليوم لشراء الأدوية الموجودة). وتنفق شركات المستحضرات الدوائية ملايين الدولارات في إعداد خطط دقيقة لطرح أدوية جديدة، لكن استراتيجياتها في طرح منتجاتها في السوق لم تتغير منذ عقود، على الرغم من أن واقع السوق قد تغير.
والأمر المحبط حقاً هو أن القليل من الشركات فحسب تتعلم من مثل هذه الأخطاء؛ إذ إن الرد المعتاد هو "استخلاص العِبر مما جرى" وعزو الفشل إلى التوقيت السيئ. إذ ربما يُنقل مدير العلامة التجارية إلى قسم مختلف، ولكن التغييرات الأخرى التي تطرأ قليلة - إذ يوظف الاستشاريون أنفسهم وتُتبع "أفضل الممارسات" ذاتها - ونادراً ما تتعلم المؤسسة نفسها في الواقع. وتستمر الإخفاقات.
في مايو/أيار من عام 2015، ادعى مفوض سلامة الغذاء في ولاية أوتار براديش، وهي الولاية الأكثر اكتظاظاً بالسكان في الهند، التي يقطنها 205 ملايين شخص، أن مجموعة من معكرونة "ماجي" الشهيرة التي تنتجها شركة نستله قد وُجد أنها تحتوي على سبعة أضعاف المستوى المسموح به من الرصاص، وسحبت الشركة الكمية من الأسواق على إثر ذلك.
وكانت مبيعات معكرونة "ماجي" تشكل ربع مبيعات شركة نستله البالغة 1.6 مليار دولار في الهند. وكانت واحدة من أقوى العلامات التجارية الموثوقة في هذه السوق، وكانت تستحوذ على حصة سوقية هائلة تبلغ 63%. توالت الحادثة التي بدأت في ولاية أوتار براديش مثل الزلزال الذي ضرب شركة نستله، وأدت إلى حظر معكرونة "ماجي" لمدة خمسة أشهر. خسرت شركة نستله 277 مليون دولار من المبيعات ودفعت 70 مليون دولار في عملية سحب المنتج من الأسواق. بل إن الأضرار التي لحقت باسم العلامة التجارية كانت أكبر، وبلغت نصف مليار دولار. ونقلت مجلة فورتشن عن بول بولكي، الرئيس التنفيذي لشركة نستله، قوله: "هذه هي الحالة التي يمكنك فيها أن تكون على حق تماماً ومخطئ بشدة، إننا نعيش في عالم يتسم بالغموض. يجب أن نكون قادرين على التعامل مع ذلك".
ولم تكن شركة نستله قادرة على التعامل مع ذلك، لكن أحد منافسيها كان قادراً. إذ طرح بابا رامديف، خبير اليوغا ومالك أسرع شركة سلع استهلاكية محلية نمواً في الهند، منتجاً منافساً، جرى الترويج له على أنه "أكثر صحة" من منتج شركة نستله وبسعر أقل من معكرونة "ماجي".
يجب أن نبدأ في التفكير بشكل مختلف حيال الكيفية التي تعمل بها الأعمال والإدارة والذكاء الاستراتيجي. إذ إن ما تحتاجه الشركات اليوم ليس خططاً دقيقة، بل إعادة تقييم الأعمال والأسواق والمنافسين باستمرار. وبعبارات أخرى، ليس الهدف من الذكاء الاستراتيجي جمع معلومات عن السوق لوضع خطط، بل استخدام تلك المعلومات للتوصل إلى أفكار تدعم بدورها وجهات النظر المتغيرة باستمرار. ففي نهاية المطاف، يمكن أن تؤدي وجهات النظر هذه إلى اتخاذ إجراء أو عدم اتخاذه. حيث إن اختبار القدرة لا يتجسد في التدابير الإدارية، بل في التعلم الإداري. ومن المؤكد أن تجنب خطأ يكلف الشركة 500 مليون دولار يعد بالقيمة نفسها التي ينطوي عليها طرح منتج بقيمة 500 مليون دولار.
