قرر مهند غشيم في 2003 العودة ليستقر في مسقط رأسه مدينة حلب في سورية، بعد عامين من إقامته في ولاية تكساس الأميركية. لم يكن قراره متسرعاً أو عاطفياً، إذ جذبته حينها الإمكانات الهائلة التي تنتظره في بلده، والاندفاع الطموح للسوريين. وهكذا أنشأ مهند في حلب شركة لتصميم مواقع الإنترنت، وبدأ يقدم خدماته لزبائنه في أميركا وازدهرت أعماله حتى وصل فريق عمله إلى 12 موظفاً. وسرعان ما بدأ يفكر بمشروعه التالي، وهو منصة تمكّنك من إنشاء متجرك للتجارة الإلكترونية على الإنترنت بسهولة شديدة وكأنك تنشئ صفحة على موقع "فيسبوك". كاد المشروع يكون الأول من نوعه عربياً. إلا أن آماله تحطمت عندما استعرت المعارك في مدينته عام 2012، فاضطر إلى حزم حقائبه على عجل والتوجه إلى الأردن البلد الجار.
بدأ مهند بتأسيس قاعدة عمل له في عمّان، على الرغم من عدم تمتعه بشبكة علاقات واسعة في السوق الأردنية، وافتقاره إلى التمويل، ولأنه كان مصراً على تحقيق فكرته توجه إلى مسرّعة للشركات الناشئة ليطلب التمويل. وتلقى بعد ذلك فعلاً تمويلاً من شركتي "ومضة"، وهي منصة لتمكين رواد الأعمال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتمكّن من إنشاء موقع "شوب جو" (ShopGo.me)، ثم تحويله إلى أحد أبرز منصات التجارة الإلكترونية في العالم العربي.
نجح مهند رغم التحديات وصعوبة الحصول على التمويل والموارد البشرية والزبائن، وانعدام الاستقرار السياسي. ذاك النجاح هو ما أسميه "قدرة الـ "يالله"!".
"يالله" أو "يلا" تعبير رائج في العامية العربية يعني "هيّا، فلنتحرك". إنها القدرة على العمل في ظل الظروف المتقلبة بتوظيف المرونة والتكيف السريع والارتجال المدعوم بالمعرفة. لا شك أن العمل في البيئة التي تسيطر على المنطقة حالياً يتطلب مثابرة ومرونة ورغبة عميقة في تغيير الأوضاع الراهنة.
والواقع أن "قدرة الـ يالله" ليست نادرة الحدوث في العالم العربي، وقد تجلى معناها في الأحداث التي بدأت في تونس خلال العام 2010. فالعديد من ناشطي الإنترنت الذين عملوا على التغيير في مصر وتونس يحملون في داخلهم "قدرة الـ يالله"، ويفكرون في طريقة رواد الأعمال نفسها. أطلقوا ثوراتهم بشكل ذاتي، مستخدمين جميع الأدوات المتاحة لهم، فتكيفوا سريعاً مع تغيرات الأحداث وأصروا على عدالة قضيتهم، حتى وصلوا إلى مبتغاهم في التصريح برغبتهم في التغيير.
بعد بضعة أشهر من بدء ثورات الربيع العربي، أنهيت 10 أعوام من الإقامة في الولايات المتحدة وعدت إلى العالم العربي، ألهمني فيضٌ من الطاقة شعرت به، وعرفت أنه يجب عليّ توجيه تلك الطاقة نحو خلق فرص العمل وتأسيس الشركات التي تحفز النمو الاقتصادي الضروري للمنطقة.
لبيّت دعوةً لأكون الرئيس التنفيذي لشركة "ومضة"، وأنشأت مع فريقي منصة تساعد في تنشيط منظومة ريادة الأعمال والاستثمار فيها. في المنطقة العربية حيث ترتفع معدلات البطالة إلى أعلى نسبها بين الشباب، تبدو ريادة الأعمال كمتنفس ضروري، ليس لمجرد أنها تخلق فرص العمل فحسب، بل لأنها تؤثر على الأجواء المعنوية أيضاً وتنشر الشعور بالأمل والتفاؤل والتحول الإيجابي.
ألتقي في عملي كل يوم بعشرات من أشباه مهند غشيم، وهم رواد الأعمال العرب الشباب الذين يجسدون "قدرة الـ يالله" في حياتهم اليومية من خلال شركاتهم الناشئة، وعملهم بأسلوب خلاق للالتفاف حول المعيقات. في الأسواق الناشئة مثل العالم العربي، الشركات الأكثر مرونة هي وحدها التي ستبقى قائمة. لكن الأسس الاقتصادية القوية التي تتمتع بها السوق العربية تستحق بذل ذلك الجهد، فهي سوق تتضمن 350 مليون مستهلك معظمهم من الجيل الشاب. ولا شك أن العالم العربي بيئة واعدة لرواد الأعمال القادرين على ابتكار مشاريع متناغمة مع ثقافته وتطلعاته.
يمر العالم اليوم بظروف اقتصادية قاسية بعضها موروث من الأزمة المالية العالمية والتغيرات الجيوسياسية السريعة. لكن التجارب الأخيرة لرواد الأعمال العرب فيها دروس مهمة للمشاريع الناشئة في أي بلد، وألخصها في النصائح التالية:
تبني الارتجال المبني على معلومات: لن تستطيع في بيئة متغيرة أن تخطط لكل شيء مسبقاً، ولكن بدلاً من ذلك، ركز على اختيار أدوات العمل الصحيحة وإحاطة نفسك بشبكة العلاقات المناسبة. جهز نفسك لتصبح قادراً على التكيف بسرعة مع الأوضاع الجديدة أو الضبابية.
هذه النصائح مبنية على ما يفعله رواد الأعمال في الأسواق الصعبة، واعبّر عن ذلك بما سميته "قوة الـ ياالله". سأتحدث في المقالات المقبلة عن بعض الخطوات المتبعة في تنشيط منظومات ريادة الأعمال في الأسواق الناشئة.