ملخص: أظهر العديد من الأبحاث أننا ننسى الكثير مما نمر به خلال اليوم، وبناءً على ذلك، كيف تصوغ رسائل ترسخ أكثر في ذاكرة المتلقي؟ يستخدم المؤلف مفاهيم من علم الذاكرة لمساعدتك على صياغة رسائل ترسخ في الذاكرة، سواء كانت عرضاً تقديمياً أو رسالة إلكترونية أو خطاباً. إحدى الطرق لصياغة رسالة ترسخ في ذاكرة المتلقي هي استخدام أسلوب التجميع؛ أي أن تجمع النقاط التي تريد إيصالها حول فكرة محورية وتوضح الرابط بينها. من خلال هذا الأسلوب، يستطيع المتلقي ربط الأجزاء معاً بطريقة منطقية مفيدة وبناء ذكرى غنية حول المادة التي تقدمها. كما يمكنك أن تصوغ رسالة ترسخ في ذاكرة المتلقي من خلال استخدام مثال ملموس بدلاً من الاستناد إلى فكرة غامضة عندما تريد إيضاح موضوع معقد. ومن المهم أن تحث المتلقي على تكرار المعلومة لأن استرجاع ما تعلمه سابقاً يسهِّل عليه تذكره حينما يحتاج إليه لاحقاً. وأخيراً، حفز حب الاستطلاع لدى المتلقي، فالخطاب الذي يرسخ في الذاكرة ليس الذي يتضمن تقديم إجابات، بل الذي يطرح أسئلة تحث المتلقي على التفكير.
تخيل أنك في اجتماع حيث يقدم شخص ما عرضاً تقديمياً، أنت مهتم إلى حد ما بالموضوع، ويبدو أن المتحدث يؤدي أداء طيباً، ينتهي الاجتماع، وبعد 30 دقيقة، تحاول أن تتذكر الموضوع المناقش. يمكنك أن تتذكر أن القهوة كانت خفيفة، وأن الغرفة كانت شديدة البرودة، وأن المتحدث كان يرتدي ربطة عنق وردية اللون، لكن لا يمكنك تذكر ما كان يتحدث عنه.
بوصفي عالم أعصاب، فإنني أفهم ذلك. أمضي في عملي ساعات في المحادثات الأكاديمية وأقرأ العديد من الأوراق البحثية، لكنني لا أستطيع عادةً تذكر سوى جزء صغير من تلك المعلومات، ومن جهة أخرى، أعمل على إعداد العروض التقديمية وكتابة التقارير وحديثاً تجميع الكتب، وأنا أعي تماماً أيضاً أن المتلقي سينسى معظم التفاصيل التي أحاول إيصالها إليه.
تُظهر الأبحاث التي أجراها الخبراء على مدى قرن من الزمن حول الذاكرة البشرية أننا ننسى الكثير مما نمر به خلال اليوم، وتتأثر تصرفاتنا المستقبلية بشدة بهذه النسبة الضئيلة التي نحتفظ بها من المعلومات، كما قال عالم النفس الذي حاز جائزة نوبل، الدكتور دانيال كانيمان: "نحن نتخذ قراراتنا وفقاً لذكرياتنا". لكي تكون الرسالة فعالة، يجب أن تبقى في ذاكرة المتلقي.
ما الذي يجعل الرسالة ترسخ في ذاكرة المتلقي؟
خلال تأليف كتابي "لماذا نتذكر؟" (Why We Remember)، واجهت تحدياً يتمثل في تلخيص ما يزيد على قرن من الأبحاث حول علم الذاكرة بطريقة يمكن للقرّاء فهمها وتطبيقها في حياتهم اليومية. وبالاعتماد على هذا العلم، توصلت إلى ما أسميه العناصر الأربعة للرسائل التي ترسخ في ذاكرة المتلقي، ويمكنك أنت أيضاً استخدام مفاهيم علم الذاكرة لصياغة رسائل ترسخ في الذاكرة سواء كانت عرضاً تقديمياً أو رسالة إلكترونية أو خطاباً.
