ينعكس التطور التكنولوجي المتسارع مباشرة على قطاع الاتصالات. وفي ظل عالم رقمي معقد وسوق شديدة التنافسية، لم تعُد مهمة شركات الاتصالات مقتصرة على توفير البنية التحتية وخدمات الإنترنت، بل تحتاج أيضاً إلى لغة تواصل سهلة خالية من العراقيل والصعوبات للوصول إلى المستهلكين ومواكبة متطلباتهم المتنامية، وهنا يأتي دور خبراء السلوك ووحدات الترغيب في نشر أفضل الممارسات في هذا المجال.
يتطلع المستهلكون للحصول على تجارب رقمية سلسة ومتعددة القنوات، ومن خلال الرؤى السلوكية والتحليلات المستندة إلى البيانات، يمكن لشركات الاتصالات توقع احتياجات المستهلكين وتقديم حلول مخصصة ومعالجة المشكلات قبل أن تتفاقم.
الرؤى السلوكية هي مجموعة المعارف المستمدة من الأبحاث المتعددة التخصصات في مجالات العلوم السلوكية مثل الاقتصاد وعلم النفس وعلم الأعصاب، وهي تقود إلى فهم علمي قائم على الأدلة لأسباب تبنّي الناس سلوكيات معينة، وتحديداً فهم أسباب تعارض سلوكياتهم مع مصلحتهم الشخصية ومصلحة المجتمع، والأهم من ذلك، كيفية جعل سلوك المستهلكين والمواطنين يتماشى مع أهداف وضرورات محددة.
يُعد مفهوم الترغيب (Nudging) أحد التطبيقات العملية العديدة للرؤى السلوكية، وقد روّج له ريتشارد ثالر وكاس سانستين في كتابهما الأكثر مبيعاً "الترغيب: تحسين القرارات بشأن الصحة والثروة والسعادة" (Nudge: Improving decisions about health, wealth, and happiness)، وقد تعزز هذا الابتكار على نحو كبير بعد أن حصل المشارك في وضع نظرية الترغيب، ريتشارد ثالر، على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لإسهاماته الكبيرة في مجال الاقتصاد السلوكي. ونتيجة لذلك، يبرز الترغيب والتدخلات السلوكية الأخرى بوصفها أدوات فعالة من حيث التكلفة لتحديد التغيير السلوكي المرغوب بناءً على المعلومات وإحداثه في الأوساط المؤسسية وأوساط السياسة العامة.
أُنشئ أكثر من 200 وحدة ترغيب وعلوم سلوكية حكومية منذ إنشاء رئيس وزراء المملكة المتحدة، ديفيد كاميرون، وحدته في مقر إقامته الشهير بالمبنى رقم 10 في شارع داونينغ، وإنشاء الرئيس الأميركي باراك أوباما وحدته في البيت الأبيض. يعمل العديد من هذه الوحدات في الوقت الحاضر على مستويات لا مركزية في مجال الماليات العامة والشمول وريادة الأعمال والاستدامة والصحة والتعليم، وصولاً إلى الامتثال وسيادة القانون ومكافحة الفساد والاحتيال.
يستخدم مشغّلو الاتصالات تحليلات البيانات لفهم سلوكيات المستهلكين وتفضيلاتهم بصورة أفضل، وعليهم بدورهم أن يهتموا بترسيخ قدرات العلوم السلوكية رسمياً وإنشاء فرق أو وحدات مخصصة للاستفادة من رؤى العلوم السلوكية في هذا المجال على نحو أفضل.
تستخدم وحدات الترغيب عادة منهج العلوم السلوكية أولاً لتحليل التحدي بدقة والإحاطة بالتحيزات والظواهر النفسية الأخرى التي تدفع الناس للإقدام على فعل أو الامتناع عنه، بما يتعارض في كثير من الأحيان مع مصلحتهم ومصلحة المجتمع. من أهم هذه التحيزات التي نواجهها في حياتنا اليومية، التحيز التأكيدي، أو الميل إلى تفضيل المعلومات التي تؤكد معتقداتنا، والتحيز الى الحاضر، أو الميل إلى تفضيل منافع آنية بدلاً من الانتظار لمكافأة مستقبلية أكبر، والمغالطة في التخطيط، أو الميل إلى تقدير كمية الوقت والتكاليف والمخاطر (على سبيل المثال، تلك المتعلقة بالمشاريع المستقبلية) أقل مما هي عليه في الواقع، وعقلية القطيع، أو الميل إلى اتخاذ القرارات استناداً إلى ما يفعله الآخرون، والثقة المفرطة، أو الميل إلى تقديرنا لقدراتنا ومهاراتنا تقديراً مبالغاً فيه، والنفور من الخسارة، أو الميل إلى الشعور بالخسارة الفعلية أو المحتملة على أنها أكثر شدة نفسية أو عاطفية من الربح الموازي.
ثانياً، عندما تفهم هذه الوحدات الأسباب السلوكية للتحديات التي تواجهها بهذه الصورة المتعمقة ستتمكن من تصميم تدخلات سلوكية تشمل أدوات الترغيب من أجل التصدي لبعض القيود التي تمنع الناس من تحقيق أهدافهم. ومن الأمثلة على أدوات الترغيب، إبلاغ الآخرين بالأعراف الاجتماعية السائدة في سلوك معين، أو استعمال الوضع التلقائي لتسهيل اتخاذ قرار محدد.
الخطوة الأخيرة في منهج العلوم السلوكية هي تحديد الحلول الناجحة تحديداً علمياً من خلال الاختبار، لا بناءً على الظن. ولا شك في أن وعي صانعي القرار حول هذه التحيزات وأثرها على قراراتنا هو خطوة أساسية نحو التخفيف من وطأتها.
مثل أي مؤسسة، يمكن لشركات الاتصالات استخدام الرؤى السلوكية في المجالات ذات العلاقة بإدارة الموارد البشرية والتخطيط لتحسين الانتاجية أو تسهيل متابعة مؤشرات الأداء، أو تفعيل مشاركة الموظفين في التعلم والتدريب وغير ذلك، كما يمكن لشركات الاتصالات استخدام الرؤى السلوكية لتدعيم جدول أعمالها التجاري، مثل تحسين نسبة الدفع في الوقت المطلوب أو زيادة البيع المتقاطع (العابر)، أو تحسين معدل اشتراك العملاء في البرامج والأدوات الرقمية أو ببساطة تعزيز مشاركة العملاء والحفاظ على ولائهم في مواجهة المنافسة.
على سبيل المثال، استُخدم النجاح المبكر الذي حققته العلوم السلوكية لتحسين دفع الضرائب وفواتير الخدمات في الوقت المناسب. وفي الأسواق ذات القدرات المحدودة في إعداد الفواتير المباشرة وتفعيل الدفع التلقائي للفواتير (أدوات الترغيب الافتراضية)، تُستخدم طريقة فعالة تسمى أدوات الترغيب المستندة إلى المعايير الاجتماعية؛ أي إعلام العميل بعدد العملاء الذين سددوا المستحقات المترتبة عليهم حقاً وأنه واحد من القلائل الذين لم يفعلوا ذلك بعد.
علاوة على ذلك، يعمل مشغّلو الاتصالات في بيئات غنية بالبيانات وتستخدم التكنولوجيا على نطاق واسع، الأمر الذي يمكنهم اغتنامه لتسهيل اندماجهم مع نهج العلوم السلوكية بثلاث طرق ملموسة على الأقل:
- أولاً، لديهم بيانات توفر رؤية أشمل وأدق لسلوكيات المستهلك، ما يسمح بتحديد الأنماط والارتباطات والرؤى التي لا تظهر على الفور باستخدام مجموعات بيانات أصغر وأساليب تقليدية.
- ثانياً، تفيد البيانات الغنية المتوافرة في تخصيص التدخلات السلوكية لشرائح مختلفة من الأفراد.
- ثالثاً، يوفر هذا إمكانية الوصول الفوري إلى عيّنة بحجم أكبر لاختبار الحلول وتحديد ما ينجح منها، الأمر الذي يسمح باتخاذ قرارات قائمة على الأدلة والحصول على ملاحظات فورية عن السلوكيات والحلول المناسبة وغير المناسبة.
بالإضافة إلى قدرة شركات الاتصالات على دعم جداول أعمالها التجارية، فهي بمساعدة هذه البيئة الغنية بالبيانات تتمتع بفرصة فريدة لتعزيز الأثر الاجتماعي وإحداث تغيير إيجابي في مجموعة متنوعة من القطاعات والمجتمعات حول العالم، على سبيل المثال:
- تعزيز السلوكيات الصحية، وذلك باستخدام أدوات الترغيب في نشر رسائل تعزيز الصحة الموجهة والشخصية لتشجيع السلوكيات الإيجابية، مثل تلقي التطعيم واتباع خيارات نمط الحياة الصحي من خلال الأدوات السلوكية مثل رسائل التذكير وأجهزة تعزيز الالتزام والخيارات النشطة والخيارات الافتراضية، وما إلى ذلك.
- تمكين الأفراد من الوصول إلى الموارد التعليمية الرقمية وفرص التعلم عن بُعد.
- تعزيز الاستدامة البيئية وتشجيع العملاء على اتخاذ خيارات تقلل البصمة البيئية من خلال الخيارات الأسهل (مثل إعادة تدوير النفايات الإلكترونية بطريقة أسهل) والخيارات الافتراضية، بالإضافة إلى التخصيص.
- السماح للفئات المحرومة بالوصول إلى الخدمات المالية باستخدام الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول ومنصات الدفع الرقمية، من خلال تصميم واجهات سهلة الاستخدام تعمل على تعزيز سلوك الادخار والثقافة المالية، وتشجيع اتخاذ القرارات المالية المسؤولة.
- توفير منصات للمواطنين للوصول إلى المعلومات والتعبير عن آرائهم والمشاركة في عمليات صنع القرار والإبلاغ عن الفساد، وتعزيز الشفافية والمساءلة في الحكم، ومن ثم تعزيز مشاركة المواطنين في العديد من القضايا الاجتماعية.
أصبح قطاع الاتصالات جزءاً لا يتجزأ من المجتمع المعاصر، إذ يربط الأفراد والشركات حول العالم، ومع استمرار تقدم التكنولوجيا تتزايد أيضاً فرص الاستفادة من الرؤى السلوكية وأدوات الترغيب لتعزيز تجارب العملاء ونتائجها، لكن هذه الفرص العظيمة تترافق أيضاً باحتمال إساءة الاستخدام. وفي هذا الصدد، ثمة 4 اعتبارات رئيسية على مشغّلي الاتصالات معرفتها لضمان استخدام العلوم السلوكية مع العملاء بطريقة أشمل تراعي المسؤولية الاجتماعية.
أولاً، الاستخدام الأخلاقي للبيانات ودعم أفضل مدونات قواعد السلوك عند استخدام أدوات العلوم السلوكية. يحمل قطاع الاتصالات مسؤولية أداء دور رئيسي في الاستخدام المسؤول للبيانات، فكثير من العملاء لا يدركون حجم البيانات التي يستخدمونها وقد يتجاوزون الحجم المحدد لهم، ما يؤدي إلى فرض رسوم إضافية عليهم، ومن خلال استخدام أدوات الترغيب، تشجع شركات الاتصالات العملاء على استخدام البيانات بطريقة مسؤولة وتجنب الرسوم الإضافية. أحد الأمثلة على طرق ترغيب العملاء بالاستخدام المسؤول للبيانات هو تزويدهم بالملاحظات الفورية، فعند إعلام العملاء بحجم البيانات التي استخدموها وكم تبقّى لديهم، سيعدّلون سلوكهم غالباً لتجنب الرسوم الإضافية، وباستخدام التوجيهات الفورية ورسائل التذكير، من المرجح أن يبقى استخدام العملاء للبيانات ضمن الحجم المحدد لهم.
ثانياً، هناك أمر لا يقل أهمية وهو الالتزام بالتفاعلات السلِسَة الخالية من العرقلة (Sludge) مع المستهلكين. يوضح سنستين أن العرقلة هي كل ما يمنعنا من إنجاز أمورنا، وهي على وجه الخصوص تلك المعاملات الورقية الإضافية والخطوات غير الضرورية التي يُلزم المستهلك بتنفيذها مثلاً قبل إلغاء اشتراكه في إحدى الخدمات التي يتطلب إلغاؤها توقيعاً أصلياً أو إرسال فاكس أو غير ذلك، وتشمل هذه الخدمات رسائل البريد الإلكتروني التي لم يرد عليها، وتحويل المكالمات بصورة متكررة إلى أقسام مختلفة وتمديد أوقات الانتظار. وعلى هذا النحو يُعد كل من تبسيط العمليات وتقليل العرقلة في نهاية المطاف ممارسة مهمة على وجه الخصوص لمشغّلي الاتصالات.
يمكن لمشغّلي الاتصالات تأدية دور رئيسي في مكافحة الأخبار المزيفة. يستخدم الكثير من عمليات الاحتيال المالي قنوات الاتصالات مثل المكالمات الهاتفية والرسائل النصية القصيرة، لذا فقد أصبح من المهم الاستفادة من الأدبيات التي تناولت تحصين المستهلكين نفسياً ضد الأخبار المزيفة، إضافة إلى التواصل القائم على العلوم السلوكية لتوعيتهم بعمليات الاحتيال، خاصة مع استمرار تطورها بفعل أدوات الذكاء الاصطناعي.