فن الاستشارات الاستراتيجية

5 دقائق
الاستشارات الاستراتيجية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ألّف الأستاذ بكلية هارفارد للأعمال كلايتون كريستنسن مبتكر مفهوم “الابتكار المزعزع” أحد كتبه الأخيرة بعنوان: “كيف تقيس جودة حياتك؟” في شهر مايو/أيار عام 2012. ونشر بعد أكثر من عام، أي في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2013، مقالاً مؤثراً بعنوان “استشارة على أعتاب الزعزعة” (‘Consulting on the Cusp of Disruption’). لقد أدرك بعد عقد من الزمن أن تلك الفترة مثّلت بداية عاصفة من الزعزعة في قطاع الاستشارات الإدارية العالمية التي تعززت آثارها منذئذ، ولكن هل ذلك مهم حقاً بالنسبة لقطاع الاستشارات الاستراتيجية؟

 

لطالما كان قطاع الاستشارات الاستراتيجية قائماً منذ زمن، منذ وقت رجال الحاشية والوزراء قديماً إلى الاستشاريين الاستراتيجيين والإداريين الموثوق بهم اليوم. لكن لم يبدأ قطاع الاستشارات الإدارية المعروف اليوم حتى عام 1886، أي عندما أجرى آرثر ليتل في معهد “ماساتشوستس للتكنولوجيا” أول بحث تقني له في الكيمياء، وأسس لاحقاً، عام 1909، ما عُرف بأول شركة استشارات إدارية تهدف إلى تحسين عمليات الشركات ومنتجاتها وخدماتها.

بعد ذلك أُسست أعرق شركات الاستشارات الإدارية: أولاً شركة بوز ألين (Booz Allen) عام 1914، وشركة “ماكنزي” (McKinsey) عام 1926، وشركة “بوسطن كونسلتنغ غروب” عام 1963، وشركة “باين” (Bain) عام 1973. بلغ إجمالي الإيرادات المجمعة للشركة الأخيرة، شركة “باين”، التي يُشار إليها عادة بالاختصار “إم بي بي” (MBB)، 23.6 مليار دولار أميركي عام 2019/2020، أي بمتوسط 397,000 دولار أميركي في الإيرادات لكل موظف.

بعد عدة أشهر من نشر الأستاذ كريستنسن مقالته عام 2012، طالت تلك الزعزعة حياته الشخصية ومنصبه في جامعة “هارفارد”. وفي عام 1983، أسس 6 رواد أعمال تربطهم علاقات وثيقة بكلية “هارفارد للأعمال” شركة “مونيتور” الاستشارية. وكان من بينهم الأستاذ الشهير في كلية “هارفارد للأعمال” مايكل بورتر، الذي يُنسب إليه الفضل في إعداد تحليل بورتر للقوى الخمس، وهو إطار عمل يُعرف بفعاليته في تطوير استراتيجيات الأعمال، وبتركيزه على ميزة تنافسية مستدامة.

واصلت شركة “مونيتور” نموها حتى شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2012، أي بعد أشهر قليلة من نشر مقال الأستاذ كريستنسن، لتُشهر إفلاسها بعد ذلك، وتلقي باللوم على ويلات الأزمة المالية العالمية عام 2008؛ ثم اشترتها واحدة من شركات المحاسبة العملاقة، وهي شركة ديلويت (Deloitte)، في يناير/كانون الثاني عام 2013، ليُعاد إطلاقها بعد ذلك باسم “ديلويت مونيتور” (Deloitte Monitor).

وعند تقصّي سبب إفلاس شركة مونيتور، فسّرت إحدى النظريات سبب إفلاسها بمفهوم الابتكار المزعزع الذي ابتكره الأستاذ كريستنسن. والابتكار المزعزع ببساطة هو دخول منافس جديد، مثل دخول تطبيق “واتساب”، إلى سوق المراسلة الفورية، وجعل الابتكار يحل محل المنتجات المهيمنة في السوق، مثل “بلاك بيري مسنجر” الذي كان شائعاً فيما مضى، ما يعني أنه لن تحظى أي ميزة تنافسية بصفة الاستدامة ما لم تخلق قيمة للعميل.

