عندما عملت في أسواق المال الأميركية، كان زوجي يحضّر لنيل درجة الماجستير في علم البيولوجيا الجزيئية. وقد كانت أبحاثه تشمل تنمية بعض الخلايا في أوساط ذات لون زهري. لكن مزرعة الخلايا هذه لم تحافظ على لونها الزهري لفترة طويلة من الزمن. في غضون ثلاثة أو أربعة أيام، تحول لون المزرعة إلى البني الفاتح. فبينما كانت الخلايا تقتات على العناصر المغذية، ظهرت هناك بعض النواتج الثانوية، وأدى بعضها إلى تثبيط النمو وحتى أنها كانت سامة.
استمد معظم نظرتي إلى الطريقة التي أراها مناسبة للمحافظة على ثقافة الإبداع في أي شركة من مراقبتي للطريقة التي يتبعها زوجي في المحافظة على مزارع الخلايا هذه. فتنمية مزارع الخلايا والمحافظة عليها، هي عملية فعالة، تستهلك الكثير من الموارد وتولد نواتج ثانوية. وثمة سر صغير يخص هذا النوع من المزارع أو الثقافات، هو أن بعض هذه النواتج الثانوية تعتبر مثبّطة للنمو – وأي مؤسسة غير مستعدة للتعامل مع هذه السموم تعرض نفسها وبسرعة لخطر العدوى بالتلوث والفشل.
تمتلك معظم الشركات القائمة على الإبداع قدرة ملفتة على توليد الكثير من الأفكار. وكل فكرة منها تقترن بحلم صاحبها. لكن ليس كل فكرة قابلة للترجمة إلى واقع، الأمر الذي يجعل أصحاب الأفكار المرفوضة يشعرون بالغضب، أو الغيرة، أو المرارة. وإذا لم تجد هذه النواتج الثانوية من يعتني بها ويهتم لأمرها، فقد تصبح سامة، بحيث تصيب المشاريع في مقتل، وتشكل مصدر إحباط للآخرين.
يمكن للشركات تجنب هذه المرارة من خلال إرسال الرسالة الواضحة التالية: نحن نرفض فكرتك، ولكننا نرحب بك أنت. ولنأخذ مثلاً تجربة بيتر إيدير- بايز، المدير التنفيذي المتخصص بتكنولوجيا المعلومات في شركة "دبليو إل غور وشركاه"، وهي شركة صناعية تشتهر بنوع معيّن من القماش الصناعي. كان بيتر وعدد من الموظفين الآخرين قد طرحوا أفكاراً لإعادة هيكلة وظيفة المراقب المالي في الشركة واحتساب أسعار النقل ضمن الشركة. لكن فكرته فشلت في الحصول على ما يكفي من الأصوات الداعمة. الانزعاج الذي أحسّ به بيتر أشعره بجرح بعميق. ولكن بما أن زملاءه طلبوا رأيه، وعملوا على التوصل إلى إجماع في الآراء، فإنه لم يشعر بالامتعاض. وقد قال لي بيتر: "رغم أن الشركة لم تتبنّ أفكاري، فقد أخذوني على محمل الجد وتعاملوا معي بنوع من المساواة". ومع مرور الوقت، أصبح بيتر واحداً من أكبر داعمي المشروع.
حتى عندما تبذل قصارى جهدك وتتصرف بطريقة مشجعة للشخص الذي رفضت فكرته، يمكن أن يظل الشعور بالرفض راسخاً. على سبيل المثال، تواجه حكومة إحدى البلدات الأميركية الصغيرة حالة استعصاء لا حل لها، لأن الفكرة التي طرحها أحد مفوضي الحكومة في البلدة قوبلت بشيء من المقاومة. فبغية التخفيف من الضغوط المفروضة على موازنة البلدة، اقترح أحد مفوضي الحكومة فرض رسم بالحدود الدنيا على سكان البلدة مقابل خدمة إعادة تدوير النفايات فيها. هذا الأمر دفع زميله الذي كان قد أطلق مبادرة إعادة التدوير هذه إلى توجيه انتقادات قاسية ولاذعة، كما عنّف بقسوة الأشخاص المؤيدين لفكرة تقاضي رسوم مقابل إعادة التدوير، ووقف حجر عثرة في طريق "مقترحاتهم". وقد شعر رئيس البلدية بأنه منهك تماماً، وغير قادر على التصدي لهذا السلوك السيئ.
