يركز الرأسماليون على العائدات المالية من رأس المال المستثمر، وكذلك يمنح معظم قادة الشركات الأولوية لتلك القضايا المهمة من الناحية المالية المتعلقة بالاستدامة في الشركات. ويعد هذا أمراً جيداً بالنسبة لأي شخص يتلقى معاشاً تقاعدياً مرتبطاً بأداء السوق. ولكن هذا التركيز الأحادي على العائدات المالية قد يصبح مشكلة أساسية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع التحديات التدريجية والمنهجية، مثل الاحتباس الحراري، والذي من شأنه استهلاك اقتصادات بأكملها، وليس سلاسل التوريد وحسب.
وبالتالي ليست مجرد مصادفة أن نسمع، بصورة متزايدة، عن مناقشات حول "التأطير" في مجالس الإدارة والمناصب التنفيذية العليا. وقد أظهر المحلل السياسي، جورج ليكوف، بشكل لافت، في كتابه "لا تفكر في فيل!" (Don’t Think of an Elephant!)، كيف أن الطريقة التي نضع بها إطاراً لهذه التحديات تشكل منطقنا وأولوياتنا، بشكل أكبر مما يدركه معظمنا. وبشكل حاسم، خلص جورج إلى أن "الأُطر العقلية غير الواعية تشكّل أهدافنا التي نسعى إليها، وخططنا، وسلوكنا، وما نعتبره نتيجة إيجابية أو سلبية لأفعالنا".
وبالتالي فإن الرسالة الموجهة إلى قادة الشركات، وإلى وكلاء التغيير الاجتماعي هي: تغيير الأُطر يعني تغيير طريقة إدراكنا وأولوياتنا واستثمارنا في الوقت والجهد والمال. وكما يخبرنا ليكوف: "إعادة التأطير هي تغيير اجتماعي".
ستة أطر أساسية في مجال الأعمال المستدامة
وبناءً على ذلك، ستعد الخطوة الأولى والأهم هنا هي فهم الأطر العقلية والسياسية المختلفة الموجودة حالياً. ونعتقد أنا وزميلي أنه يوجد ستة أطر أساسية، على الأقل، في مجال الأعمال المستدامة. ولكل إطار منهم نقاط قوته وحدوده. وسيتمكن قادة الشركات، من خلال فهم هذه النماذج العقلية، من العمل مع الآخرين داخل مؤسساتهم وخارجها، بشكل أفضل، لتأسيس أعمال أكثر استدامة.
إطار الموارد
هذا هو الإطار الأساسي، وتعود جذوره إلى تقارير قديمة مثل "حدود النمو" (Limits to Growth) من عام 1972. وغالباً ما تكون التوقعات قاتمة في هذا الإطار، ففي نهاية المطاف، يسحق النمو السكاني الموارد المتوافرة، وقدرة النظم الإيكولوجية على التحمل. وينصب تركيز الأشخاص الذين يستخدمون إطار الموارد لفهم الاستدامة على كل من تقليل النفايات، والابتكارات التقنية. فعلى سبيل المثال، تبنّت شركات بارزة مثل "ثري إم" (3M)، في تسعينيات القرن الماضي، مفاهيم مثل الكفاءة الإيكولوجية، وركزت على جني المال وتوفيره عن طريق إدارة المواد والطاقة والنفايات بصورة أفضل. وأصبحنا نشاهد اليوم اهتماماً متزايداً بالمقاييس المعيارية للشركات الجديدة وبالمواد وأشكال الطاقة المتقدمة المحتمَلة.
تحديات هذا الإطار: من المغري أن نتخيل أن مثل هذه التقنية ستعالج جميع مشاكلنا المتعلقة بالموارد، إلا أن إقحام مليارات إضافية من الناس إلي هذا الكوكب لا بد أن يكون له عواقب. وفي الواقع، فإن أي شخص يبحث في مسارات ضمن مجالات مثل أمن المياه وخصوبة التربة يعلم أن المشاكل المنهجية الأساسية لا تزال تفوق محاولاتنا للقضاء عليها.
