تميزت رؤية المملكة العربية السعودية 2030 بتعدد مسارات التحول وتنوع الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية من خلال 3 محاور رئيسية، هي مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح. كما أكدت الرؤية من خلال أهداف برنامج التحول الوطني تمكين أفراد المجتمع من دخول سوق العمل وزيادة جاذبيتها عبر زيادة مشاركة المرأة في هذه السوق، وتمكين اندماج ذوي الهمم في سوق العمل، واستقطاب المواهب العالمية المناسبة.
وانطلاقاً من أن سوق العمل في المملكة تدعم التحولات الاقتصادية، فقد شهدت خلال العقد الأخير تغيّرات متسارعة، تضمنت العديد من الإصلاحات التشريعية وتطوير السياسات وإلغاء الأنظمة التقييدية ومعالجة الفجوات التنظيمية وتصميم المبادرات والبرامج والداعمة. وقد بدأت رحلة هذه التطلعات من خلال تطوير استراتيجية موجهة لسوق العمل في العام 2020 تسعى إلى بناء سوق عمل أكثر صموداً في مواجهة التحديات لتصبح سوق عمل جاذبة، وصانعة للفرص، ومتكيفة مع التوجهات العالمية، وتتصف بالحوكمة والترابط والتكامل، وقادرة على مواجهة تحديات المستقبل.
ومن أهم التحولات التي تميزت بها سوق العمل في المملكة: بناء سياسات موجهة نحو توطين الوظائف لأغراض اقتصادية واجتماعية متعددة عبر الاستثمار في الموارد البشرية الوطنية مع المحافظة على تماسك سوق العمل التي تعتمد أساساً على استقطاب العمالة المهنية الأجنبية وتسعى إلى جذب المواهب العالمية مستقبلاً. ومن هذا المنطلق، عملنا في المملكة العربية السعودية على إطلاق برامج متعددة للتوطين مصحوبة بقرارات فاعلة ومحفزات داعمة وبرامج تدريبية متنوعة وشراكات مع القطاع الخاص وتكامل ومواءمة مستمرة مع الهيئات الحكومية. وحققنا من خلال البرنامج رغبات سوق العمل واحتياجاتها، حيث توافرت للشركات والمؤسسات الكفاءات الوطنية المتخصصة، وأصبحت الفرص الوظيفية متنوعة للشباب والشابات، وتزامن ذلك مع إحداث تعديلات في نظام العمل وتبنّي سياسة وطنية لتشجيع تكافؤ الفرص والمساواة في المعاملة في الاستخدام والمهنة، وتعزيز مشاركة المرأة والفئات الأقل فرصاً في سوق العمل.
واعتمدت منهجية تصميم برامج التوطين على تحليلات معمقة لبيانات سوق العمل ومخرجات التعليم، ومنهجيات أصيلة لتحليل الفجوات وتصميم المبادرات والبرامج المحفزة لتطبيق النموذج والعمل مع الشركات والخبراء الدوليين وبقيادات وطنية قارئة لمستقبل سوق العمل وتحدياتها المحلية.
وفي مجال استثمار التقنية، طورنا المنصة الوطنية الموحدة للتوظيف "جدارات"، التي تهدف إلى توحيد وتوثيق بيانات طالبي العمل في القطاعين العام والخاص، ورفع جودة البيانات، وتطوير إجراءات استقبال ومعالجة طلبات التوظيف، وسهولة وصول الباحثين عن عمل إلى الوظائف الشاغرة. وقد أسهمت المنصة في توظيف أكثر من 114 ألف باحث وباحثة عن عمل، ووصلت إعلانات الفرص الوظيفية إلى أكثر من 48 ألف جهة حكومية وخاصة في سجلات المنصة.
من جانب آخر، يستهدف نموذج التوطين تسهيل الوصول إلى فرص العمل من خلال توفير أشكال متعددة من أنماط العمل الحديثة في منصات العمل الحر والعمل عن بُعد والعمل المرن، حيث وصل عدد وثائق العمل الحر إلى 2.97 مليون وثيقة، بالإضافة إلى تسجيل أكثر من 522 ألف عقد عمل على منصة العمل المرن، وأكثر من 158 ألف عقد عمل على منصة العمل عن بُعد.
ولتحقيق الاستدامة في سوق العمل، استمر الدعم الحكومي لجهات التوظيف وبرامج التدريب والتمكين والإرشاد الموجهة للباحثين عن عمل من خلال برامج الدعم المحفزة، كما تم تقديم أكثر من 800 ألف فرصة تدريبية في العام 2023 من خلال إطلاق الحملة الوطنية للتدريب، وذلك في إطار تحقيق مستهدف عام 2025 بتقديم مليون فرصة تدريبية، بالإضافة إلى تنفيذ برامج تدريبية متعددة عبر مراكز التدريب والأكاديميات الوطنية المتخصصة.
واتجهنا أيضاً نحو تطوير أدوات جديدة، أهمها برنامج استحداث الوظائف الذي يعتمد على مراقبة العرض والطلب لبيانات سوق العمل وتحفيز خلق الفرص الوظيفية في المشاريع الاقتصادية الضخمة، كما ركزنا على ضمان جودة الوظائف ونقل المعرفة من خلال استقطاب العمالة الأجنبية في المهارات العالية، وتطبيق برنامج الفحص المهني للقادمين للعمل إلى المملكة للتحقق من امتلاك العامل المهني المهارات اللازمة لمتطلبات العمل في سوق العمل.
وبدأنا في نهاية العام 2022 بتطوير استراتيجية وطنية للمهارات والمعايير المهنية الوطنية تسهم في الكشف عن الفجوة في المعارف والمهارات والقدرات التي تتطلبها سوق العمل في الوظائف الحالية والمستقبلية، وتحقيق التوافق بين احتياجات سوق العمل ومخرجات التعليم والتدريب، وتحديد متطلبات وظائف المستقبل.
على الجانب الآخر، كان الالتزام بتحديد المستهدفات أمراً مهماً في بناء النموذج والوصول إلى النتائج عبر مؤشرات قياس كمية صارمة تغطي جميع أبعاد برنامج التوطين. بناءً على ذلك، ومن خلال هذا البرنامج وبدعم العديد من مبادرات استراتيجية سوق العمل، وصلنا إلى نتائج قياسية في نهاية الربع الأول من عام 2024 في مستويات البطالة، حيث انخفض معدل البطالة الإجمالي للسكان إلى 3.5%، في حين وصلت نسبة البطالة الإجمالية للسعوديين إلى 7.6%، وهي النسبة الأدنى تاريخياً، وواصل عدد العاملين السعوديين في القطاع الخاص تسجيل أرقام تصاعدية، حيث بلغ أكثر من 2.36 مليون سعودي وسعودية في الربع الأول من عام 2024، وهو رقم قياسي لم نصل إليه قبل هذه الفترة. وارتفعت مساهمة القطاع الخاص في توظيف السعوديين بنسبة 1.4% مقارنة بعام 2023، لتصل إلى 51.9%. وعلى مستوى المرأة، وصل معدل المشاركة الاقتصادية للإناث السعوديات إلى 35.8% في الربع الأول من عام 2024 مقارنة بـ 17% في عام 2017. كما ارتفعت نسبة النساء في المناصب الإدارية العليا والمتوسطة من 28.6% في عام 2017 إلى 43.8% في الربع الأول من عام 2024.
وأسهمت مبادرات أخرى في دعم برنامج التوطين، على سبيل المثال، حققنا نسبة عالية في توثيق عقود العاملين إلكترونياً، حيث وثّقنا أكثر من 8 ملايين عقد عمل إلكتروني، وطورنا منصات تقنية متعددة لضمان حماية الأجور بنسبة التزام بلغت 100%، وطورنا أساليب ولوائح الرقابة وضبط نسب التوطين وتسهيل التعاملات الإلكترونية للمتعاملين في سوق العمل. وارتفعت أجور السعوديين في العديد من المهن الفنية المتخصصة، وزادت مشاركة الأفراد السعوديين في الاقتصاد التشاركي، وغيرها من المزايا التي دعمت الثقة في سوق العمل السعودية عموماً.
إن برامج توطين الوظائف تضع المملكة العربية السعودية على الطريق الصحيح نحو التغيير، من خلال تحسين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، وزيادة فرص العمل للمواطنين، وتعزيز التنمية المستدامة، وتحويل المملكة إلى نموذج عالمي ومركز لاستقطاب المهارات والمواهب العالمية وتنميتها وتطويرها. ونتيجة لكل هذه الجهود والتطلعات تقدمت المملكة 5 مراتب في المحور الفرعي "سوق العمل" لتنتقل من المرتبة العاشرة في 2023 إلى المرتبة الخامسة في 2024، وذلك وفقاً لتقرير الكتاب السنوي للتنافسية العالمية 2024، كما احتلت المرتبة الأولى في مؤشر "نمو التوظيف طويل المدى"، والمرتبة الأولى في مؤشر "نمو القوى العاملة طويل المدى"، والمرتبة الثالثة في مؤشر "تشريعات البطالة"، والمرتبة الرابعة في مؤشر "العمالة الأجنبية عالية المهارة".
واليوم، بعد إنجاز 80% من استراتيجيتنا الحالية التي حققت نتائج إيجابية في برامجها ومبادراتها المكتملة، انتقلنا إلى تصميم استراتيجية محدثة لسوق العمل السعودية تحمل توقعات ووعود جديدة لنا جميعاً، وتصنع نموذجاً إقليمياً يتناسب مع التوجهات العالمية ويتجاوز تحديات المستقبل بمرونة وكفاءة عاليتين لتكون سوق العمل السعودية من أفضل أسواق العمل الرائدة على مستوى العالم. ويدعم ذلك بلا شك، التقييم المستمر للسياسات وقياس أثرها على سوق العمل والاقتصاد، ومراجعة المخرجات الوطنية على المستويات كافة عبر لجان حكومية مشتركة تراقب النتائج.
ختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن جميع هذه الجهود والإنجازات جاءت نتيجة للدعم الحكومي المستمر بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله- ومتابعة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء المستمرة للأهداف الوطنية، وتحفيز التكامل الحكومي، وتأكيد ضرورة مواصلة تجاوز تحديات التغيير، والعمل بهدف تحقيق التطلعات المرجوة.