فما الذي يبني وجهات النظر الإدارية؟ وما الأفكار التي ستجعل المدير التنفيذي - في قسم البحث والتطوير أو التسويق أو الإدارة المالية - لا يغير وجهة نظره فحسب، بل يكون قادراً على الموازنة بين وجهات النظر المختلفة؟ يقول مؤلف كتاب "التنبؤ الفائق" (Superforecasting) فيليب تيتلوك: "تتمثل مهمة الذكاء في قول الحقيقة للسلطة، وليس في إخبار [السلطات] المسؤولة مؤقتاً بما يريدون سماعه". ولكن ما هي الحقيقة في عالم يتسم بالغموض؟ هل توجد حقيقة واحدة فقط؟
يعيش محللو الذكاء في سياق معرفي مختلف عن المدراء. حيث يمكن أن تضطر الإدارة إلى ممارسة لعبة سياسية داخلية حيال قضايا لا يعرف عنها محللو الذكاء! علاوة على ذلك، تعد الأفكار في حد ذاتها مفهوماً غامضاً: إذ كيف يمكن للإدارة والذكاء العمل معاً على استحداث أفكار لها تأثيرات تنافسية حقيقية؟ حيث إن قادة الذكاء الاستراتيجية في الشركات الكبرى (كما في الحكومة) لا يعلمون ذلك، لأنهم غالباً ما يعملون في إطار مختلف. ويبدو أن هذا الفصل بين الإنتاج المؤسسي لذكاء (أكثر وأسرع) وبين الاستخدام الشخصي للذكاء من قبل صانعي القرار في الشركات هو القضية الأكثر إرباكاً لقادة الشركات. والحل، على الأرجح، ليس سهلاً، لكنه يتعلق بأربعة تغييرات جذرية ينبغي إجراؤها:
- إدارة مختلفة للمواهب. يجب على المدراء التنفيذيين توظيف الأشخاص وترقيتهم استناداً إلى التقبل للعقليات التي تتسم بالغموض، حيث تبني الأمور غير المتوقعة وجهات نظر.
- استخدام مختلف للذكاء التنافسي. يجب على الشركات الاستفادة من فريق الذكاء على وجه التحديدلإدارة الأفكار، وليس بصفته وظيفة للبحث عن المعلومات وتوزيعها. وعلى أقل تقدير، ينبغي أن يتمثل الدور الحاسم للذكاء المؤسسي في دعم التغيير في إطاره الصحيح. ومن الناحية المثالية، سيعزز الذكاء المؤسسي ثقافة مؤسسية تزدهر استناداً إلى الغموض الذي يفوق ذكاؤه المنافسين الباحثين عن الاستقرار.
- العمل الجماعي. القول أسهل من الفعل، ولكن الحكمة الموازية لذلك في المجال العسكري تتمثل في أن المحلل الاستخباراتي يجب أن يكون جنباً إلى جنب مع صانع القرار في جميع الأوقات، وليس في القاعة أو في مبنى آخر.
- دراسة الاستخدام الشخصي للذكاء. تنفق الشركات مبالغ طائلة في دراسة الجوانب المختلفة لسلوك الموظفين، وتطوير التعلم المؤسسي، وتقييم الأداء وتقديم الملاحظات. لكنها لا تكاد تنفق شيئاً في محاولة فهم العقبات التي تحول دون استخدام الذكاء داخل المؤسسة وتخطيطها. هذه ليست وظيفة أخرى ضمن وظائف قسم الموارد البشرية، بل إنها تقع في صميم تجنب تكبد خسائر بقيمة نصف مليار دولار مثلما حدث لشركة نستله، وتفادي حدوث خيبات الأمل الخطيرة مثلما جرى لشركة نوفارتس.