بالنسبة للمؤسسات التي تتعامل مع هذا النوع من السلوك السام أو الانتقامي، فإن هناك خيارين فعليين فقط للمحافظة على الطابع الإبداعي لثقافة هذه المؤسسة: إما أن يصلح الموظف نفسه أو يتم تسريحه. فإذا كنت لا تزال تعتقد بأن الطرف الممتعض يمكن أن يظل شخصاً قادراً على تقديم إسهامات إيجابية إلى المؤسسة، فحاول أن تسلط الضوء على السلوك غير المقبول الذي يبدر من هذا الشخص، مع إعادة التأكيد في الوقت ذاته على التزامك تجاهه. أما إذا لم يكن هذا الإنسان قادراً على إصلاح نفسه أو غير مستعدّ لذلك، فعندئذ يجب إبعاده عن المؤسسة.
لا يقبل أي عالم تعريض نتائج تجربته للخطر من خلال السماح للسموم بالتراكم في مزرعة الخلايا، ولا يجب على أي مؤسسة أو مدير أو رئيس بلدية أن يتسامح مع السلوك السام، بحيث يشكل مصدر أذى للتأثيرات الإيجابية الموجودة في ثقافة قائمة على الإبداع.
إحدى الشركات التي وجدت طريقة فريدة من نوعها للتعامل مع هذا النوع من السلوك السام هي "ريوت غيمز"، الصانعة للعبة الفيديو "دوري الأساطير" أو (ليغ أوف ليجندز). فبعد أن استقبلت ريوت مجموعة كبيرة من اللاعبين الجدد عديمي الخبرة، اعتبر اللاعبون القدامى أنفسهم خبراء وراحوا يوجهون إلى القادمين الجدد تعليقات تزدريهم وتحط من قدرهم. وقد انتشر هذا السلوك السلبي مهدداً هدف الشركة بخلق بيئة ودودة للعب، قائمة على روح الزمالة، وراح يؤثر على أرباحها الصافية. وارتفع احتمال ترك اللاعبين المعرّضين لسلوك مسيء إلى أكثر من 320% مقارنة مع غيرهم. وبغية التصدي لهذا التوجه، بدأت "ريوت" بحظر اللاعبين عن اللعب مؤقتاً عندما كانوا يبدون أي سلوك غير ملائم أو مسيء. وقد قطعت عمليات الحظر هذه شوطاً كبيراً باتجاه القضاء على السلوك السام ضمن الشركة. كما اكتشفت "ريوت" أيضاً أنك عندما تخبر اللاعبين عن سبب حظرك لهم، فإن نصفهم يصلحون أنفسهم – وإذا كنت قادراً على أن تظهر لهم أدلة على سلوكهم السيئ، فإن تلك النسبة تقفز إلى 70%.
ليس منح "وقت مستقطع" إلى الموظفين الذين يسيئون إلى زملائهم الجدد أو الأحدث عهداً أو يرهقونهم بشكل دائم، أمراً مجدياً دوماً، لكن التصدي للسلوك السيئ هو أمر مجدٍ بكل تأكيد. وقد نقِل عن جيفري لين، كبير مصممي الألعاب المتخصص بالنظم الاجتماعية في ريوت قوله: "عندما يلتزم مجتمع ما (المدراء والموظفون والزبائن) الصمت، فإن السلوكيات المنحرفة تظهر إلى السطح، ويمكن أن تتحول لتصبح هي المعيار الطبيعي السائد". في بعض الأحيان قد نتغاضى عن هذا السلوك لأن "المتنمرين" تكون لديهم مكانتهم، أو لأننا قد لا نكون راغبين في التعامل مع الاضطرابات والعواقب التي ستنجم عن توبيخ الشخص المسيء. لكن يبقى خطر تدمير السلوك السام لما بنيته حقيقياً، ويجب التعامل معه.
لقد اكتشف زوجي عالم الأحياء أن المحافظة على نظافة مزرعة الخلايا، وصحتها، ونموها، يتطلب منه التخلص من النواتج الثانوية المثبّطة، وإعادة وضع الخلايا في وسط جديد، وفي بعض الأوقات قد يضطر إلى إضافة المضادات الحيوية لإزالة العدوى الخبيثة. والأمر ذاته ينطبق على النواتج الثانوية غير السارة التي ترافق عملية النمو ضمن ثقافة شركة قائمة على الابتكار: يتعين على الإدارة توخي الحذر من أجل الحفاظ على نظافة تلك الثقافة الداخلية من أي شوائب.