أصبح التوظيف في ظل اقتصاد المعرفة مهمة في غاية الصعوبة، حيث أنّ عملية جذب واستقطاب أصحاب القدرات والمهارات العالية قد أضحت عملية تنافسية كبيرة، بل ويعتبرها الموظِفون أحد أكبر التحديات التي تواجه الشركات عالمياً. وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أنّ الشركات التي توظف أفضل المواهب في العالم هي شركات تملك علاقات شراكة قوية مع الجامعات التي تضع نجاح الطالب على رأس أولوياتها.
تؤمن نسبة تفوق 30% من ممثلي القطاع الخاص في العالم العربي بأنّ ضعف مهارات الخريجين هو السبب الرئيسي في عرقلة النمو بحسب تقرير أعدته مؤسسة التمويل الدولية بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية، في حين لا تزال العديد من الجامعات ممتنعة عن تحمل مسؤوليتها والقيام بدورها في تأهيل الطلبة وتزويدهم بالمهارات المهنية التي يحتاجونها، ولهذا فنحن لا نستغرب من حداثة نشأة التعاون بين التعليم العالي والقطاع الخاص في المنطقة، حيث أنّ هذا التعاون يقتصر في العادة على الفعاليات والرعايات قصيرة المدى.
إنّ دور الجامعات الأول والأهم هو بالتأكيد إعداد الشباب لمعرفة كيفية التعلم وطرق صقل المهارات التي يحتاجونها ليتمكنوا من تجديد قدراتهم وإمكانياتهم باستمرار، والاستعداد لمستقبل مهني قد لا نفهمه فهماً كلياً في الوقت الحالي، ولكننا نعلم بأنه سيضم مهناً في غاية الاختلاف عن المهن المتوفرة في وقتنا الحاضر، إلا أنّ هذا لا يعني ألا تقوم الجامعات بالاستثمار في نجاح الطالب، وفي دعمه للحصول على فرصة عمله الأولى على وجه الخصوص.
أوضحت النتائج التي تم الحصول عليها في استبيان إقليمي حديث أجرته مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم بأنّ الطلبة العرب يتوقعون من جامعاتهم أكثر بكثير من مجرد التأهيل الأكاديمي، إذ أنّ أكثر من 90% من بين 3,000 طالب من أكثر من 19 دولة عربية تم استجوابهم، قد صرحوا بأنّ الإعداد لمهنهم المستقبلية هو أهم المخرجات التي يتوقعون الحصول عليها من خلال تعليمهم الأكاديمي. وهذه النتائج هي نتائج مبشرة جداً، إذ تعكس وعياً كبيراً بين الطلبة حول ما يحتاجونه، وبأنهم يملكون توقعات كبيرة من جامعاتهم، هذا من جهة، ولكن من جهة أخرى، فإنّ بعض نتائج هذا الاستبيان تشكل مصدر قلق كبير، حيث أنّ ثلثي الطلاب قد صرحوا بأنهم لا يملكون معلومات كافية عن الجامعات ولا عن المهن الموجودة، وبأنهم لا يحصلون على الإرشاد وفرص الخبرة العملية التي يحتاجونها. وكل هذه الأمور هي في غاية الأهمية وأساسية لعملية انتقالهم لسوق العمل. ولحل هذه المشكلة، يجب على قطاع التعليم العالي والقطاع الخاص في العالم العربي أن يوحدوا جهودهم ويعملوا معا يداً بيد. توجد ثلاثة مجالات تدخل رئيسية تتيح فرص التعاون مع القطاع الخاص من أجل تحسين مدى استعداد الشباب العربي للنجاح في ظل اقتصاد المعرفة الذي نعيشه:
1- توفير معلومات جامعية ومهنية
يُعتبر القطاع الخاص المصدر الأفضل لتزويد الطلبة بالمعلومات المهنية والخبرة العملية التي يرغبون بها، وفي المقابل، فإنّ الطلبة الذين يملكون المعلومات المتعلقة بمهنهم المستقبلية خلال سنتهم الجامعية الأولى، (ومن المستحسن منذ دراستهم الثانوية)، يستطيعون اختيار توجهاتهم الدراسية والمهنية بصورة مدروسة قبل أن يستثمروا مبالغ مالية كبيرة ويكرسوا وقتهم لنيل شهادات جامعية قد لا تساعدهم في الحصول على النتائج والمخرجات التي كانوا يرجونها. وعلى سبيل المثال، تشير المعطيات إلى أنّ هناك فائضاً كبيراً في عدد الخريجين العرب من تخصصات العلوم الإنسانية، إذ أنّ ما يقارب الـ60% من طلبة المدارس الثانوية في أكثر من نصف العالم العربي يختارون متابعة دراستهم في تخصصات العلوم الإنسانية. بالنسبة للجامعات، فإنّ متابعة هذه المعلومات والاستجابة لها سيرفع من جهوزية الطلبة واستعدادهم لسوق العمل وذلك من خلال التخفيف من حدة الانتقال المفاجئ بين المرحلتين. أما بالنسبة للشركات، فإنّ المعطيات التي تصلهم حول الطلبة المهتمين بالعمل لديهم ستساعدهم في جعل متطلبات العمل والفرص التي يتيحونها أكثر وضوحاً.
تُنظم بعض الجامعات في المنطقة معارض عمل ولكنها لا تزال محدودة في العدد والجودة، إذ أنّ طلبة اليوم يرغبون في الحصول على آخر المعلومات والمستجدات إلكترونياً وبطريقة أسهل وأكثر تفاعلية.
2- توفير الإرشاد المهني
لعل أبرز وأهم معلومة تم الحصول عليها من خلال الاستبيان هي نقص الإرشاد الوظيفي في المدارس الثانوية والجامعات العربية، فقد أكد ما يزيد عن ثلثي الطلبة المستجوبين عدم وجود مرشد في مدارسهم ويُرجح بأن يكون هذا العامل السبب في شعور الطلبة بعدم استعدادهم للالتحاق بالجامعات وسوق العمل، حيث أكد ما يقارب نصف الطلاب الذين تم استجوابهم بأنهم لم يحصلوا على المساعدة الكافية للالتحاق بالجامعة. فأغلب هؤلاء الطلبة يعتمدون على أولياء أمورهم وعائلاتهم لمساعدتهم في اتخاذ أهم القرارات المصيرية في حياتهم. على المستوى الجامعي، يمكن أن يكون المرشد الوظيفي مصدراً في غاية الأهمية، ليس فقط بالنسبة للطلبة، ولكن أيضاً بالنسبة للمؤسسات التي تُوظف أصحاب الكفاءات والمواهب. إنّ الحرص على توفير مرشد وظيفي مدرب في كل المدارس الثانوية والجامعات لن يساهم فقط في حل مشكلة المنطقة في عدم تكافؤ المهارات، ولكنه سيساهم أيضاً في التأكد بأنّ شبابنا أصبح مؤهلاً تأهيلاً تاماً لمهنه المستقبلية.
3- التعاون لتوفير الخبرة المهنية
إنّ أكثر من 90% من الذين تم استجوابهم يؤمنون بأن القيام بتدريب مهني كجزء من تعليمهم الجامعي هو أمر في غاية الأهمية، ما يحسب لصالحهم ويُحتم على كل من الجامعات والموظفين أن يعتبروا هذه النقطة حافزاً للتعاون في ما بينهم لخلق الفرص التدريبية الكافية. ولضمان تحقيق ذلك، لا بدّ من أن تتضافر الجهود وأن تكون الأهداف المشتركة بينهم واضحة وأن تتوفر آليات الحصول على الآراء وردود الفعل الكفيلة بالتأكد من حصول الطلبة على الخبرة القيمة، وأنّ الموظفين يستفيدون من خبرة الطلاب المهنية، إذ أنّ أفضل النتائج التي تسفر عنها تجربة العمل غالباً ما تكون مدمجة في المناهج الدراسية، وتكون ممولة تمويلاً جيداً ولفصل دراسي واحد أو أكثر.
بعض أنجح أشكال التعاون بين التعليم العالي والقطاع الخاص تكون في شكل برامج التعليم التعاوني (Coops) أو برامج دراسية مزدوجة يدرس فيها الطالب مدة فصل دراسي واحد ويعمل خلال الفصل الدراسي الآخر مثل النظام الذي تعمل به جامعة ووترلو الكندية التي تملك نظاماً مزدوجاً قوياً يُسهِم بشكل أساسي في نسب توظيفهم المذهلة (99.7% يُوظفون حال تخرجهم). إنّ نموذج العمل مع الدراسة لم يتم تطبيقه بعد في العالم العربي، ولكن نسبة الاهتمام التي حظي بها لدى عرضه في أحد اللقاءات الخاصة بالمؤسسة في دبي التي تم عقدها مؤخراً بمشاركة إحدى أهم الجامعات وأكبر الشركات في المنطقة هو أمر يدعو للتفاؤل.
تؤكد كل هذه الحقائق المذكورة ضرورة وجود فرص للتعاون بين القطاع الخاص والجامعات التي تستثمر في نجاح الطلبة ويشمل هذا الاستثمار توفير معلومات مهنية وتقديم الإرشاد والخبرة المهنية.
إنّ دعم القطاع الخاص من شأنه أن يجعل جهود الجامعة أكثر ارتباطاً بسوق العمل ويساعدها في تطوير آليات التمويل بسرعة وبشكل أكثر استدامة.
كما أنّ الوقت الحالي هو الوقت المثالي للجامعات لتقييم مدى استعداد الطلبة لسوق العمل، بداية بمشاركة مؤشرات نجاح طلابهم مع الجهات المعنية، وخاصة تلك المتعلقة بإمكانية توظيف خريجيها. ففي قائمة العام 2018، لم تصل سوى جامعة واحدة فقط في المنطقة العربية إلى المراتب الـ100 الأولى ضمن ترتيب توظيف الجامعيين، وذلك ضمن تصنيف كيو اس للتوظيف الجامعي (QS Graduate Employability Rankings).
إنّ فوائد التعاون بين الجامعات والقطاع الخاص تتعدى مجرد التأثير الحاسم قصير الأجل الذي يمكن أن يتركه في حياة الشباب العرب، حيث يمكن أن يعم تأثير هذا التعاون ليشمل المنطقة كلها على مدى العقود المقبلة، شريطة أن تتم متابعة هذه الجهود بشكل جدي.