تشعر رنا بالتوتر؛ إذ يجب عليها إجراء بعض الأبحاث لإعداد تقرير لأحد العملاء وكتابة جزء منه، ثم مغادرة المكتب بحلول الساعة 5 مساءً لتتمكن من اصطحاب ابنها من مركز الرعاية بعد المدرسة. كانت تعمل بحماس وتركيز كبيرين، وشعرت بأنها بدأت تحقق تقدماً ملحوظاً في أداء مهامها عندما توقف زميلها نبيل، الذي يعمل في الطابق نفسه، عند مكتبها ليلقي التحية ويسألها عن عطلة نهاية الأسبوع. ابتسمت رنا وقالت بلطف وإيجاز إنها قضت عطلة نهاية أسبوع جيدة، لكنها لم تطرح السؤال نفسه على نبيل، وبمجرد مغادرته، عادت بسرعة لاستكمال التقرير الذي تعمل على إنجازه.
البحث
كان هذا النوع من التجارب شائعاً بين الآباء والأمهات الذين شملهم بحثنا الذي تضمّن موظفين من 3 مؤسسات مختلفة، وهي شركة أدوية ومؤسسة لتقديم الخدمات المهنية وجامعة. أجرينا مقابلات مع 72 موظفاً وراقبناهم، وكانوا جميعهم تقريباً ملتزمين بشدة بتقديم أداء متميز في وظائفهم. اكتشفنا أن مجموعة من هؤلاء الموظفين يعانون ضيق الوقت، ولا سيما أولئك الذين لديهم أطفال صغار وكانوا يتحملون مسؤولية رعايتهم بالكامل أو يتشاركون أداء هذه المهمة مع أزواجهم. بالتأكيد، هذا الأمر طبيعي بالنسبة للآباء والأمهات أو لأي شخص يتحمل مسؤوليات رعاية كبيرة مثل رعاية كبار السن. لكننا وجدنا أيضاً أن هؤلاء الموظفين حاولوا إدارة تفاعلاتهم مع الآخرين، إلى جانب اتباع أساليب إدارة الوقت النموذجية، مثل عملية جدولة المهام.
إدارة التفاعلات عند ضيق الوقت
اعتمد الآباء والأمهات الذين شملتهم دراستنا، مثل رنا، على مجموعة من الاستراتيجيات التي أطلقنا عليها اسم "ممارسات التفاعل" (Interaction Practices) لإدارة علاقاتهم وتفاعلاتهم.
- تجنب هؤلاء الأشخاص التفاعل مع الآخرين من خلال رفض دعوات الغداء وعدم حضور الفعاليات الاجتماعية التي تنظمها الأقسام في مكان العمل، وعدم الانخراط في محادثات عفوية أو غير رسمية.
- تجنبوا التفاعل مع زملائهم في العمل من خلال العمل من المنزل أو حتى الذهاب إلى الحمام في الوقت الذي يكون فيه الجميع مشغولاً بحضور اجتماع عمل.
- نظموا تفاعلاتهم بطريقة استراتيجية وذكية من خلال جدولة اجتماعات متتالية، بحيث يتمكنون من إنهاء الاجتماع بسرعة عبر الإشارة إلى أنهم مضطرون للتحدث إلى شخص آخر، بدلاً من استخدام عبارات قد تبدو فظّة وغير لائقة مثل "عذراً، لا أريد الاستمرار في الحديث".
- ركزوا تفاعلاتهم على الأمور المهمة من خلال إعادة توجيه المحادثات في الاجتماعات نحو المهام المطروحة بدلاً من الانخراط في مناقشات وأنشطة لا تتعلق بالعمل.
تأثير تقليل التفاعلات على العلاقات
نجحت هذه الممارسات في تحقيق هدفها المتمثل في تقليص التفاعلات التي لا تركز على المهام المطلوبة في العمل لتوفير مزيد من الوقت لرعاية الأطفال. على الرغم من التزام هؤلاء الموظفين وتفانيهم في العمل، فقد كانوا يقضون عادة أوقات الصباح والمساء وعطلات نهاية الأسبوع مع أطفالهم مع الحفاظ على تقدمهم ونجاحهم على الصعيد المهني.
مع ذلك، كانت لهذه الممارسات تأثيرات سلبية، إذ تدهورت علاقة الموظفين الآباء والأمهات بزملائهم عندما حاولوا التحكم في تفاعلاتهم باستخدام هذه الاستراتيجيات، على الرغم من أن الأبحاث المكثفة أظهرت أن العلاقات الجيدة في مكان العمل مهمة للنجاح. على الرغم من أن بعض هؤلاء الموظفين كانوا يمتلكون صديقاً أو اثنين مقربَين، وهو أمر أثبتت الأبحاث أهميته حتى لو لم يتمكن الشخص من إنشاء شبكة علاقات اجتماعية كبيرة، فإنهم لم يشعروا بوجود العديد من الأصدقاء المقربين لهم، أو بالانتماء في مكان العمل، بالإضافة إلى عدم معرفتهم بما يدور من أحاديث غير رسمية بين الموظفين.
كانت هناك مفاضلة بين تخصيص الوقت لرعاية العائلة من جهة وتنمية العلاقات المهنية والاجتماعية من الجهة الأخرى، ويتضح ذلك من خلال دراستنا لمجموعة من الموظفين الذين لا يتحملون مثل هذه المسؤوليات، مثل الرجال والنساء الذين ليس لديهم أي أطفال، وبعض الآباء الذين كانت زوجاتهم يتحملن مسؤولية تنظيم شؤون رعاية الأطفال، وتجدر الإشارة إلى أننا لم نجد في دراستنا أي موظفات أمهات لديهن أزواج يتحملون هذه المسؤولية. أظهر هؤلاء الموظفون تفاعلاً ومشاركة أكبر في الأنشطة الاجتماعية في مكان العمل، مثل أخذ فترات راحة أطول لتناول الغداء في المطاعم والدردشة مع الزملاء خلال التنقل داخل المبنى والزيارات المكتبية لمناقشة أخبار العمل والذهاب إلى المقاهي بعد انتهاء الدوام. لكن نظراً لأنهم كانوا مطالبين أيضاً بإنجاز مهامهم، فقد كانوا مضطرين إلى تقليص الوقت المخصص لممارسة الهوايات أو للاجتماع مع أصدقائهم خارج نطاق العمل، وكذلك الأمر بالنسبة للآباء والأمهات الذين كانوا يخصصون وقتاً أقل لأطفالهم بسبب متطلبات العمل.
ما هي الإجراءات التي يمكن اتخاذها؟
على الرغم من صعوبة إيجاد حلول سهلة لمشكلة ضيق الوقت التي يواجهها العديد من الآباء والأمهات، فإن بحثنا يقدم بعض الاقتراحات والتوصيات المفيدة لكل من الآباء والأمهات والمدراء.
نصائح للآباء والأمهات
1. كن واعياً.
لم يدرك العديد من الآباء والأمهات الذين شملتهم دراستنا أن تقليل التفاعلات الاجتماعية باستمرار يؤدي إلى تقليص العلاقات في مكان العمل إلى حد كبير. بسبب انعزال هؤلاء الأشخاص وضعف علاقاتهم الاجتماعية، لم تكن لديهم فكرة عن مستوى العلاقة المتينة التي تجمع زملاءهم في العمل. من المهم أن تدرك أن تقليل التفاعلات الاجتماعية له تأثير سلبي على العلاقات، كما يجب عليك أن تعرف حجم هذا التأثير.
2. احرص على التضحية ببعض الوقت.
على الرغم من أن المشاركة اليومية في التفاعلات الاجتماعية قد تكون أمراً صعباً بالنسبة للعديد من الآباء والأمهات، فإنه من الضروري تخصيص بعض الوقت، أسبوعياً أو شهرياً، للتواصل مع زملاء العمل. فضّل العديد من الموظفين الذين شملتهم دراستنا تنظيم وجبات غداء مجدولة لهذه الغاية؛ إذ أتاح لهم ذلك التخطيط ليوم عملهم مسبقاً لضمان تخصيص وقت لهذه الأنشطة التي لا تتعلق بالعمل.
3. يجب على الآباء المشاركة في تحمل المسؤولية.
أظهرت أبحاثنا أن الأمهات كنّ أكثر عرضة للشعور بضيق الوقت وتقليل التفاعلات مقارنة بالآباء، ما يعكس دورهن الأكبر في رعاية الأطفال، مثل اصطحابهم إلى المدرسة وإعادتهم منها. تتفق هذه النتائج مع العديد من الدراسات التي أظهرت أن الأمهات يتحملن مسؤولية رعاية الأطفال أكثر من الآباء. يجب على الآباء زيادة مشاركتهم وتحمل مزيد من المسؤولية لمساعدة الأمهات حتى لا يتحملن وحدهن عبء رعاية الأطفال وما يتبع ذلك من آثار سلبية على العلاقات الاجتماعية والمهنية.
نصائح للمدراء
1. الاعتراف والتقدير.
يؤدي المدراء دوراً أساسياً في إنشاء بيئة عمل تدعم احتياجات الموظفين الأسرية وتحافظ عليها بما يحقق التوازن بين العمل والعائلة. بعد قراءة هذا المقال، قد تفهم سبب سلوك بعض الموظفين الذين يظهرون على أنهم مستعجلون أو منشغلون أو قلقون في بعض الأحيان. يمكنك الآن أن تعبّر للآباء والأمهات، ولا سيما أولئك الذين لديهم أطفال صغار، عن تفهمك لعدم قدرتهم على حضور النشاطات واللقاءات الاجتماعية المسائية أو حفلات أعياد الميلاد التي تجري في أثناء وقت الغداء. بالإضافة إلى ذلك، يجب عدم الضغط على الآباء والأمهات للمشاركة في مثل هذه الفعاليات نظراً لالتزاماتهم العائلية.
2. صمّم العلاقات بطريقة تناسب الآباء والأمهات وتتوافق مع احتياجاتهم.
أظهرت أبحاثنا أن الآباء والأمهات يفضّلون العلاقات الرسمية المُرتبة مسبقاً، مثل برامج الإرشاد، لأنها تساعد على تقليل الوقت والجهد والمحادثات الجانبية المطلوبة لإنشاء هذه العلاقات بطريقة طبيعية. يمكن لهذا النوع من العلاقات أن يوفر للآباء والأمهات وسيلة للحصول على نصائح تتعلق بالقضايا المهنية والشخصية (مثل كيفية إدارة شؤون العمل والعائلة)، مع تخصيص مزيد من الوقت لقضائه مع عائلاتهم.
3. ركز على النتائج لا على عدد ساعات العمل.
يركّز المدراء في بعض الأحيان على عدد الساعات التي يقضيها الموظفون في العمل بدلاً من التركيز على الإنجازات التي يحققونها. سيساعدك التركيز على جودة أداء موظفيك بدلاً من التركيز على عدد الساعات التي يقضونها في العمل على دعم الآباء والأمهات ومكافأتهم بدلاً من لومهم أو معاقبتهم بسبب تخصيص الوقت لأطفالهم.
هناك عدد محدود من الساعات في اليوم، لذلك، يضطر الآباء والأمهات عادة إلى تقليل التفاعلات غير الرسمية لتخصيص وقت أكبر لأطفالهم. على الرغم من الفوائد الواضحة لهذا الأمر، فإنه يحمل بالطبع آثاراً سلبية على مستوى العلاقات. يجب على كل من المدراء والموظفين التفكير في طرق لتطوير العلاقات في مكان العمل بما يتناسب مع متطلبات رعاية الأسرة.