إطار الزمن
يعد الزمن عنصراً أساسياً لجميع أطر الاستدامة، مع النظر إلى الرأسمالية على أنها قصر نظر في الوقت الذي تتطلب فيه التحديات الرئيسة أطراً زمنية أطول بكثير. وقد أكد الرئيس التنفيذي لشركة "يونيليفر" (Unilever)، بول بولمان، على هذه النقطة، عندما أخبر، وبكل شجاعة، المستثمرين على المدى القصير ممن لا يدعمون جهود الاستدامة بعدم شراء أسهم في شركته.
وبالرجوع إلى الماضي بما يكفي، سنجد أن العديد من التحديات الرئيسة تضاعفت بشكل واضح منذ عام 1950، ومن بينها فقدان التنوع البيولوجي، والاحتباس الحراري، وتحمض المحيطات. إذ يقول العلماء الآن إننا قد انتقلنا إلى حقبة جيولوجية جديدة، تسمى عصر الإنسان (الأنثروبوسين)، وهو العصر الذي تكون فيه صحة الكوكب، لأول مرة، بين أيادي البشر.
تحديات هذا الإطار: ينبغي على قادة الشركات الناجحين توسيع رؤيتهم حول الزمن، وهي مهمة ليست سهلة. ويمكنك توسعة نطاق تفكيرك، بالنظر إلى أهداف الأمم المتحدة المتعلقة بالتنمية المستدامة والتي يصل أفقها الزمني إلى عام 2030، إذ يمكن اعتبارها طلب شراء من المستقبل. وتحدث إلى زملائك في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم، واسألهم عن رؤيتهم حول جدول أعمال المستقبل.
إطار القيمة
في حين اعتاد العديد من المهتمين بالبيئة النظر إلى الأعمال التجارية على أنها عدو للبيئة، إلا أن ظهور طريقة تفكير "الخط الثلاثي"، عام 1994، ساعد على استحداث طريقة جديدة من التفكير حول خلق القيمة. ومنذ ذلك الحين، تبنت آلاف الشركات سياسة "الناس والكوكب والربح"، بدايةً من الشركات المهتمة بالتأثير بالبيئي والاجتماعي وحتى أضخم شركات الملابس مثل "بوما". وقد استحدثت مثل هذه الشركات أدوات مثل بيان الأرباح والخسائر البيئية والعائد الاجتماعي على الاستثمار، بهدف فهم مجال الأعمال بشكل أفضل.
وفي الوقت ذاته، تنظر مؤسسة مثل "جينيريشن إنفستمنت مانجمنت" (Generation Investment Management)، لمالكها "ألغور"، إلى الاستدامة على أنها المحرك الجديد لنمو الاقتصاد. واليوم، باتت التقييمات السوقية الضخمة مرتبطة بتقديم أهداف استدامة عالمية، مثل مشروع توقع الأسواق الذي يقدر أن تصل قيمته إلى 12 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2030، وتقوم به لجنة الأعمال التجارية والتنمية المستدامة. وبالتوازي مع ذلك، يتعلم المحاسبون والمدراء الماليون كيفية إضافة قيمة مالية إلى الموارد الطبيعية، التي كانوا يتعاملون معها سابقاً على أنها مجانية مثل الفوائد المقدمة للزراعة بالحشرات الملقِّحة.
تحديات هذا الإطار: احذر من تسعير كل شيء يتحرك في هذه البيئة، وكذلك احذر من التركيز الشديد على التكاليف. ووسع نطاق تركيزك من الجدوى التجارية للعمل اليوم لتشمل نماذج العمل المستقبلية. وساعد الزملاء على النظر إلى الاستدامة على أنها أكبر فرصة محتملة طيلة حياتهم.
إطار التصميم
سعى قادة الفكر، منذ عقود، لوضع مشكلتنا المتنامية المتمثلة في الافتقار إلى الاستدامة كمشكلة في التصميم. فكيف يمكن للمفكرين المبتكرين الخروج من نموذج النزعة الاستهلاكية الحديثة المتمثلة في "الاستخراج، الصناعة، الشراء، ثم التخلص منها"؟ وتشمل مجموعة المفكرين هذه أشخاصاً مثل مهندس الجيوديسية، ريتشارد باكمنستر فولر، ومحرر مجلة "كتالوج الأرض بالكامل" (Whole Earth Catalog)، ستيوارت براند، وأولئك الذين يتبنون مفاهيم مثل "من المهد إلى اللحد" (cradle-to-cradle) والاقتصاد الدائري مثل ويليام ماكدونو ومايكل براونغارت.
