رؤى ثاقبة لسلوكيات التغذية خلال جائحة “كوفيد-19”

6 دقائق
shutterstock.com/Elena Belodedova

تسهم العوامل المؤثرة في تشكيل أساليب الحياة غير الصحية، مثل سوء التغذية، في تقليل متوسط الأعمار المتوقع في مختلف أنحاء العالم، ويُعد الإفراط في تناول الدهون والسكريات والملح أحد الأسباب الرئيسية المسببة لأمراض القلب الأيضية، كالسمنة وأمراض الأوعية الدموية وداء السكري، واستجابة لذلك يجب تشجيع الأفراد على اتباع نظام غذائي أكثر صحة من خلال التوعية الغذائية.

وفي ظل المخاطر غير المسبوقة التي يشهدها العالم بسبب جائحة "كوفيد-19"، تزداد أهمية تناول الطعام الصحي والتغذية السليمة. وقد يساعد اتباع نظام غذائي صحي في مقاومة وباء "كوفيد-19" عن طريق تقوية جهاز المناعة وتعزيز مقاومته للعدوى وتقليل مدة التعافي من المرض. علاوة على ذلك، قد تسوء الأعراض المصاحبة للأمراض المزمنة، بما في ذلك أمراض القلب الأيضية (كالسمنة، والسكري) ما يتسبب في زيادة خطر الوفاة، لاسيما وأنه قد ثبت أن معدل الوفيات الناجمة عن الإصابة بـ "كوفيد-19" بين المرضى الذين يعانون من مرض السكري بلغ 7.3% مقارنة بنسبة 0.9% بين المرضى الذين لا يعانون من الإصابة بالسكري، كما يفترض العلماء وجود علاقة بين السمنة والتأثير السلبي الزائد على مرض "كوفيد-19" على الرغم من عدم توافر إحصائيات رسمية تؤيد هذه الفرضية حتى الآن. وفي الوقت الحالي، وفي ظل إجراءات غلق المطاعم والمقاصف كاحتياطات وقائية، يتجه معظم الأفراد إلى الطهي بالمنزل ويضطرون للاعتماد على معرفتهم بأمور التغذية. ومع تزايد فترات العزلة التي يواجهها العالم اليوم، سيضطر الكثيرون لتناول الطعام بدافع التوتر. بالإضافة إلى وجود باعث آخر للتوتر وهو احتمالية تعثر الوصول للإمدادات الغذائية، ما يتسبب في نقص بعض العناصر الغذائية، سواء على مستوى الدول (حيث خفضت البلاد حجم الصادرات والواردات) أو على مستوى الأفراد (انخفاض غير متوقع في دخل الأسرة). كما تلعب محال التجزئة دوراً مهماً في تشكيل الخيارات، حيث تتأثر خيارات المستهلكين إلى حد كبير بتصميم وشكل عرض المنتجات داخل المتاجر الكبرى أو على منصات البيع بالتجزئة عبر الإنترنت.

وفي حين أن الكثيرين يدركون ضرورة وأهمية إتباعهم لنظام غذائي متوازن، إلا أن هناك تحيزات نفسية رئيسية تمنع النوايا من التبلور إلى أفعال، حيث يميل الأشخاص، على سبيل المثال، إلى ترجيح اختيار الإشباع الفوري على الفوائد المستقبلية، وبالتالي التغاضي عن الضرر طويل المدى للوجبات غير الصحية التي تمنحهم الرضا على المدى القصير. وبالمثل، قد يؤثر غياب الآراء التقويمية في قدرة الأشخاص على الالتزام بالنظم الغذائية أو خطط الوجبات إذا تراجع حماسهم. وقد تعيق الأعراف الثقافية والاجتماعية أيضاً عادات الأكل الصحية بطرق شتى. فعلى سبيل المثال، تعيب بعض الثقافات رفض أحدهم للطعام الذي يقدمه المضيف، بغض النظر عن فائدته الصحية. علاوة على ذلك، من الشائع في العديد من الثقافات تقديم كميات وفيرة من الطعام في الوجبات، ما يعيق قدرة الأفراد على التحكم في حصص الطعام. وفي ضوء هذه العقبات، تشير الجائحة الحالية إلى أهمية تعزيز وتأسيس عادات غذائية صحية من خلال عرض رؤى سلوكية منضبطة.

