انفجرت سلسلة من القنابل في قطارات ركاب في مدريد عام 2004، ما خلّف مئات القتلى والمصابين. وأعلن خبراء البصمات العشرية في "مكتب التحقيقات الفيدرالي" الأميركي أن إحدى البصمات التي رُفعت من مسرح الجريمة تعود إلى براندون مايفيلد، وهو أميركي مسلم وضعه "مكتب التحقيقات الفيدرالي" ضمن قوائم المراقبة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول. ولكن، بعد اعتقال مايفيلد، أعلنت السلطات الإسبانية أن البصمة نفسها تطابقت مع بصمات أوهنان داود، وهو المفجر الحقيقي. وأظهر تحقيقٌ مستقل حول التحديد الخاطئ للهوية أن الانحياز التأكيدي (confirmation bias) كان أحد العوامل التي أدت إلى الوقوع في هذا الخطأ. ونتيجة لذلك، اعتذرت الحكومة الأميركية رسمياً لبراندون مايفيلد ودفعت له تعويضاً بقيمة مليوني دولار.
تعتبر هذه القضية مثالاً يوضح أثر ضغوط العمل على خبراء الأدلة الجنائية الذين قد يصدرون قرارات جنائية تتصف بالانحياز، وهناك العديد من الأبحاث التي تشير إلى أن جميع الخبراء عرضة للانحياز اللاواعي. ويشمل ذلك خبراء الأدلة الجنائية الذين يعملون في مجال البصمات العشرية، وتحقيقات مسرح الجريمة، والطب الشرعي، وحتى في مجال بصمة الحمض النووي (DNA) — والذي يعتبر المرجع الذهبي في فحوصات الأدلة الجنائية.
هل ضغوط العمل أحد أسباب الانحيازات اللاواعية لخبراء الأدلة الجنائية؟
وتم تحديد الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى الانحيازات غير المقصودة وبالتالي تؤثر على القرارات التي يتخذها خبراء الأدلة الجنائية. وبعض هذه العوامل ترتبط بالقضية نفسها، مثل معلومات القضية التي ليس لها صلة بفحص الدليل الجنائي. فمثلاً، عقيدة مايفيلد ووجوده ضمن قوائم مراقبة "مكتب التحقيقات الفيدرالي" ليس له علاقة في عملية تحليل البصمات العشرية. من جهة أخرى، ترتبط أسباب الانحيازات أيضاً بخبراء الأدلة الجنائية الذين يجرون التحاليل، مثل التدريب الذي حصلوا عليه والخبرات السابقة والثقافة التنظيمية في مكان العمل. أما الأسباب الأخرى، فهي جزء من الطبيعة البشرية ويمكن أن تؤثر في جميع الأشخاص.
وأظهر بحث جديد أن ضغوط العمل والتقييمات أو الملاحظات التي يتلقاها خبراء الأدلة الجنائية قد تسهم في خلق فرص لحدوث الانحيازات اللاواعية.
ضغط العمل
قد يؤثر ضغط العمل في أداء خبراء الأدلة الجنائية إيجاباً أو سلباً. ويكون الأداء مثالياً عندما تكون مستويات التوتر متوسطة،ما يساعد الخبراء على التركيز وتأدية المهام في موعدها. لكن الأداء يتأثر سلباً عندما تكون مستويات التوتر منخفضة جداً أو عالية جداً. قد يعاني الموظفون من الملل أو غياب الحافز الوظيفي عندما تكون الضغوط ومستويات التوتر منخفضة. ومن ناحية أخرى، عندما تكون مستويات التوتر عالية جداً، (نتيجة ضغط الوقت لاتخاد القرارات على سبيل المثال) أو عند التعرض لضغوط العمل لفترة طويلة (كمشاهدة الصور الصادمة لفترات طويلة مثلما هو الحال مع خبراء الأدلة الجنائية الإلكترونية)، قد يؤثر ذلك في القرارات المتخذة والاستنتاجات التي تم التوصل إليها.
أجرينا مؤخراً دراسة، سألنا خلالها 150 خبيراً جنائياً في أحد مختبرات الأدلة الجنائية الكبيرة عن خبراتهم مع الضغوط والملاحظات التي يتلقونها خلال العمل. وذكر 36% من الخبراء أنهم شعروا بمستويات عالية من الضغوط والتوتر، بينما قال 17% إن مستويات التوتر التي شهدوها كانت منخفضة. ونبعت بعض من أسباب مستويات التوتر العالية من مكان العمل نفسه، مثل الإدارة العليا والمشرفين على الخبراء (بنسبة 25%)، والقضايا المتراكمة والضغوط للعمل على قضايا متعددة (بنسبة 20%). وارتبطت أسباب أخرى لمستويات التوتر العالية بالحياة الشخصية لخبراء الأدلة الجنائية (بنسبة 11%)، مثل الأمور العائلية والطبية والمالية.