ومؤخراً، هناك أيضاً كتاب "تصفية المشاريع" (Project Drawdown) لمؤلفه بول هاوكين، والذي يعرض خلاله 100 حل للتغير المناخي، بالإضافة إلى بحثنا الذي يحمل عنوان "إنتاجية الكربون" (Carbon Productivity)، والذي يستكشف الطرق التي يمكننا بها استثمار ميزانيات الكربون التي تزداد شحاً للحصول على عائدات بيئية واجتماعية واقتصادية. وكمثال آخر لدينا المحاكاة الطبيعية، باستخدام الدروس التي تعلمتها الطبيعة على مدى 3.8 مليار عام من التطور لإيجاد حلول للتغير المناخي.
تحديات هذا الإطار: التصميم أمر مهم جداً، إلا أن قبول السوق سيعتمد على الاقتصاد والسياسة. لذلك لابد من العمل لتحقيق نتائج مرضية في هذين المجالين أيضاً.
إطار الوفرة
بناءً على تفكير أشخاص مثل راي كرزويل وبيتر ديامانديس، يشمل هذا الإطار عشرة أضعاف التغيير المتسارع "10X" بدلاً من التفضيل الحالي للتغيير التدريجي بنسبة 1% أو 10% فقط. وهذا هو عالم الانتقال من الحلول المتسارعة (المتقدمة) إلى التحديات المتسارعة (الانهيار)، وتشمل قائمة الشركات الرائدة في هذا المجال مؤسسة "إكس برايز فاونديشن" (XPRIZE Foundation)، و"جامعة سينغيولاريتي" (Singularity University)، ومؤسسة "إكس" التابعة لجوجل (Google’s X). تتشكّل وجهة النظر العالمية هذه من خلال الحماس تجاه إمكانات التقنيات الناشئة مثل تعلم الآلة، والذكاء الصناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، والمركبات ذاتية الحركة، والبيولوجية التركيبية.
تحديات هذا الإطار: لا شك أن أي طفرة كبيرة سيتبعها بعض العواقب غير المقصودة، حتى أن أهم رواد الأعمال مثل إيلون ماسك يُعبرون عن قلقهم المتنامي بشأن الآثار المجتمعية للذكاء الصنعي والروبوتات.
الإطار الأخلاقي
هناك قلق متزايد، سواء في المجال السياسي أو المالي أو الأعمال، من فقدان العديد من القادة لبوصلتهم الأخلاقية. ومنذ أن نشر الكاتب، آدم سميث، كتابه الذي يحمل عنوان "نظرية المشاعر الأخلاقية" (The Theory of Moral Sentiments)، عام 1759، والذي سبق كتاب "ثراء الأمم" (The Wealth of Nations)، عرفنا أن القيم الرأسمالية غير المنظمة قد تكون مدمرة. وبتسليط الجانب الأخلاقي على الأطر الأخرى، نلاحظ بوضوح أن الإطار الأخلاقي يشملها جميعاً. على سبيل المثال، من المعضلات التي شهدناها ضمن إطار الموارد هي ما إن كان من حقنا التمتع بنعم كوكب الأرض كما يحلو لنا، أم أن الطبيعة لها حقوقها الخاصة. وفي إطار الوفرة، كان السؤال الأكثر أهمية وتعقيداً هو: "الوفرة لمن"؟
تحديات هذا الإطار: في الوقت الذي لا تزال فيه بعض برامج ماجستير إدارة الأعمال تدرّس أخلاقيات الأعمال التجارية لطلابها على أنها حل بديل، ومادة اختيارية، عليك أن تحذر من أن تبدو محتويات هذه المادة أخلاقية متزمّتة أو تبشيرية. وعليك أيضاً أن تراجع بانتظام قراءاتك حول البوصلة الأخلاقية مع أصحاب الأسهم الذين قد يتأثرون بنتائج قراراتك.
باختصار، من أهم المهارات اللازمة لقيادة التغيير هي إدراك الأطر التي تشكل نظرة الناس نحو العالم وحول أولوياتهم، ومما لا يقل أهمية فهم أطرنا الخاصة وتطويرها من أجل تحقيق الاستدامة في الشركات. في النهاية، ستكون النظرة النفسية أو الثقافية لعلم الإنسان نحو التغيير مهمة تماماً مثل السياسة والاقتصاد.