لكن تداعيات ذلك كانت واضحة، حيث إن قطاع الاستشارات الإدارية والاستراتيجية نفسه كان عرضة للزعزعة، وكان إفلاس شركة “مونيتور” أبرز مثال على ذلك. تُعرّف الزعزعة ببساطة أنها أزمة بطيئة الحركة، وبما أن الأزمات لا تبني شخصيات الأفراد، بل تكشف حقائقها، كذلك هو الحال في عالم الأعمال، فهي لا تبني ثقافة الشركات والمؤسسات، بل تكشف حقائقها. وبالتالي، لا تتعلق الزعزعة التي واجهها قطاع الاستشارات الإدارية على مدار العقد الماضي بالسمعة في نهاية المطاف، ولا تمثّل مشكلة استراتيجية أيضاً، بل هي مشكلة تتعلق بالحوكمة؛ واستناداً إلى ذلك، حان الوقت اليوم لتقديم دروس يمكن للقطاع بأكمله الاستفادة منها.

يتعلق الدرس الأول بالأسباب الكامنة وراء التصورات الخارجية للقطاع. وفي الواقع، يكمن نفوذ شركات الاستشارات الاستراتيجية خلف الأبواب المغلقة، حيث يشارك العملاء تفاصيل سرية حول مؤسساتهم ومشكلاتهم وطموحاتهم ليقوم الاستشاري الموثوق به على حلها أو تحقيقها. لكن ماذا يحدث عندما تنكشف الشركة الاستشارية وأنشطتها أمام العلن؟ فكروا في شخص يواجه أشعة الشمس الحارقة، هل يمكن له أن يتحمل لهيبها القوي؟ قد تعزو أي شركة استشارية السبب الوحيد لاتخاذها موقفاً دفاعياً عند فضح أنشطتها وتفاعل وسائل الإعلام والجمهور وأصحاب المصلحة الرئيسيين مع الحدث إلى عدم صرامة استشاريها من الناحية الفكرية، وذلك استناداً إلى الحقائق السليمة ومعنى النزاهة الحقيقي.

ويرتبط السبب الثاني في حوكمة الشركات. لا تزال غالبية الشركات الاستشارية تستأثر بمهمة مساعدة عملائها فقط، في الوقت الذي أصبحت فيه القضايا العالمية مثل أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة، والأهداف العالمية، وصافي الانبعاثات الكربونية الصفرية، وقضايا الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات قضايا مؤسسية على المستوى الوطني ومستوى الشركات. لكن هذا التركيز الدقيق في الأهداف على حساب أصحاب المصلحة الآخرين في المجتمع هو تركيز بائد، بل حتى خطِر، وذلك لأن بعض الشركات تفضّل مصالح العميل على مصالحها.

بمعنى آخر، إذا كان لدى عميل ما نية خبيثة، ووافقت شركة الاستشارات الإدارية على تقديم المشورة له، فهي تشكّل بذلك خطراً على المجتمع والاقتصاد وعلى الكوكب بأكمله. ومن منظور الحوكمة، هناك حاجة إلى إحداث ثورة حقيقية في المهمة الأساسية لقطاع الاستشارات نفسه.