التقييمات وملاحظات العمل
يتلقى خبراء الأدلة الجنائية ملاحظات من أصحاب المصلحة المختلفين خلال العمل على القضايا. ويتواصل الخبراء بانتظام مع المشرفين على عملهم والمحققين لمناقشة تحليلات الفحوصات المخبرية، وغالباً ما يلتقون بالمحامين لإبلاغهم بنتائج الفحوصات والآراء الفنية للقضية. وقد تؤثر هذه الملاحظات في عملية اتخاذ القرارات وأداء الخبراء. فعلى سبيل المثال، أظهر التحقيق الذي أجري في قضية التحديد الخاطئ لبصمة مايفيلد أن بروتوكولات "مكتب التحقيقات الفيدرالي" الأميركي في العام 2004 لا تشجع خبراء البصمة العشرية في قول (لا نعلم) في القضايا ذات الأهمية العالية مثل الهجمات الإرهابية. وتسبب محتوى الملاحظات في هذه البروتوكولات حين ذلك في خلق ضغوط ضمنية، ما دفع خبراء "مكتب التحقيقات الفيدرالي" إلى إلصاق التهمة بمايفيلد بدلاً من القول إن البصمة غير حاسمة.
وأظهرت دراستنا أن 14% من خبراء الأدلة الجنائية أحسوا بشعور قوي بأن إدارتهم ومشرفيهم والمحققين أو المفوضين القانونين يثنون على عملهم عندما يساعدون في حل القضية، مثلاً (عند إصدار نتيجة تطابق الدليل الجنائي مع المشتبه بهم بدلاً من قول "لا نعلم"). بالإضافة إلى ذلك، أشار 8% من الخبراء بشعورهم القوي بأنهم باتوا يعلمون ما يرغبه أصحاب المصلحة أو يتوقعونه منهم. وعلى الرغم من أن هذه النسب قليلة من شريحة الخبراء التي تمت دراستهم، لكن هذه النتائج تشير إلى أن بعض خبراء الأدلة الجنائية قد يشعرون بضغوط ضمنية للوصول إلى استنتاج معين حتى وإن كانت هذه الضغوط غير حقيقية أو غير مقصودة.
تقليل التوتر والضغوط
لا يمكن تجنب ضغوط العمل تماماً على أرض الواقع. لكن تحديد مصادر الضغوط ومعرفة تأثيرها المحتمل على الصحة وعملية اتخاذ القرارات يمثل خطوة أولى مهمة للتعامل معها. وتوجد أيضاً وسائل عديدة داخلية وخارجية لتقليل هذه الضغوط وتأثيرها. فمثلاً، أظهر أحد الأبحاث أن فاحصي مسرح الجريمة ذوي الأداء المرتفع استطاعوا تطوير استراتيجيات لإدارة توترهم، مثل تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، وتجنب السياسات المكتبية، وتبني أهداف واقعية، وتطوير شبكات دعم مع عائلاتهم وزملائهم في العمل.
وتهدف الوسائل الخارجية (مثل المبادرة في الحصول على قسطٍ كافٍ من الراحة) إلى تقليل مصادر الضغوط. أما الوسائل الداخلية لا تقلل الضغوط، لكنها تركز على طريقة استجابتنا لها. وقد تمثل تمارين اليقظة الذهنية (mindfulness) والوسائل الأخرى التي تؤثر على استجابتنا للضغوط نهجاً لتقليل تأثيرها.
ولكن معالجة العوامل التي تؤدي إلى الانحياز اللاواعي ليس أمراً بسيطاً يمكن إنجازه عبر تدريب إضافي للوعي حول هذه المسببات أو استخدام التقنيات لأتمتة العمليات إلكترونياً.
إذ إنه لا يمكن تجنب ضغوط العمل تماماً، فقد يساعدنا فهم نوع ومستوى التوتر والضغوط العملية التي يواجهها خبراء الأدلة الجنائية خلال أداء عملهم في القضايا وخلق بيئات عمل مثالية لاتخاذ القرارات الجنائية، أو على الأقل خلق بيئات عمل لا تتسبب في التأثير سلباً أو تتسبب في أي انحياز في القرارات. ويمثل تعزيز الشفافية حول عملية اتخاذ القرارات الجنائية وكيفية التوصل للاستنتاجات وكذلك فهم العوامل التي أثرت عليها، مثل التقييمات والملاحظات، فرصةً تقربنا خطوةً نحو تحسين جودة هذه القرارات.