زرتُ شركات رائدة كانت تذكر أنها بصدد إجراء زعزعة لطريقة عملها، وذلك فيما يزيد على 20 قطاعاً حول العالم، على مدى 8 أعوام. وفي كل مرة، كنت أطرح السؤال ذاته على المسؤولين التنفيذيين في هذه الشركات الراسخة: "ما الذي يزعزع شركتك؟" وبغضّ النظر عمن أتحدث معهم، كان هناك ردان يتكرران دائماً: "التقنية (س) هي ما يزعزع الشركة" أو "الشركة الناشئة (ص) هي التي تزعزع الشركة". ولكن آخر بحث وتحليل أجريتهما يكشفان أخطاء في هذا التفكير، فالعملاء هم من يحركون الزعزعة.
في السيناريو الشائع، الذي يفترض فيه التنفيذيون أن التقنية تحاول زعزعة شركاتهم، يحاولون العثور على طريقة لتطوير تلك التقنية داخلياً أو لشرائها من الآخرين. وخير مثال على ذلك هو شركات السيارات الكبرى، مثل "جنرال موتورز" و"فورد"، إذ أنفقت مليارات الدولارات من أجل شراء تقنيات القيادة الإلكترونية والذاتية ومن ثم بنائها.
فإذا أتى تهديد الزعزعة من شركة ناشئة فغالباً ما تحاول الشركة الراسخة الاستحواذ عليها إذا كانت قيمتها منخفضة بما يكفي. كما يمكنها محاولة التنافس مع الشركة الناشئة على السعر كوسيلة لإعاقة تقدمها. ولكن لم تنجح هذه الإجراءات كما كان مرجواً منها في معظم الحالات التي شهدتها.
على سبيل المثال، شركة "ياهو" كمثال على طريقة الاستحواذ، إذ كانت رائدة في فضاء محركات البحث التي كانت حديثة العهد وقتها. ولكنها خسرت المرتبة الأولى ليستولي عليها محرك البحث "جوجل" ثم خسرت المرتبة الثانية التي استولى عليها محرك "بينغ" (Bing) التابع لشركة "مايكروسوفت". ونتيجة لذلك، اتخذت ماريسا ماير، الرئيس التنفيذي لشركة ياهو، جولة تسوُّق بهدف شراء شركات ناشئة وتقنيات، في محاولة لاستعادة مكان الشركة إلى القمة مرة أخرى. ومنذ عام 2016، لجأت ماير إلى الاستحواذ على 53 شركة تقنية ناشئة وأنفقت ما بين 2.3 و2.8 مليار دولار، بالإضافة إلى الكثير من وقت أهم المدراء التنفيذيين لديها، من أجل فعل ما يجب لإنجاز عمليات الاندماج والاستحواذ. وفي نهاية المطاف، أغلقت شركة ياهو 33 شركة ناشئة من الشركات التي استحوذت عليها، وأوقفت إنتاج 11 أخرى، وتركت 5 شركات تعمل مستقلة بعد أن فشلت في إدماجها. وأخيراً، استطاعت شركة ياهو إدماج شركتين فقط من هذه الشركات، وهما "تامبلر" (Tumblr) و"برايت رول" (BrightRoll). وفي عام 2017، استحوذت شركة "فيرايزون" (Verizon) على شركة ياهو، في ظل عجز ياهو عن النمو، مقابل 4.8 مليارات دولار، وهو مبلغ يقل كثيراً عن أعلى سعر وصلت إليه ياهو الذي قدِّر بحوالي 100 مليار دولار. (ويقال إن فيرايزون الآن تسعى لبيع شركة تامبلر).
ما يبدو أن هذه الشركات غفلت عنه هو أن العملاء هم سبب أكثر نمط شائع ومنتشر لزعزعة الشركات. فهم من يتسببون في قرارات تبني تقنيات أو منتجات جديدة أو التخلي عنها. وعندما تقرر شركات كبيرة التركيز على تغيير احتياجات العملاء ورغباتهم، تصل في نهاية الأمر إلى زعزعة رقمية كبيرة.
وكان التحليل الذي أجريته قد توسع في زيارات المسؤولين التنفيذيين للشركات الراسخة والتحدث إليهم ومن ثَم إجراء محادثات مماثلة مع منافسيهم. وفي كتابي "تفكيك سلسلة قيمة الزبائن" (Unlocking the Customer Value Chain )، تحدثتُ عن الثنائيات المزعزعة في الشركات الراسخة كما هو موضح في الجدول أدناه. وبناء على المقابلات والتحليلات في هذه القطاعات، كشفت عن نمط أساسي شائع للزعزعة الرقمية المبنية على العملاء. ذلك أن الشركات الناشئة المزعزِعة تدخل إلى السوق عن طريق سرقة العملاء من الشركات الراسخة، وكذلك سرقة مجموعة مختارة من أنشطة العملاء، وتكون الأنشطة التي يختار المزعزِعون سرقتها من الشركات الراسخة هي تحديداً الأنشطة التي لا يكون العملاء راضين عنها. مثلاً، سرقت "برتشبوكس" (Birchbox) وضع عينات اختبار لمنتجات التجميل من شركة "سيفورا" (Sephora)، كما سرقت شركة "تروف" (Trov) إمكانية تفعيل وإلغاء خدمة التأمين من شركة "ستيت فارم" (State Farm)، وكذلك سرقت "بيلباك" (PillPack) ميزة ملء الوصفات الطبية من شركة "سي في إس" (CVS).
تتمحور طرق كثيرة للتفكير بشأن أسواق النمو التي يجب على شركات التكتلات الكبيرة دخولها حول فكرتي "القطاعات المتجاورة" و"أوجه التعاون" في جانب الشركة. على سبيل المثال، عن طريق تصنيع الدراجات النارية وجزّازات العشب، وهما فئتان غير مرتبطتين ظاهرياً، اكتسبت شركة "هوندا" أوجه تعاون في الإنتاج سمحت لها بأن تصبح أفضل وأكثر فاعلية فيما يخص التكلفة في أسواق كلا المنتجَين.
ولكن إذا كان العملاء في مركز الزعزعة، يجب على الشركات أن تعي طرق تأمين أوجه التعاون على جانب العملاء. فالفوائد التي يحصل عليها العميل هي التي تقرر النمو الناجح، لا الفوائد التي تحصل عليها الشركة. وعلى كل الأحوال، العملاء هم من يختارون تبني منتجاتك الجديدة أو شراءها أو عكس ذلك. وهنا يكمن دور استراتيجية الثنائيات، وهي معتمدة على مبدأ صنع منتجات جديدة تدعم منتجك الأصلي بصورة فاعلة، أي أنها تجعله أقل تكلفة وأكثر قدرة على تلبية حاجات العملاء بسرعة أو سهولة أكبر مقارنة باستخدام منتجَين من شركات أخرى. وإحدى أوضح الطرق لإنتاج الثنائيات هي إطلاق منتجات أو خدمات جديدة مجاورة تماماً للأنشطة التي يجريها العملاء فعلاً مع الشركة، حيث تكون قبلها أو بعدها مباشرة.
وأحد الأمثلة على ذلك هو شركة إير بي إن بي. إذ بدأت عملها في قطاع الفنادق والسفر عن طريق تقديم خدمة مشاركة المنازل. وبعد تحقيق نمو كبير مع الخدمة الأساسية، انتقلت إلى تقديم منتدى حوار إلكتروني وبرنامج تخطيط للرحلات لعملائها، وهذا نشاط عادة ما يفعله المسافرون قبل حجز منزل لدى الشركة. ووفقاً لبرايان تشيسكي، أحد مؤسسي شركة إير بي إن بي، فإن هدف الشركة كان تغطية جميع المراحل الأساسية في سلسة قيمة العملاء.
تركيز شركة "علي بابا" على جانب العملاء
تشكل شركة علي بابا خير مثال عن هذا النوع من النمو المبني على العملاء. بحلول عام 2018، أصبحت الشركة واحدة من أكبر الشركات في العالم من حيث رأسمال السوق، حيث امتلكت أكثر من 10 شركات تتجاوز قيمة كل منها عدة مليارات من الدولارات في قطاعات متنوعة، كتجارة التجزئة والتجارة الإلكترونية وخدمات السحابة الإلكترونية والهواتف الجوالة واللوجستيات وخدمات الدفع الإلكتروني والمحتوى الإلكتروني وغيرها. وما بين عامي 2011 و2016، نمت عائدات الشركة بمتوسط معدل سنوي مركب يبلغ 87%. وازدادت الأرباح بنحو 94% والتدفق النقدي بنحو 120%. كان هذا النمو السريع فريداً من نوعه بالنسبة إلى شركة رقمية كبيرة وراسخة كهذه.