ويتعلق الدرس الثالث بالاستشاريين الإداريين أنفسهم. يبلغ إجمالي عدد موظفي شركة “إم بي بي” مجتمعين عالمياً أكثر من 55,000 موظف. لطالما تمثّل أحد المعايير الرئيسية لأي شركة نموذجية في تعيين أفضل المواهب وأذكاها بعد اقتناصها من جامعات مرموقة؛ لكن في وجود معدلات نمو المواهب الكبيرة، باعتبار تلك المعدلات مقياساً معيارياً، ما مدى اتساع قاعدة المواهب في شركات اليوم، وما هو احتمال ضعفها؟

علاوة على ذلك، توسعت الخدمات الرئيسية للعديد من الشركات لتشمل مجالات التسليم والتنفيذ والتطبيق، إضافة إلى التحليلات المحوسبة الرقمية والتصميم الرقمي. وبالتالي، أدى توسيع قاعدة المواهب والخدمات وتمديدها إلى حرب على المواهب، وليس إلى “حرب استقطاب المواهب” (‘The War for Talent’) وهو عنوان كتاب نشرته شركة “ماكنزي” عام 1997.

لا يؤدي إضعاف قاعدة المواهب في القطاع إلى عواقب خطِرة مقارنة بخطورة تقديم استشاري إداري، بحكم منصبه، مشورة استراتيجية غير مجدية يجري تطبيقها والإعلان عنها. يقول مثل شرق أوسطي: “عدو عاقل خير من صديق جاهل”. وفي فن الاستشارات الاستراتيجية أيضاً، يُعتبر الزميل الجاهل، أو الأسوأ من ذلك حتى، الاستشاري الجاهل، أكثر خطورة من المنافس الذكي.

وإليكم إذاً مختصراً بسيطاً لفن الاستشارات الاستراتيجية من منظور كلاسيكي. أولاً، صُممت شركات الاستشارات الاستراتيجية لتحسين الأداء وإضافة قيمة أو حل مشكلة أو أزمة ما أو المساعدة على طرح شيء جديد ومبتكر بمبادرة.

ثانياً، لا يمكن ضمن القدرات المؤسسية تحقيق حكم رشيد دون وجود استراتيجية؛ ولا يمكن وضع استراتيجية جيدة دون ذكاء استراتيجي؛ ولا يمكن تحقيق تواصل استراتيجي دون وضع استراتيجية تواصل.

ثالثاً، لكي يكون العميل ناجحاً، يجب أن يُنظر إليه على أنه شخص ناجح، ولن تتحقق تلك النظرة إلا إذا كانت مبنية على إنجازات وحقائق سليمة، وهي عادة ما تكون مستندة إلى مزيج من أفضل الممارسات الدولية والأهمية الوطنية والمحلية. وبالتالي، في حال التساؤل عن هوية الاستشاري الاستراتيجي اليوم وفي المستقبل، فسننتقل بالإجابة من الإدارة إلى الحوكمة، ومن الاستراتيجية إلى الذكاء الاستراتيجي، ومن التواصل إلى التأثير.

وفي هذا الصدد، يبرز الابتكار المزعزع للأستاذ كريستنسن إلى الواجهة. فعلى الرغم من أن عصرنا يتسارع نحو الرقمنة، فهو يتجاهل إدراك أن الفائزين الحقيقيين في فن الاستشارات الاستراتيجية هم في الواقع أولئك الذين ينجحون في المواءمة بين العالم الرقمي والعالم المادي.

ماذا يعني ذلك؟ المواءمة بين العالم الرقمي والمادي هي القدرة على الانتقال بسلاسة من وضع الاتصال بالإنترنت وبالعالم الرقمي إلى الوجود في العالم المادي، والحفاظ على اتصال بشري وطبيعي. قال الاستشاري الإداري الشهير بيتر دراكر ذات مرة إدراكاً منه بهيمنة الحوكمة على النظرة الاستشرافية: “الثقافة تلتهم الاستراتيجية على الإفطار”، وكذلك في فن الاستشارات الاستراتيجية اليوم، كما هو الحال في الأمس، تسود المعرفة والحكمة والحكم الرشيد المستند إلى المبادئ الأولى على التكنولوجيا.

وبالتالي، سيكون لدى أولئك القادرين على الانتقال بين قطبي الرفاهة هذين فرصة الاستفادة من قدراتهم الخاصة التي يمكن أن تساعدهم وتساعد عملاءهم والمجتمع ككل على تحقيق قفزات نوعية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .