أصبحت شفافية الأجور أحدث سلاح يوجَّه ضد فجوات الرواتب غير العادلة. فمثلاً، بحث الرئيس الأسبق للولايات المتحدة باراك أوباما عن آلية تنفيذية جديدة طالبت الشركات التي يتجاوز عدد موظفيها 100 موظف أن تقدم تقريراً حول كيفية تقسيم الرواتب حسب النوع والقومية والعرق. وكانت هذه الخطوة استكمالاً لخطوة تنفيذية مماثلة كانت قد نفذت بالفعل مع المتعاقدين الحكوميين.
شفافية الأجور
توفر شفافية الأجور مزايا أكثر بكثير من مجرد جعل الأمور أكثر إنصافاً بالنسبة للموظفين على المستوى الفردي. استناداً إلى أبحاث جرت مراجعتها بين نظراء مختصين، وبناءً على مقابلات أجريتها شخصياً مع قادة شركات، توصلت إلى اعتقاد مفاده أن شفافية الأجور قد تكون في الحقيقة أفضل لأداء الشركة.
ويظهر هذا جلياً عند النظر فيما نتكلفه من جراء النموذج "العادي" المتبع، ألا وهو سريّة الأجور. تشير البحوث إلى أن سرية الأجور قد تخفض من سوية أداء الموظفين في واقع الأمر. في حين أن الشفافية تحسّن كلاً من النتائج والجهود المبذولة، كما تظهر الدراسات أن أصحاب الأداء الأفضل على وجه الخصوص يتأثرون بذلك.
كشفت الباحثة إلينا بيلوغولوفسكي من جامعة كورنيل (Cornell University)، أن إبقاء الرواتب سرية يترافق بانخفاض سوية أداء الموظفين. فقد أجرت دراسة شملت 280 طالباً جامعياً، حيث كانوا يتلقون راتباً أساسياً مقابل إنهاء 3 جولات في لعبة المطابقة على الكمبيوتر، مع الحصول على مكافآت إضافية استناداً إلى مدى جودة أدائهم في اللعب. وعلى الرغم من أن المشاركين كانوا يلعبون بشكل فردي، فقد تم وضعهم في مجموعات عمل مؤلفة من 4 أفراد لكل منها.
أُخبر نصف المشاركين عن سوية أدائهم الخاص وعن المكافآت الخاصة بهم (سرية الأجور). بينما حصل النصف الآخر على هذه المعلومات المتعلقة بكل فرد شخصياً وكذلك المتعلقة بالثلاثة الآخرين في مجموعة العمل التي ينتمون إليها (شفافية الأجور)، أي كان كل منهم على علم بما يتلقاه الآخرون من أجر. كان يُسمح للأعضاء في كل مجموعة بالتواصل مع بعضهم فيما بين الجولات، لكن المجموعات التي طُبقت عليها فكرة السرية كانت ممنوعة من مناقشة أي شيء يتعلق بالأجور. بالإضافة إلى ذلك، حصل بعض الطلاب على مكافآت بناءً على عدد المطابقات التي حققوها بشكل عام (الأداء المطلق)، في حين دُفع للبعض الآخر وفقاً لمن حصل على أكبر عدد من المطابقات في المجموعة (الأداء النسبي).
وعندما أجرت الباحثة الحسابات المستخلصة من بيانات الأداء، وجدت أن سرية الدفع قد ترافقت مع انخفاض في سوية الأداء. وكذلك عندما أُخبر الطلاب في المجموعات ذات الدفع السري بأن الأجور التي يتلقونها كانت تتعلق بأداء الآخرين في المجموعة (والتي بطبيعة الحال لم يكن أداؤهم أو حسابهم مرئياً) أصبح أداء هؤلاء الطلاب أسوأ من قبل. بالإضافة إلى ذلك، فقد تأثر المشاركون أصحاب الأداء المرتفع على نحو أكبر عندما لم يتمكنوا من رؤية رابط يجمع بين الأجور والأداء ضمن فريق عملهم الكلي.
إبقاء الأجور سرية
لذلك فمن الواضح أن إبقاء الأجور سرية هو الذي يتسبب في الشعور بعدم الارتباط ويؤدي إلى انخفاض سوية الأداء. ولكن هل يتبع ذلك بالضرورة أن المشاركة العلنية للمعلومات المتعلقة بالدفع تحسّن من الأداء؟ هذا هو السؤال الذي سعى للحصول على إجابته إميليانو هوه فون، الأستاذ المساعد في الاقتصاد في كلية "ميدل بيري" (Middlebury College) خلال إعداده رسالة الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا (University of California) في بيركلي. صمم هوه فون تجربة لمعرفة ما إذا كان اطلاع الأشخاص على معلومات حول الأجر الذي يتلقونه مقابل ما يتلقاه الآخرون سيؤدي إلى زيادة أو نقصان في مستوى الجهد الذي يبذلونه. ولإنجاز ذلك، وظف أكثر من 2,000 شخص من خلال منصة "أمازون ميكانيكال تورك" (Amazon's Mechanical Turk)- وهي موقع ويب لحشد المصادر والاستعانة بالجمهور عن بعد، تستعمله الشركات لتنفيذ مهام محددة، وتمتلكه شركة أمازون.
طلب من المشاركين إتمام جولتين من مهمة إدخال البيانات، وكان يدفع لهم بنظام القطعة لقاء كل عملية إدخال صحيحة. وفي نهاية الجولة الأولى، أُطلع بعض المشاركين على مكاسبهم وكذلك مكاسب آخرين من الذين يقومون بأداء المهمة، في حين أُطلع القسم الآخر على المعلومات المتعلقة بمكاسبهم هم وحدهم. في جولة العمل الثانية، بذل المشاركون الذين كانوا قد أُطلعوا على مكاسبهم بالنسبة لمكاسب الآخرين جهداً أكبر وحققوا ارتفاعاً ملحوظاً في أدائهم. وتحققت الزيادة في سوية الأداء بشكل كبير على وجه الخصوص بين أولئك الذين كان ترتيبهم مرتفعاً أصلاً بعد جولة العمل الأولى، بمعنى آخر عمل أصحاب الأداء المرتفع بجد أكبر ليحافظوا على تصنيفهم.
وبالجمع بين الدراستين، نجد أنهما تشيران إلى فكرة واحدة مفادها أن سرية الأجور لا تؤدي إلى الحد من سوية الأداء الفردي فحسب، بل أيضاً أن الكشف عن المعلومات المتعلقة بالأجور من شأنه رفع الأداء فعلياً، لاسيما بين أصحاب الأداء المرتفع.
وخارج نطاق التجربة، تشهد الشركات التي تعتمد مبدأ الشفافية نتائج مماثلة. في كتابي الجديد، بعنوان "تحت إدارة جديدة" (Under New Management)، درست كيف أن عدد الشركات التي تتسم بالشفافية في الأجور آخذ في الازدياد، بدءاً من الشركات الناشئة في قطاع التكنولوجيا أمثال "بفر" (Buffer) و"سوم أول" (SumAll)، إلى شركات عملاقة أمثال "هوول فودز" (Whole Foods)، حيث يتم مشاركة البيانات المتعلقة بالأجور وبالأداء علانية على الشبكة الداخلية للشركة. في كل حالة، وبعد أن بدأت تتلاشى فكرة معرفة رواتب الآخرين، يكون كل ما تبقى هو إجراء محادثات مثمرة حول كيفية تحسين عدالة الأجور، أو كيفية تحسين الأداء الفردي للارتقاء به. يقول جون ماكي الرئيس التنفيذي لشركة "هوول فودز" (Whole Foods) أن هناك غرضاً من الخلافات بشأن الرواتب في هوول فودز وهذه الخلافات تحفز على فتح حوارات أعمق حول الأجور. وعندما يواجهه البعض بشأن راتب شخص معين ويقارنونه بأجورهم، يجيب غالباً: "ذلك الشخص أكثر قيمة. إذا أنجزتم ما ينجزه ذلك الشخص، فسأدفع لكم الأجر ذاته".
عندما يدرك الأشخاص مكانتهم ويدركون ما يجب عليهم فعله للارتقاء، سيصبحون أكثر حماساً للعمل وتحسين أدائهم ومكانتهم، وهو عمل يعود بالنفع على الجميع.