كيف نجحت شركة علي بابا في ذلك؟ بعد تأسيسها على أنها سوق إلكترونية لشركات الأعمال بين الشركات، انتقلت في عام 2003 إلى التجارة بين المستهلكين، وبنت في عام 2004 خدمة رسائل نصية أطلقت عليها اسم "علي وانـغ وانغ" (Aliwangwang)، وخدمة الدفع الإلكتروني "علي باي" (Alipay). وفي العام التالي، مضت في سبيل الاستحواذ على شركة ياهو في الصين سعياً منها لتقديم المحتوى والخدمات الإلكترونية لعملائها. وفي عام 2008، أطلقت متجر "تي مول" (TMall)، وهو متجر إلكتروني لتجارة التجزئة من الشركة إلى العميل، وأطلقت بعدها في عام 2009 خدمة حوسبة سحابية للتخزين الإلكتروني أطلقت عليها اسم "علي بابا كلاود كومبيوتنغ" (Alibaba Cloud Computing). كما تابعت إطلاق شركات جديدة واحدة تلو الأخرى، فأطلقت شركة محرك بحث أسمتها "إيتاو" (eTao) في عام 2010، وشركة ناشئة أسمتها "علي ين" (Aliyin) مختصة في أنظمة تشغيل الهواتف الجوالة في عام 2011، بالإضافة إلى مجموعة للخدمات اللوجستية أسمتها "سايناو" (Cainiao) في عام 2013. وفي عام 2015، حصلت شركة علي بابا على أغلبية أسهم شركة "مايزو" (Meizu) للهواتف الجوالة. لاحِظ عدد الشركات التي تعمل في قطاعات غير متجاورة، كما أن أوجه التعاون بين تجارة التجزئة والحوسبة السحابية وخدمات الدفع الإلكتروني وتصنيع الأجهزة الإلكترونية ليست واضحة تماماً. بالإضافة إلى أن الشركات في هذه القطاعات تحتاج إلى موارد مختلفة وموظفين يتمتعون بمجموعات مهارات على قدر كبير من التنوع كي تتمكن من المنافسة. إذاً، لماذا لم تبقَ الشركة ضمن مجالها الأساسي في السوق الإلكترونية للتجارة بين الشركات وتركز على النمو هناك لكي تسيطر على السوق وتحقق الميزة التنافسية عن طريق وفورات الحجم التقليدية؟
لقد ركزت استراتيجية التوسع في شركة علي بابا بالكامل على أوجه التعاون من جانب العملاء والقطاعات المتجاورة من جانب رأس المال المغامر (الجريء) للشركة. وفي عام 2016، أُجريت نسبة 50% من عمليات الشراء الإلكترونية عن طريق الهواتف الجوالة، بينما أُجري ما تبقى عن طريق أجهزة الكمبيوتر المحمول وأجهزة الكمبيوتر المكتبية والأجهزة اللوحية (التابلت). ذلك أنه يجب على العميل أولاً اختيار الجهاز الذي سيدخل عن طريقه إلى الإنترنت لإنجاز عملية الشراء، وهذا يعني ضمنياً اختيار نظام التشغيل والمتصفح مجتمعين أيضاً. وبعد ذلك يدخل معظم العملاء إلى المتصفح ويتوجهون إلى المواقع الإلكترونية ويدخلون إلى خدمات المراسلة التي يشتركون فيها، ومنها البريد الإلكتروني وتطبيقات المحادثة وشبكات التواصل الاجتماعي، إلخ. وعند نقطة ما، يشعرون بالحاجة إلى شراء منتج ما، ويبحثون داخل مواقع التجارة الإلكترونية أو خارجها (مثل جوجل أو "بايدو" (Baidu) ). ومن هنا، يصل العملاء إلى أفضل مواقع التجارة الإلكترونية. في الصين، يتوجه العملاء من الشركات إلى موقع علي بابا، في حين يتوجه العملاء الأفراد إلى موقع "تاوباو" (Taobao) لشراء منتجات من عملاء آخرين أو إلى موقع تي مول من أجل شراء منتجات من متاجر التجزئة.
ومن أجل الحصول على معلومات أكثر عن المنتجات أو التفاوض على الأسعار (وهي ممارسة تجارية شائعة في الصين)، يتواصل المشتري مع البائع عادة عن طريق تطبيقات المحادثة، ثم يدفع العميل ثمن مشترياته وينتظر شركة اللوجستيات لتوصلها إليه. تمثل هذه الصورة أبعاد رأس المال المغامر نسبة للمشتري النموذجي عن طريق الإنترنت، ويمكننا تحديد نمط واضح عن طريق تحليل رأس المال المغامر هذا. بدأت شركة علي بابا بالنمو عن طريق التركيز على مرحلة واحدة من رأس المال المغامر للمشتري على موقعها، ثم انتقلت لتلتقط أنشطة العملاء الأخرى. وبدلاً من استخدام نهج القطاعات المتجاورة التقليدي (ليست خدمات الدفع والهواتف الجوالة والخدمات اللوجستية قطاعات متجاورة)، فضّلت الشركة الانتقال إلى أنشطة متجاورة من حيث رأس المال المغامر للشركات. وبحلول عام 2018، أصبحت الشركات التابعة لشركة علي بابا تعمل في معظم نشاطات رأس المال المغامر للشركة. لم تسع شركة علي بابا فوراً لتحقيق أوجه التعاون من جانب الشركة. إذ كان ربحها الحقيقي في تحقيق أوجه التعاون من جانب العملاء. وهذا أقنع عملاءها باستخدام ثنائيات منتجاتها.
وكان العائق الأساسي للسعي لتبني استراتيجية المنتجات الثنائية هو أنها تقود الشركة إلى أعمال مختلفة جداً تتطلب موظفين ومهارات وقدرات على قدر كبير من التنوع والاختلاف عن التي تملكها. ولكن بالنسبة إلى شركة علي بابا، فقد انتقلت من التجارة الإلكترونية إلى الخدمات المالية إلى أدوات البحث والخدمات اللوجستية وإلى الأجهزة والبرمجيات. وهذا على الرغم من عدم وجود أوجه تعاون كثيرة بين هذه الأعمال.
عندما أقدم لأحد عملائي نهج المنتجات الثنائية على أنها استراتيجية نمو، أحذره من العوائق وأطلب منه ملء جدول المهارات التي يعتقد أنه سيحتاج إليها من أجل النجاح في نشاط مجاور جديد، وما إن كان يملك هذه المهارات، وإلا أسأله عن خطته للحصول عليها. وهذا الإجراء بسيط ولكنه أساسي. حيث أطلب منه وضع قائمة من 4 أنشطة يريد أن تنجزها الشركة، ثم يضع قائمة بالمهارات المطلوبة والمهارات المتوافرة فيها. وأخيراً، ننظر فيما إذا كان يحتاج للبناء أو الاستعارة أو الشراء من أجل الحصول على المهارات التي لا يملكها. بمعنى، هل سيحتاج لاستعارة المهارات من الآخرين عن طريق الشراكة، أو شراءها عن طريق الاستحواذ أو التوظيف؟ مهما يكن، يجب ألا يهمل حاجته لسد فجوة المهارات هذه.
تصنف شركات راسخة كثيرة نفسها في مجال ضيق جداً لصناعة محددة وتحصر نفسها فيه. ونتيجة لذلك، تكون مساحة اكتشاف مجالات نمو جديدة مقيدة ومحدودة جداً، وليست إمكاناتها أو قدراتها هي سبب هذا التقييد وإنما التعريفات التعسفية للقطاعات. وأسرع طريقة للنمو تكون بتقديم شيء يجعل عملاءك الحاليين الذين هم أكثر ولاء لك يدفعون الثمن بكل سرور، وبفضل شرائهم لمنتجك الأصلي أو خدمتك سيصبح ذلك أكثر قيمة بالنسبة إليهم. ويكمن السر في أن نجاح المنتجات الجديدة التي يجري إطلاقها لا يتطلب أن تكون أفضل من منتجات الشركات الراسخة، وطالما أن المنتجات الجديدة تضم أوجه تعاون بالنسبة إلى العميل، فعلى الأرجح أنه سيتبناها.
الزعزعة هي ظاهرة يتحكم العميل فيها، والتقنيات الجديدة تظهر وتختفي، ولا يبقى منها سوى التي يختار العملاء تبنيها. والعديد من الشركات الناشئة سريعة النمو مثل أوبر وإير بي إن بي و"سلاك" (Slack) و"بنترست" (Pinterest) و"ليفت" (Lyft) ليس لديها تقنيات مبتكرة أكثر أو أفضل من الشركات الراسخة في قطاعاتها، ولكن لديها إمكانية بناء ما يريده العميل تماماً وتحقيقه بسرعة ودقة أكبر. وهذا يسبب تبادل كميات كبيرة من الحصص السوقية في مدد زمنية قصيرة نسبياً. وهذا هو أساس الزعزعة الحديثة باختصار.