1) استخدم أسلوب التجميع
لا يمكن للدماغ الاحتفاظ إلا بقدر محدود من المعلومات في وقت معين، وقد يكون هذا الحد، الذي يسميه علماء النفس "سعة الذاكرة العاملة"، صغيراً بحيث لا يتجاوز 3 إلى 4 معلومات، الأمر الذي يمنع جمهورك من استيعاب كمية المعلومات التي تتوقعها. على الرغم من ذلك، ليس هناك تعريف ثابت لما يشكّل معلومة واحدة.
للتغلب على حدود سعة الذاكرة العاملة، يمكنك استخدام أسلوب التجميع؛ أي أن تجمع النقاط التي تريد إيصالها حول فكرة محورية وتوضح الرابط بينها. من خلال هذا الأسلوب، يستطيع المتلقي ربط الأجزاء معاً بطريقة منطقية مفيدة وبناء ذكرى غنية حول المادة التي تقدمها.
على سبيل المثال، عندما كان الناس يسألونني عن كيفية الحفاظ على قوة الذاكرة مع التقدم في السن، كنتُ أعطيهم قائمة مهام طويلة لتنفيذها. أما الآن، فأنا أجيب إجابة بسيطة: "دماغك جزء من جسدك، لذا فالمفيد لجسدك مفيد لدماغك وذاكرتك". ثم أضيف التفاصيل إلى هذا المفهوم البسيط، مثل ما يجب فعله (ممارسة التمارين الرياضية واتباع النظام الغذائي المتوسطي والحصول على قسط كافٍ من النوم، وما إلى ذلك) وما يجب تجنبه (الإجهاد المزمن والالتهابات وتلوث الهواء وما إلى ذلك). من خلال الانطلاق من مبدأ أساسي وتقسيمه إلى مجموعتين فرعيتين، أنظم قائمة طويلة من الحقائق غير المترابطة في مجموعة معارف مترابطة.
2) اطرح رسالتك باستخدام أمثلة ملموسة
حينما تود إيضاح موضوع معقد، استخدم مثالاً ملموساً حتى تجعل رسالتك غير قابلة للنسيان. تُظهر الأبحاث أن الأشخاص يستصعبون حفظ مفاهيم مجردة مثل "العدالة"، مقارنةً بحفظ كلمات يمكن تصورها أو تخيلها بسهولة، مثل "المطرقة".
وبوصفي عالماً فإنني أعرف هذه الحقيقة، وعلى الرغم من ذلك فإن استخدام هذه النصيحة عند التواصل مع الآخرين استغرق مني وقتاً. لسنوات عديدة، درّست طلابي مقررات ركزت فيها على المفاهيم التي أردت أن يتعلموها، وعند تأليف كتاب "لماذا نتذكر؟"، كان عليَّ أن أتبع أسلوباً مختلفاً لأسهل على الجمهور فهم الموضوع نفسه، لذلك بدأت كل فصل بقصة جذابة عاطفياً ومزينة بتفاصيل حسية لأضمن اندماج القارئ بالكامل.
إحدى هذه القصص كانت عن حفلة عيد ميلاد رتبتها بنفسي، وفشلَتْ فشلاً ذريعاً، تنتهي القصة بفوضى عارمة وطفلة تجري مسرعة في حديقة المنزل لأخذ قطعة الحلوى الصغيرة التي لمحتها بين الأعشاب. لم تكن لهذه التفاصيل علاقة كبيرة بنقطتي الرئيسية، وهي توضيح سبب بقاء بعض الذكريات وعدم بقاء بعضها الآخر، لكن التفاصيل الملموسة في قصتي تثير استجابة عاطفية وتوفر صوراً من شأنها أن تمنح القراء ذكرى حية يستندون إليها لاسترجاع المعلومات المرتبطة بها في هذا الفصل من الكتاب.
3) شجع المتلقي على استرجاع المعلومة
استرجاع ما تعلمته سابقاً يسهل عليك تذكّره حينما تحتاج إليه لاحقاً. أظهر الباحثون في إحدى الدراسات، أنه عندما كان الأشخاص يحاولون حفظ الكلمات باللغة السواحيلية، كانت محاولة استرجاع الكلمات خلال اختبار أكثر فعالية من مجرد حفظها.
بالطبع، لا يمكنك عادةً اختبار جمهورك، لذلك تحققنا في مختبري من كيفية استخدام هذا الأسلوب في بيئات عادية، فأجرينا مسحاً لأدمغة الأشخاص في أثناء استماعهم للقصص، وفي نقطة محددة في كل قصة كانت هناك جملة تشير إلى حدث وصفناه قبل بضع دقائق. خلال قراءة العبارات التي تشير إلى معلومات سابقة، رأينا تنشيطاً أكبر لدوائر الدماغ التي تشارك في تكوين ذكريات جديدة، وساعد التكرار المشاركين في الدراسة على حفظ مزيد من المعلومات من القصة.
ضمَّنتُ في كامل الكتاب بعض العبارات التي اخترتها بطريقة استراتيجية لحثّ القارئ على تكرار ما قرأه، مثل: "كما رأينا في الفصل الأخير"، وتبرز كل عبارة العلاقة بين الموضوع الحالي والموضوع الذي غطيته سابقاً في الكتاب، ما يشجع القراء على اختبار أنفسهم، من خلال استرجاع ما قرؤوه. إضافة إلى ذلك، فإن حث القارئ على استرجاع المعلومة يساعده على دمج المعلومات الجديدة بالمعلومات السابقة، ويعزز قدرته على التذكر كما ذكرت سابقاً.
4) حفز حب الاستطلاع لدى المتلقي
إذا ركزت في عرضك التقديمي على الوصول إلى الرسالة النهائية فقط، فإنك تضيع فرصة كبيرة. بعد كتابة أكثر من 200 بحث أكاديمي وآلاف الصفحات من الأبحاث الممولة بالمنح، تعلمت أن الخطاب الذي يرسخ في الذاكرة ليس الذي يقدم إجابات، بل الذي يطرح أسئلة تحث المتلقي على التفكير.
تعززت هذه الفكرة من خلال بحث قائم على تصوير الدماغ أجريناه في مختبر الذاكرة الديناميكية (Dynamic Memory Lab) الذي أديره، فباستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، اكتشفنا أنه عندما يواجه الشخص سؤالاً ويتوق لمعرفة إجابته، يزداد النشاط في مناطق الدماغ التي تعالج الدوبامين، إذ يبدو أن لمناطق الدماغ هذه دوراً في تحفيزنا للحصول على المكافآت، مثل قطع مسافة طويلة للذهاب إلى المطعم المفضل. علاوة على ذلك، يعزز الدوبامين قدرة الدماغ على تكوين ذكريات جديدة، وهو ما قد يفسر سبب تعزيز الفضول لعملية التعلم.
يشير البحث إلى أن سر تحفيز زيادة الدوبامين هو تسليط الضوء على الفجوة المعرفية. لدينا جميعاً فجوات معرفية، لكننا غالباً لا ندركها، ومن خلال تسليط الضوء على الفجوة بين ما يعرفه جمهورك وما تريدهم أن يعرفوه ستثير حالة تنبّه بسيطة في أدمغتهم تجعلهم أكثر استعداداً لتقبل المعلومات الجديدة.
على سبيل المثال، يشير عنوان كتابي إلى سؤال بسيط: "ما هو الغرض من الذاكرة؟" يظن معظمنا بصورة بديهية أن الغرض من الذاكرة هو توثيق تجاربنا السابقة، لكنني أقول للناس إن الذاكرة لا تتعلق بالماضي بل بالمستقبل، فعندما يواجه المستمعون إجابة غير بديهية لسؤال يبدو واضحاً، فقد تصيبهم المفاجأة أو تساورهم الشكوك، ولكنهم سيشعرون بالفضول غالباً بشأن ما ستؤول إليه المحادثة.
آمل أنك لاحظت خلال قراءة المقال كيف استخدمتُ فيه العناصر الأربعة التي وضحتها فيما سبق، حتى يرسخ في ذاكرتك أكثر. لا أتوقع منك أن تتذكره كله، ولكن المعلومة الأهم التي يجب أن تتذكرها هي أن التجارب الفورية سريعة الزوال لذا، إذا كنت ترغب في مشاركة معلومات تترك أثراً دائماً، فالحل هو إنشاء ذكرى دائمة عنها لدى المتلقي.