“شخصنة” التعليم بمساعدة لغة البيانات وذراع التكنولوجيا

6 دقائق
شخصنة التعليم

إليك هذا المقال الذي يتحدث عن شخصنة التعليم تحديداً. تتجه الدراسات الحديثة لتأكيد أهمية "الشخصنة" أو ما يسمى في الإنجليزية (personalization) كعامل أساسي في نجاح أي علاج لمشكلة أو مرض أو إحراز هدف معين. فالشخصنة اليوم هي ثمرة "البيانات" التي هي لغة العصر التقني ولغة الذكاء الاصطناعي. وهي لن تتوقف عند "شخصنة" الدواء المناسب لكل فرد، ولا عند "شخصنة" الحلول التقنية والاستشارية لما يناسب كل فرد أو شركة أو نظام برمجي، وليست فقط "شخصنة" للإعلانات والقنوات الإعلامية بما يناسب كل فرد أو عائلة، بل تصل إلى تخصيص النظام الذي يؤسس لخارطة طريق تقود البشر نحو توجهاتهم المستقبلية، وأقصد هنا نظام "التعليم". إذ يشهد الواقع المعرفي والعملي في عصرنا الحالي طفرة تُؤسس لمرحلة جديدة في أساليب وطرق العمل من حيث التركيز على المهارات التي ينبغي تطويرها مع إمكانية التفاعل الفوري بين طرفي العملية التطويرية، وإمكانية تبادل الأفكار والحلول والخبرات بشكل فوري بين مختلف الأطراف والمراكز البحثية في مختلف أنحاء العالم.

إلا أنّ نظرة متعمقة لواقع التعليم العالمي، ووفقاً لتقرير غلوبال سيتيزن (Global Citizen) فإنّ حوالي 59 مليون طفل محروم من التعليم ممن هم في مرحلة التعليم الابتدائي، وما يقارب 65 مليون من المراهقين غير قادرين على الالتحاق بالمدارس. ويشير التقرير إلى أنّ واحداً من كل ثلاثة بلدان يتم فيه تدريب أقل من ثلاثة أرباع المعلمين على المعايير الوطنية المناسبة، ما يؤدي إلى وجود 130 مليون طفل في المدارس ممن لا يتعلمون الأساسيات البحتة، ما يشكل سبباً جوهرياً في فقدان مساهمة الكثير من الأدمغة المبتكرة والذكية في إغناء حركة الحضارة الإنسانية ودفعها قدماً نحو آفاق جديدة.

بالإضافة إلى ذلك، وعلى مستوى أكثر أهمية، لا يخفى اليوم على الملاحظ المتمرس في شؤون التعليم ما يشوب القطاع من تشتت منهجي على مستوى العالم، ما ينتج عنه انفصال معرفي وغياب للتفاعل بين الطرف الأساسي في العملية التعليمية، ألا وهو الطالب نفسه، وبين المنظومة التعليمية المتجزئة من مدرسين ومؤسسة تعليمية ومناهج، لا بل حتى على مستوى علاقة أولياء الأمور بالمنظومة بالكامل.

شخصنة التعليم اليوم

نشهد اليوم دخول جيل الألفية الجديدة مرحلة التعليم الجامعي، وقريباً سنشهد دخولهم سوق العمل، الأمر الذي يفرض علينا اعتماد حلول منطقية عملية ومدروسة قادرة على تزويد هذا الجيل بالقدرات والمهارات التي يحتاجها، وذلك لضمان المنافسة على فرص العمل مستقبلاً، وإثبات جدارته في الاستفادة من حلول التكنولوجيا لاتخاذ القرارات الصائبة في ظل المعطيات الكثيرة والكم الهائل من البيانات والمعلومات التي تنبثق وتظهر من كل حدب وصوب.

وفي ظل بروز معطيات ومفاهيم جديدة تتمثل في الذكاء الاصطناعي والمدن الذكية، وإنترنت الأشياء، والتواصل بين الآلات، وصولاً إلى عصر الطفرة الصناعية والذكاء الاصطناعي، بات من الطبيعي القول اليوم أنّ طفرة مماثلة في قطاع التعليم تجمع بين كافة هذه العناصر أصبحت ضرورة ملحة لتمكين القطاع من مواكبة التطورات الهائلة التي تشهدها بقية القطاعات الحيوية، والتي لا يظهر التعليم فيها تقدماً بنفس الخطى الحثيثة.

استحضار المعلومة

لا يخفى على أحد اليوم أنّ المناهج التعليمية، التي تُدرّس للأجيال، قائمة على تزويد الطلاب بالمعلومات. وعلى الرغم من أهمية عملية الحفظ، إلا أنها يجب أن تقترن بأساليب وطرق حديثة أكثر تفاعلية تساعد الطالب على استحضار المعلومة وقت الحاجة، ثم استخدامها لتنمية وتوسيع آفاق معارفه ومدركاته. ونعي جميعاً أنّ كمية وحجم المعلومات التي يمكن حفظها تختلف من طالب لآخر، لذلك يجب العمل على تنمية مجموعة من المهارات التي تناسب احتياجات المرحلة الراهنة مثل العمل الجماعي، البحث والاستنتاج، وتمكين الطلاب من تطوير حلول مبتكرة للتحديات في مختلف مناطق العالم. من جانب آخر، أعتقد أنّ المحتوى التعليمي في حد ذاته، (وذلك على مستوى العالم) يشكو من ثغرة كبيرة لا ترتقي إلى مستوى الوعي المعرفي والإدراكي والحسي للطالب، ولا تسمح المنظومة القائمة حالياً للطالب أو المدرس أو ولي الأمر بتبادل أو اختيار المحتوى التعليمي في سبيل الوقوف على النقائص وتحسينها وإدخال تعديلات وإرساء خطط لتعزيز أداء الطالب، حيث لا يتأثر تفاعله مع المحتوى والمدرسة والمحيط الاجتماعي على حد سواء.

وهنا يمكنني عرض تجربة ولادة نظام "ألف للتعليم"، والذي صممناه من خبرات اجتمعت في الإمارات العربية المتحدة، حيث شارك فريق من 300 خبير عالمي في التكنولوجيا والمحتوى على تطوير منصة تعتمد على البيانات الفورية، بما يناسب جميع المناهج وأساليب التعليم المتطورة، ويكون في الوقت ذاته مخصصاً ومناسباً لكل طالب على حدة. ويتم ذلك عبر تقديم حلول تعليمية تكنولوجية تهدف لتحسين مخرجات التعلّم داخل الفصول الدراسية لدى طلاب المرحلة الابتدائية وما قبل الجامعية، وفق رؤية متطورة قائمة على تعزيز الفضول، ومبنية على حب الاستطلاع والاكتشاف الذي هو أساس لكل الأطفال في العملية التعليمية، وعلى مواجهة العديد من التحديات التي تعترض العملية التعليمية اليوم، حيث عملنا على إيجاد حلول عملية من خلال تكنولوجيا واجهة المستخدم، وأنظمة تجربة المستخدم التفاعلية التي تتميز بها وسائل الإعلام والتواصل، بهدف تشكيل تفكير الطلاب وتوسيع خياراتهم فيما يتعلق بالمحتوى المقدم لهم. ومع ذلك، لا تنفك النظم التعليمية السائدة تتوقع من الطلاب (عندما يكونون في بيئة الفصل الدراسي) أن يعتمدوا في تعلّمهم على الكتب المدرسية التقليدية وعلى محتوى تدريسي موحد. وهذا ما عملنا على تجاوزه عبر نظام "ألف للتعليم"، إذ قمنا بتقسيم المفاهيم الأكاديمية النظرية إلى أجزاء من المحتوى التعليمي التفاعلي، بحيث يمكن للطلاب التفاعل معه حسب قدراتهم الخاصة، كما قمنا بتعزيز المحتوى من خلال مجموعة من الأسئلة التي تتحقق بشكل فوري من فهم الطالب للمادة التعليمية بعد تعريفه بها. إضافة إلى تصميم المحتوى لتقديم المفاهيم الأكاديمية بطرق متعددة، بما في ذلك الصور، ومقاطع الفيديو، والعناصر التفاعلية.

حقائب التعلّم التجريبي

وفي ناحية أخرى من نواحي الحلول التي عملنا على توفيرها عبر "ألف للتعليم"، كان هناك العمل على إيجاد حل لتحد إضافي، وهو أنّ معظم النظم التعليمية السائدة تفتقر إلى موارد منظمة وهيكلية للتعلم التجريبي واستراتيجيات تدريس لدعم البيئة الصفية للتعلم، بالتالي، صممت "ألف للتعليم" حقائب التعلم التجريبي لمواد العلوم والرياضيات واللغتين العربية والإنجليزية، حيث يتولى الطلاب القيام بالتجارب التطبيقية أو ممارسة الألعاب التعليمية للتعرف على المفاهيم الأكاديمية بشكل أكثر عمقاً.