وقد حرص المتخصصون في مجال الصحة العامة والسلطات الحكومية منذ بداية الأزمة على التوعية بسلوكيات محددة ركزت على نظافة اليدين والممارسات الخاصة بالجهاز التنفسي والتباعد الاجتماعي والعزل الذاتي. ومع ذلك، فلا يمكن تجاهل دور التغذية والنظام الغذائي الصحي، والغرض من هذا المقال هو إلقاء بعض الضوء على كيفية تعزيز الرؤى السلوكية للممارسات الغذائية على طول سلسلة القيمة الغذائية، مع التركيز بشكل خاص على محال التجزئة والمستهلكين، وبما أن السياسات مصممة لمواجهة الجائحة، فينبغي صرف الانتباه الكامل لعواقبها غير المقصودة للحيلولة دون زيادة الاضطرابات الصحية. وتمتد عادات تناول الطعام الصحي إلى جذور سلوكية عميقة، شأنها شأن العديد من تحديات أسلوب الحياة، وبالتالي يمكننا الاستفادة من رؤى العلوم السلوكية، كما يرتبط النشاط البدني ارتباطاً وثيقاً بالتغذية، فهو ركيزة مهمة أخرى من أساليب الحياة الصحية، لاسيما خلال هذه الفترة من الاحتجاز، حيث يتعذر الوصول إلى صالات الألعاب الرياضية والأماكن العامة، وقد تؤدي هذه التغييرات في أسلوب الحياة إلى كسر الأفراد للعادات الصحية مثل ممارسة الرياضة واتباع نظام غذائي أقل جودة وتشكيل عادات جديدة تخلو من النشاط والحركة.

دور الحكومات

يمكن للسلطات الحكومية الوطنية والمحلية مساعدة الأفراد على تبني أنماط حياة أكثر صحة إبان الأزمات، ما يساعد على تحسين النتائج الصحية ويسهم في النزول بمنحنى جائحة "كوفيد-19" الحالي، وثمة دور رئيسي لواضعي السياسات يتمثل في التنويه عن السلوكيات المتعلقة بجائحة "كوفيد-19" ومخاطرها على التغذية والنظام الغذائي الصحي السليم وتوعية المستهلكين بذلك من خلال التعريف بالرؤى المستقاة من تجارب العلوم السلوكية المصممة لتلبية احتياجات الفئات المستهدفة.

وربما يصلح تطوير خريطة سلوكية نموذجية كخطوة أولى مفيدة لعرض التحديات التي نواجهها من منظور سلوكي، ولاسيما تحديد أصحاب المصلحة المعنيين والسلوكيات المستهدفة المأمولة والتحيزات السلوكية والعراقيل وكذلك نقاط التماس التي يمكن من خلالها تطبيق الرؤى السلوكية بفاعلية، كما تتطلب عملية رسم الخرائط السلوكية للسلوكيات المستهدفة وضع تصور لرحلة أصحاب المصلحة الرئيسيين المشاركين في مراحل الإنتاج والتوزيع والاستهلاك في سلسلة الإمدادات الغذائية، كما يتضمن الأمر وضع تصور لرحلة واضعي السياسات للتأكد من أنهم يتدخلون عند نقاط الدخول الصحيحة وفي الوقت المناسب بالإضافة إلى استخدام الأدوات المناسبة.

وقد سبق للحكومات تنفيذ سياسات مستنيرة سلوكياً تهدف إلى تحسين النظم الصحية والغذائية التي تستهدف سلوكيات الشركات والمستهلكين على حد سواء، وتتمحور القضية الأهم في هذا السياق حول الأدوات المختلفة لوضع سياسات تستهدف السلوكيات المتعلقة بالتغذية وتتيح للأفراد اختيار بدائل غذائية أكثر صحة، وتشمل الآتي:

  • الاستثمار في التوعية الغذائية المدعمة بالقرائن من مصادر موثوقة.
  • تشجيع أساليب تحفز الأفراد على الحفاظ على لياقتهم البدنية وهم بالمنزل (كاستخدام تطبيقات الهواتف الذكية للياقة البدنية، مثلاً، أو التوصية بأداء تمارين سهلة داخل المنزل).
  • تشجيع تجار التجزئة على الترويج للأطعمة المغذية عند الترويج لمنتجاتهم من خلال وسائل العرض المختلفة.
  • النظر في تخفيض الضرائب على الأغذية الصحية (مثل الفواكه والخضراوات والأسماك).
  • تشجيع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي على إظهار بدائل الطعام المغذي الأكثر جاذبية ووضوحاً.
  • الحرص على إشراك قادة الرأي محط الثقة، خاصة وأن الجميع يكونون أكثر انفتاحاً لتلقي التوجيه ممن يثقون بهم إبان الأزمات.

أخيراً، يمكن استعمال الرؤى السلوكية لتفادي اتخاذ سياسات دون المستوى الأمثل من قبل واضعي السياسات، بما في ذلك وضع سياسات أفضل لتحسين النظام الغذائي والتغذية للمستهلكين، على سبيل المثال، يمكن استخدام الرؤى السلوكية لمساعدة الحكومات على استيعاب بعض السياسات بصورة أسرع من خلال تعريفهم بأدوات صياغة مختلفة، لاسيما صياغة التوجهات والأعراف الاجتماعية المؤثرة.

رحلة المستهلك

وبالحديث عن الطعام الصحي، تبدأ الرحلة من المنزل، بتفكير صناع القرار في الأسرة في خطة الوجبات والعناصر الغذائية الضرورية لفترة زمنية محددة، والتي يمكن أن تكون يوماً أو أسبوعاً أو أكثر. قد يتأثر تنفيذ الخطة بالنسيان والثقة المفرطة والعناء بين الظواهر النفسية الأخرى؛ وقد يفتقر المستهلكون إلى ثقافة الغذائية، أو قد تكون لديهم آراء خاطئة حول القيمة الغذائية للأطعمة، ربما يولون اهتماماً بالسعر أو الطعم أو اعتيادهم على بعض المنتجات على حساب القيمة الغذائية، وقد يتوقف الأمر أيضاً على تصميم منصات طلب البقالة عبر الإنترنت (مثل تطبيقات التوصيل الخاصة بكبرى المتاجر أو غيرها التطبيقات)، حيث يمكن للمستهلكين قبول الخيارات الافتراضية المتاحة أمامهم، في حين يلجأ المشترون للوفاء بقائمة المشتريات ويجرون تعديلات سريعة في حال عدم توفر بعض المنتجات، وقد تواجه الأسرة خلال الجائحة عدم توافر بعض المنتجات التي كانت متاحة عادة، أو تُفاجأ بارتفاع أسعارها بصورة مبالغ فيها، كما أن الأسرة قد تتأثر بتحيزات ذات علاقة بمستوى الإجهاد وعدم اليقين. بالفعل تشير الدراسات إلى أن الاجهاد يؤدي إلى خيارات غذائية غير صحية، ما يعني أن جائحة "كوفيد-19" الحالية قد تتيح الفرصة لتفاقم التحيز السلوكي للمستهلكين.

إن اتخاذ القرار وترجمته إلى عمل ليس بالأمر الهين، حيث تؤثر مجموعة متنوعة من التحيزات السلوكية والظواهر النفسية على الانتقال من الأفكار إلى القرارات وصولاً إلى العمل. وترجع الفجوة بين النية في عمل شيء وبين تنفيذه إلى سوء ترجمة العديد من الأفكار الجيدة إلى قرارات وبالتالي إلى سلوكيات. فقد تختل الأفكار الأولية باتباع نظام غذائي صحي، على سبيل المثال، بسبب كثرة المعلومات أو حدود القدرات العقلية أو ضآلة المعلومات المتوافرة أو غياب اليقظة الذهنية، وغيرها من الأمور.

وتقدم لنا العلوم السلوكية العديد من الأفكار حول كيفية سد الفجوة بين النية والعمل التي تنشأ من العمليات التلقائية (والتي يطلق عليها دانيال كانيمان، مؤلف كتاب "التفكير السريع والبطيء" (Thinking, Fast and Slow) مسمى "النظام الأول" لطرق التفكير) والتي يمكن أن تؤدي إلى أخطاء منهجية في الحكم. ويشير المؤلفان ريتشارد ثالر وكاس سانستين في كتابهما "الترغيب" (Nudge)، إلى أن التدخل لإعادة هيكلة الخيارات يساعد المستهلكين في التغلب على هذه الفجوة. وتشمل الأمثلة محفزات التخطيط والرسائل التذكيرية في التوقيتات المناسبة، والرسائل الموجهة والمعروضات، والقوائم المرجعية والآراء التقويمية.

وفي ضوء الجدل الحالي حول دور العلوم السلوكية وأثره في سياسات الصحة العامة، والحديث حول "مناعة القطيع" و"الإعياء السلوكي" والذي يُعتقد أنه كان مؤثراً في المراحل المبكرة لاستجابة سياسة المملكة المتحدة في مواجهتها لوباء "كوفيد-19"، فمن المهم تسليط الضوء على دور العلوم السلوكية بصفتها أحد العوامل التي شكلت الحلول التي طرحها الخبراء. وتعمل الرؤى السلوكية كإطار منهجي وأداة تحليلية لمساعدة أصحاب المصلحة على الامتثال للسلوكيات المستهدفة القائمة على الأدلة التي أوصى بها الخبراء (مثل النظافة الجيدة أو التباعد الاجتماعي أو اتباع الإرشادات والتوصيات الغذائية). وفي هذه الحالة، لا تُمثل الرؤى السلوكية حلاً منفصلاً أو نهجاً معيناً للسياسات الصحية المتعلقة بمواجهة "كوفيد-19"؛ وإنما يتمثل دورها في اتخاذ سياسات قائمة على الأدلة التي توصل إليها العلماء وخبراء الصحة وعبروا عنها من خلال رؤى من العلوم السلوكية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي