لماذا تنفق كبرى الشركات التقنية في العالم مليارات الدولارات في استثماراتها في مساعِدات صوتية ومكبرات صوت ذكية تتسبب لها في خسارة مالية كل ثلاثة أشهر؟ تحدثت تقارير عن أنّ أمازون لديها 10,000 موظف يعملون على أليكسا (Alexa). ويشير تحليل تفكيكي (Tear-down analysis) إلى أنّ جهاز "جوجل هوم ميني" (Google Home Mini) يُباع بخسارة في كل مرة يخضع فيها لخصومات، وهو ما يحدث على نحو متكرر. وقد زوّدت سامسونج هواتفها بزر خاص لمساعدها الصوتي بيكسباي (Bixby) الذي يعيد المستهلكون تعيينه لاستخدام "مساعد جوجل" (Google Assistant) بدلاً منه. ولم تعد مايكروسوفت تحاول التنافس مع "أليكسا" أو "مساعد جوجل"، ولكنها لا تزال تستثمر في "كورتانا" (Cortana).
تمتلك كل واحدة من هذه الشركات، وشركات أخرى، أسباباً مختلفة لاستثمارها المستمر. تحاول بعض الشركات حماية امتياز مهيمن، مثل التجارة الإلكترونية في حالة "أمازون"، وإعلانات البحث في حالة "جوجل". وتحاول شركات أخرى اقتحام المجالات التي استُثنيتْ منها، مثل توزيع المحتوى الرقمي والإعلانات المصورة والبحث والتجارة. وتأخذ بعض الشركات الأمرين في الحسبان.
يمكنك فهم حروب المنصة الصوتية فقط من خلال الاعتراف أولاً بأنّ المساعِدات الصوتية، تحديداً، تمثل تغيراً في المنصة وواجهة المستخدم بالمقارنة مع الويب والهواتف الذكية. ويكمن الاختلاف الرئيس في أنّ هاتين المنصتين الجديدتين لا تعتمدان على معايير مفتوحة، ولا على وصول مفتوح نسبياً بالنسبة للمستهلكين. وتؤدي المساعِدات الصوتية دور وسيط ملكية في جميع تفاعلات المستهلكين الرقمية. ويخلق هذا السيناريو دهشة وخوفاً لدى الشركات التقنية الرائدة التي اكتسبت بجهودها مراكز مرموقة في بدايات حروب الويب ومنصة الهواتف الذكية.
التغيرات في المنصة وواجهة المستخدم تسير جنباً إلى جنب
تمثل المساعدات الصوتية التغير الرئيس الثالث في واجهة المستخدم والمنصة التكنولوجية خلال العقود الثلاثة الماضية، بعد ظهور الويب في التسعينات والأجهزة الذكية قبل 10 أعوام تقريباً. وأدى كل تغيير متتابع في واجهة المستخدم إلى تغيير في طريقة تفاعل الأشخاص مع المحتوى الرقمي والوصول إليه. أعطتنا صفحات الويب "النقرة"، حيث تجولنا باستخدام الفأرة والأزرار المفعّلة والوصلات التشعبية. ووفّرت الهواتف الذكية "اللمس" و"التمرير" و"الإمساك" لمليارات المستهلكين، واستبدلت صفحات الويب بالتطبيقات. تطلبت هذه التحولات أن يتعلم المستهلكون لغة جديدة تمكنهم من التفاعل مع التكنولوجيا. ولكن التحول إلى الصوت لا يتطلب أي تدريب، حيث يستطيع المستخدمون "الحديث" بكل بساطة كما يفعلون بشكل طبيعي.
رافقت كل هذه التغيرات في واجهة المستخدم منصة تكنولوجية جديدة. استندت الشبكة العنكبوتية العالمية "الويب" في نشأتها على الإنترنت، ومكّنت زيادة الحواسيب الشخصية من سهولة الوصول إلى صفحات الويب. وكانت أنظمة تشغيل المحمول مثل "آي أو إس" (iOS) و"أندرويد" (Android) المتوفرة على الهواتف الذكية بمنزلة تطورات مهمة، لكن اقتصاد التطبيقات اعتمد أيضاً على تقديم الحوسبة السحابية لتقديم المحتوى على نحو فعال، مع تحديثات منتظمة للميزات وتحسينات على الأداء. وتعتمد الحوسبة الصوتية على الذكاء الاصطناعي للتعرف على الصوت وفهم اللغات الطبيعية. كما تُستخدم لتحسين تجربة المستخدم بفاعلية.
تغيرات المنصة، والهيمنة على الحصة السوقية، والعوامل الخمسة البارزة
أدخل الويب والمحمول أساليب جديدة كلياً لمزاولة الأعمال التجارية، وعملا على تحسين كفاءة الطرق القديمة. وهيمنت شركات معينة على مجالات مختلفة. وقدّم موقع "فويس بوت" (Voicebot) إطار عمل العوامل الخمسة البارزة (5 A's) لتقييم هيمنة قطاعات القيمة: الوصول والاستحواذ والسلطة والاهتمام والتوكيل.
ويمكن التفكير في أول عامل، وهو الوصول، على أنه توزيع المحتوى الرقمي. قد تتذكر الشعار الذي عمّمه بيل غيتس أنّ "المحتوى هو الملك" على الإنترنت. ولم تأتِ أي شركة للهيمنة على المحتوى كله على الويب بشكل عام، لأنّ ملكية المحتوى يتم توزيعها على نطاق واسع، وصيغ المحتوى متنوعة، والمعايير المفتوحة للإنترنت تمكِّن الجميع من أن يصبحوا ناشرين. وعلى أي حال، جاء "يوتيوب" ليهيمن على قطاع الفيديوهات التي يضعها المستخدمون، وقد أوجدت "نتفليكس" لنفسها مؤخراً حصة سوقية غير مسبوقة في مجال الفيديوهات الاحترافية. وعلى نطاق ضيق، نجحت "سبوتيفاي" في الهيمنة على الفضاء الموسيقي. وقد اتبعت كل شركة استراتيجية مشابهة لسوق ذات وجهين تجمع أكبر عدد من المورّدين والمستهلكين معاً.
بدأ "يوتيوب" على الويب ونجح في الانتقال إلى الهاتف المحمول. واحتاجت "نتفليكس" و"سبوتيفاي" ابتكارات إضافية في مجال النطاق العريض والشبكات اللاسلكية للقيام بنفس هذه الانتقالات. إذاً، فقد تطور هذا القطاع مع المنصات.
يمثل الاستحواذ العامل البارز الثاني. عندما تفكر في التسوق عبر الإنترنت، فإنّ ثمة حجة تقول إنّ "أمازون" جاءت لتهيمن على هذا المجال في الولايات المتحدة والعديد من البلدان الغربية. وفي الصين، تحتفظ شركة علي بابا (Alibaba) وممتلكاتها المتنوعة بهذا اللقب، لكن بإمكاننا الإشارة إلى هذين الفائزين الواضحين على الرغم من حقيقة أنّ الكثير من الشركات تقوم أيضاً بالبيع على الإنترنت، وبعضها متخصصة في ذلك. كما اتّبعت الشركتان نموذج السوق المتمثل في العرض والطلب.
تعتبر السلطة أحد الأصول الناعمة، ولكنها قوية. جاءت "جوجل" للهيمنة على السلطة في عصري الويب والمحمول على حد سواء، بأن أصبحت محرك بحث مهيمن. فإذا أردت الحصول على إجابة سؤال ما، فستبحث عنه في "جوجل". ربما مثّلت "الموسوعة البريطانية" (The Encyclopedia Britannica) أو الصحفي والتر كرونكايت أو "صحيفة نيويورك تايمز" السلطة الرائدة في زمنهم. ولكن العصر الحديث جاء لنا بـ"جوجل"، التي تمتلك حصة تصل إلى أكثر من 90% من إجمالي حركة البحث.
يتمحور كل واحد من هذه العوامل الثلاثة الأولى حول فرض السيطرة في السوق على توزيع المحتوى والتجارة والمعلومات. ويتعلق العامل التالي بالتحكم في كيفية استخدام الأشخاص لوقتهم. كان الاهتمام شيئاً يمكن أن يعتبره البرنامج التلفزيوني الأفضل أو نشرة الأخبار أو الصحيفة الأشهر أحد الأصول. يستمع المستهلكون إلى المحتوى الذي تقدمه هذه الوسائل أو يقرؤونه، وهذا ما وفّر فرصة لتقديم الإعلانات. ويَسهل استنتاج أنّ "آبل" و"جوجل"، بنظامي التشغيل المهيمنين للهاتف المحمول، إلى جانب "آبل" مرة أخرى و"سامسونج" بصفتهما شركتين رائدتين في صناعة الهواتف الذكية، كانوا الفائزين في عصر المحمول. وعلى أي حال، كان الفائز الآخر دون شك هو شركة "فيسبوك". حيث استطاعت ممتلكاتها أن تتحكم في المزيد من اهتمامات المستخدمين بفارق كبير عن أي شركة أخرى.
الأسلوب الدفاعي في مواجهة وسيط جديد
كل واحد من هذه القطاعات متاح مرة أخرى في العصر الصوتي الجديد. تقدم المساعدات الصوتية وصولاً سهلاً للمحتوى. ويجري استخدامها للاستحواذ على السلع، وهي تمثل مصدراً جديداً للسلطة، حيث تجيب عن مليارات الأسئلة سنوياً. كما توجِّه الاهتمام الذي حظيت به الهواتف الذكية سابقاً إلى ميزات التفاعل الصوتي الجديدة.
وهذا يعني أنّ كل الفائزين في حروب الويب والمحمول السابقة لديهم مجال قائم لا بدّ لهم من حمايته. هل سينتهي الأمر بالفيديوهات التفاعلية، التي يستطيع المستخدمون التحكم في تشغيلها واختيار تسلسل محتواها، أن تحل بديلاً عن الاستهلاك السلبي للفيديوهات على "يوتيوب"؟ وهل سيقوم مساعد صوتي تابع لـ "جوجل" أو "آبل" بعمليات الشراء للمستخدمين من خلال خدمة الوفاء عبر موقع Amazon.com، أم أنّ هذه المساعدات الصوتية ستذهب مباشرة إلى البائعين عبر الإنترنت؟ هل ستقتصر المساعدات الصوتية من "أمازون" و"آبل" و"مايكروسوفت" و"سامسونج" على الرجوع "للرسم البياني المعرفي من جوجل" (Google Knowledge Graph) للإجابة عن الأسئلة؟ كيف لعادات المستهلكين وتحيزات المساعدات الصوتية أن توجّه اهتمام المستهلكين بعيداً عن "فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتساب" إلى أشياء أخرى؟
يعتبر التغيير الذي أتي به الصوت مزعزعاً أكثر من التحول من الويب إلى المحمول. إذ تعلق هذا الانتقال بالمستخدمين، الذين يسخرون وقتهم لقناة تكنولوجية جديدة حظيت أيضاً بوصول إلى قناة سابقة من خلال ويب المحمول. ويتعذر الوصول بشكل كلي إلى معظم المحتوى المتوفر على الويب والمحمول من خلال المساعدات الصوتية. وإضافة إلى ذلك، فقد كانت الأنشطة على الويب ومنصات الهاتف المحمول موجّهة إلى المستخدم. وكان المستهلك هو صاحب الكلمة في الاختيار. تقوم المساعدات الصوتية تدريجياً بتحديد الخيارات نيابة عن المستهلكين. وهنا يأتي دور العامل الخامس البارز.
التوكيل هو أكثر ما يخافه الفائزون الكبار من المنصات التقنية الأولى. تحتفظ المساعدات الصوتية بتوكيل لاتخاذ قرارات بشأن مصدر الإجابات (السلطة)، ويمكن أن تؤثر بشكل كبير على الإمداد بالمحتوى (الوصول)، مثل توجيه الأشخاص نحو "برايم فيديو" (Prime Video) أو "يوتيوب". كما يمكنها الطلب من مصادر متعددة (الاستحواذ) غير "موقع أماوزن" (Amazon.com). وتوفر مصادرَ جديدة للتفاعلات تستبدل وقت المستهلك بالمواد الإعلامية (الانتباه).
تعتبر المساعدات الصوتية وسيطاً. لا يمتلك الويب وسيطاً هيكلياً مساوياً لها، وتفرض متاجر تطبيقات المحمول قيوداً محددة بناءً على شهادة التطبيق، ولكنها لا توجّه المستهلكين صراحةً إلى مصدر محدد. تقوم المساعدات الصوتية بتوجيه المستخدمين بشكل صريح من خلال عرض "أفضل النتائج" لأي طلب معين. ويمكن للمستخدمين طلب نتائج من مصادر محددة، ولكن ذلك يتطلب المزيد من الجهد والتروّي، وفي نهاية المطاف قد لا يوفر المساعد الصوتي ذلك المحتوى. على سبيل المثال، لا يوجد تسوق في "موقع أمازون" (Amazon.com) من خلال مساعد جوجل، وستقوم أليكسا بتفضيل النتائج من "برايم فيديو" على غيرها من الخدمات.
التوجيه والإتاحة هما قضيتان واضحتان يمكنهما إضعاف مركز الفائز على منصة تقنية سابقة، ولكن التوكيل سيكون له آثار أكبر بكثير. تصمَّم المساعدات الصوتية للمساعدة في تبسيط حياة المستخدمين. ومع مرور الوقت، سيُمنح المزيد من التوكيل للمساعدات الصوتية لتبسيط تنفيذ المهام بالنيابة عن المستخدم. ولن يهتم المستهلك بالضرورة بكيفية إنجاز المهمة، ولكن بأنها أنجزت فقط. سيعمل بعض هذه المساعدات بتوجيه من المستخدم، مثل "جوجل دوبلكس" (Google Duplex) عند الحجز في مطعم ما. وبعضها سيكون استباقياً، حيث سيلاحظ المساعد الصوتي غرضاً مفضلاً يقوم المستخدم بشرائه على نحو منتظم متاحاً بخصم، وسيقوم ببساطة بطلبه وشحنه دون تعليمات صريحة بذلك.
يجب على عمالقة التكنولوجيا الرائدين في عصرنا هذا أن يتخذوا وضعية الدفاع في مواجهة المساعدات الصوتية التي تقدمها مؤسسات أخرى، من أجل حماية مكاسبهم التي أحرزوها بشق الأنفس في الويب والمحمول. ويمكن أن يؤدي فشلهم في حماية امتيازهم إلى هلاكهم السريع.
الأسلوب الهجومي من خلال التحكم بالأداة
إذا كانت الأداة تقوم باتخاذ القرارات نيابة عن المستهلك، فيمكنك فهم السبب الذي يجعل عمالقة التقنية يرغبون بأن يكونوا مورّدي ذلك المساعد. تستطيع "جوجل" ضمان توجيه مستخدمي "مساعد جوجل" إلى خدمات البحث وفيديوهات "يوتيوب" الخاصة بها مع التأثير في التسوق عبر الإنترنت. ويمكن لـ "أمازون" التوسع فيما يتجاوز التجارة إلى البحث والاهتمام مع تسريع التكيف مع ممتلكاتها من المحتوى الرقمي. وتستطيع "سامسونج" أن تتجاوز ريادتها العالمية في مبيعات الهواتف الذكية لتتضمن خدمات قائمة على الصوت عبر الإنترنت.
تمثل التغيرات في المنصات فرصاً للجهات الفاعلة الجديدة لإيجاد هيمنة لها في القطاعات. وقد استفادت "آبل" و"سامسونج" من التغير في الهواتف الذكية لخلق امتيازات حصينة فيما يبدو، على حساب "نوكيا" و"بلاك بيري". وأسّست "فيسبوك" قطاع اهتمام حاضراً دائماً ولم يكن موجوداً قبل أن يكون بحوزتنا طوال الوقت حواسيب معقدة ومتصلة مع دخول رقمي ذي نطاق تردُّدي عالٍ.
ليس للمساعدات الصوتية حدود
لا تقتصر المساعدات الصوتية على جهاز ما، وذلك ما يجعلها أقوى نظراً لانتشارها. كان الويب مقيداً بحاسوبك الشخصي في الأصل. والهواتف الذكية هي هواتف محمولة، ولكنها أصبحت مصدراً وحيداً ومخصصاً للمعلومات والاتصال والترفيه. وغالباً ما يمكن التعرف على المساعدات الصوتية من خلال مكبرات الصوت الذكية، ولكنها في واقع الأمر بمقدار عشرة أضعاف الهواتف المحمولة، وهي تتوسع على نحو سريع لتشمل الأجهزة الكهربائية ومجموعة متنوعة من نقاط الدخول الصوتي الأخرى، مثل مشغلات الوسائط الرقمية والثلاجات والساعات الذكية.
إنّ قلة القيود على الأجهزة تعني أنّ باستطاعة المساعدات الصوتية الانتشار بسرعة أكبر، ويمكنها تقديم أنواع من القيمة مختلفة عما توفره المنصات السابقة، ويمكنها أن تمثل مدخلاً للمورّدين الجدد الذين لا يمتلكون أصولاً من عصور سابقة. وتعترف كبرى الشركات التقنية في العالم بذلك، لأنها استفادت من التغيرات التي رافقت التحولات السابقة في المنصات. كما أنها تتجاوب بشدة مع ميزاتها التنافسية الحالية وميزات منافسيها، وترى في الصوت فرصة لدعم دفاعاتها مع فتح مجالات نمو جديدة ومغرية في الوقت ذاته.
أهلاً بكم إلى عصر الصوت.