مما لا ريب فيه أنّ طلاب اليوم يواجهون مشكلة في إتقان مادتي الرياضيات والعلوم إذا ما تم تدريسهما باللغة الإنجليزية وليس بلغتهم الأصلية، لذلك عملنا وبعد دراسات عملية على توفير دلائل وإشارات باللغة الأم للكلمات المعقدة باللغة الإنجليزية في دروس مادتي الرياضيات والعلوم. بالإضافة إلى ذلك، تم إعداد محتوى مادتي الرياضيات والعلوم باستخدام آلية "ليكسايل" (lexile) المخصصة لقياس قدرات ومستويات القراءة باللغة الإنجليزية، وهي الآلية الأنسب لهذه المجموعة من المتعلمين. ومن شأن هذه الخاصية أن تضمن عدم مواجهة الطلاب لمشاكل في فهم المواد الدراسية بسبب قدراتهم اللغوية. وتشمل جميع الدروس بنك مفردات يتضمن الكلمات والمصطلحات الخاصة بهذه الدروس.

وفيما يتعلق بتشخيص نتائج الطلاب وتقييمهم العام، تم استحداث نظام معتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والتحليل التنبؤي للوصول لنتائج أكثر دقة، والتي تكشف عن تقييم مدارك الطالب واهتماماته وتشكل خارطة طريق مستقبلية لتوجهاته.

توسع التطبيق

صمم هذا النظام التعليمي ليكون قابلاً للتطبيق على مستوى عالمي ولكل طالب مهما اختلفت قدراته، وقد بدأت المرحلة التطبيقية الأولى منه عبر مجموعة مدارس في الإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، حيث تبنت وزارة التربية والتعليم الإماراتية نظام "ألف للتعليم"، وبدأت بتطبيقه في عدد المدارس والتي ستصل خلال العام الدراسي المقبل إلى 10 مدارس في أبوظبي لتُغطّي بذلك ما يزيد عن 6 آلاف طالب وطالبة في الصفوف الدراسية (6 و7 و8)، حيث خضع "نظام ألف" التعليمي في وقت سابق للتجريب عبر تطبيقه في مدرسة "الأصايل" ضمن مدينة أبوظبي خلال العام الدراسي 2017-2018. وأظهرت النتائج زيادة ملحوظة في معدلات مشاركة الطلبة في العملية التعليمية وتفاعلهم معها، فضلاً عن تحسّن ملحوظ في نتائج التعلم، وهو ما دفع الوزارة إلى اعتماد هذا النظام وتطبيقه على مجموعة من المدارس الحكومية.

وعلى الصعيد العالمي بالنسبة لعملية شخصنة التعليم تم توقيع اتفاقية توزيع استراتيجية مع شركة نيكس جن إديوكيشن (NexGen Education)، التي تتخذ من الولايات المتحدة الأميركية مقراً لها، تهدف لتطبيق نظام "ألف للتعليم" في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية. ومن المتوقع أن تباشر أول مدرستين تابعتين لمؤسسة هارلم للأطفال (Harlem Children’s Zone) في نيويورك تطبيق النموذج التعليمي لـ"ألف للتعليم" اعتباراً من أول أكتوبر/تشرين الأول 2018.

ويندرج نظام "ألف للتعليم" ضمن التوجه الذي أثبتته دراسة البيانات بمختلف تطبيقاتها في العالم، والتي تقوم على "تخصيص" كل احتياجات الإنسان بما يتوافق مع ظروفه وقدراته، ولذا فإنّ هذا النظام التعليمي ولد ليعمل على تلبية احتياجات كل طفل مهما كانت حالته الصحية والمادية، حيث يعتمد النظام على نموذج يدمج بين التعلم التجريبي والفردي المدعوم تكنولوجياً، بقصد تشكيل نظام تعليمي متكامل وفريد. وتوفر المصادر التعلّمية للطلاب في أي مكان وأي وقت، بما في ذلك خلال وجودهم في المنزل أو مع أولياء أمورهم، بالإضافة الى الأطفال المقيمين في الأماكن النائية التي لا تتوفر فيها جميع الأدوات التعليمية للمعلمين.

وتتيح شخصنة التعليم للطلاب أنفسهم تولي زمام تعلمهم وتنمية مهاراتهم بطرق مختلفة مثل مهارات التفكير النقدي، وحل المشاكل التكيفية، والاتصال التعاوني، والطلاقة الرقمية، والاستكشاف الاستقصائي، والإدراك المعرفي، والفضول، والتفكير الإبداعي، والتعلّم متعدد الموارد.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي