تعتبر عمليات الاندماج والاستحواذ (M&A) من الاستراتيجيات الأساسية لنمو العديد من الشركات، لكن لا يمكنك النمو عن طريق الاستحواذ وحده، فالشركات التي تعتمد على النمو الطبيعي بشكل كبير؛ تحقق عوائد أكبر للمساهمين من تلك التي تعتمد على النمو الاستحواذي فقط. إلا أنه لا يزال النمو الطبيعي مربكاً بعض الشيء، إذ أنه من الأيسر الانتقال بالمؤسسة من كبيرة إلى أكبر من خلال الدمج والاستحواذ؛ عن الانتقال إلى مؤسسة كبيرة عن طريق فكرة جديدة تعتمد على ريادة الأعمال.
لا يُعزى هذا الفشل إلى قلة المحاولة، إذ أنّ الشركات تكرّس الكثير من الوقت والمال والجهد لتحقيق النمو الطبيعي؛ إلا أنه تقع المشكلة في أنّ العديد من تلك الشركات لديها "نظام تشغيل" خاطئ للنمو الطبيعي.
بالنسبة لمعظم الشركات، تتم إدارة عملية الاندماج والاستحواذ وعملية النمو الطبيعي مثل إدارة عملية "إطلاق الصاروخ"، حيث من الممكن ضياع قدر كبير من التخطيط في تنبؤ كل سيناريو ممكن وفي العمل على منع حدوث أي خطر محتمل، وبمجرد إطلاقه، يتم إدارة هذه الفرصة بأسلوب الإدارة التفصيلية لضمان أنّ كل شيء يسير وفق الخطة.
ربما يكون هذا الأسلوب قد نجح في الماضي عندما تحولت الأسواق بصورة تدريجية، لكن في بيئة الأعمال العالمية التي تتغير بشكل جذري، فإنّ الأسواق تتحول بسرعة كبيرة. ببساطة تحدث الكثير من الأمور بصورة غير متوقعة، ويكمن حل هذه المشكلة عن طريق الانتقال بطريقة التفكير من أرضية "إطلاق الصواريخ" إلى "المختبر"، إذ يتوجب عليك أن تجرّب وتتكيف وتتعلم بشكل متواصل – عوضاً عن التحليل والتخطيط والتحسين.
خلال عملنا مع عشرات الشركات الكبرى على استراتيجيات النمو والتحول، وجدنا مجموعة من المبادئ والممارسات المتبعة التي من شأنها أن تخلق نظام تشغيل يعزز النمو. ويستند هذا النظام على أنجح نموذج متبّع لخلق القيمة خلال القرن الماضي - وهو النظام الإيكولوجي لوادي السيليكون، والذي تم اعتماده ليُطبق من قبل المؤسسات الكبيرة، وتتمثل عناصره الرئيسية في: أولاً، شركات ناشئة مؤسسة من قبل أشخاص متخصصين بالكامل، ثانياً، قاعدة مستثمرين تحقق النمو، ثالثاً، فريق مرن يسعى إلى كسب الخبرات، وبناء القدرات، وتخطي الحواجز.
إليك ثلاث استراتيجيات يتعين على شركتك القائمة اتباعها لضمان تحقيق تحولات رئيسية من أجل اعتماد نظام التشغيل هذا والانطلاق في رحلة النمو الطبيعي:
ابحث بذهنية المؤسس (وليس بذهنية المدير)
الخطوة الأولى هي إيجاد المطلب الذي يبحث عنه المؤسس، هذا يعني العثور على مشكلة حقيقية بحاجة إلى حل، والتي تلهمك لخلق ميزة من خلالها. وما يخلق هذا المطلب هو عدم وجود منتج معين حالياً في السوق أو عدم وجود طلب حالي من المستهلكين. ونتيجة لذلك، سوف تُظهر بحوث السوق لك "سوق إجمالي مستهدف" (TAM) وهو صغير من حيث الحجم. لكن، ما يقوم به المؤسسون الناجحون عوضاً عن ذلك هو التركيز على "مشكلة إجمالية مستهدفة" (TAP)، وبدلاً من النظر إلى حجم الحصة السوقية التي يمكنهم الاستحواذ عليها مقابل "منتجات" موجودة سابقاً، فإنهم ينظرون إلى حجم السوق الذي يمكنهم خلقه من خلال إيجاد حلول للـمشاكل الموجودة بالفعل.
على سبيل المثال، كانت شركة متخصصة بإنتاج السلع الاستهلاكية المعبأة قلقة بشأن أنّ جيل الألفية لم يكونوا يتوجهون إلى منتج معين بالقدر الذي كان يفعله آباؤهم، وكانت تلك الشركة تخسر حصتها السوقية - وذلك ليس لصالح العلامات التجارية الأخرى التي تبيع نفس المنتج، ولكن لصالح أطراف أخرى ومزودي الخدمات الذين يقدمون حلولاً متكاملة، مثل التطبيقات حسب الطلب أو المتاجر الصغيرة. توجهت الشركة أولاً نحو اكتشاف "كيف تستعيد حصتها السوقية ضمن جيل الألفية؟"، وهذا ما يسمى التطلع إلى "سوق إجمالي مستهدف"، وبعد الانتقال إلى ذهنية "المشكلة الإجمالية المستهدفة"، أدركوا أنه قد تكون هناك فرص للعمل في الحيز الذي تمنحه العملية التجارية ما بين شركة وأخرى (B2B)، وذلك من خلال الشراكة مع مزودي خدمات التطبيقات حسب الطلب والمتاجر الصغيرة.
يتطلع المدراء على تعظيم حصتهم السوقية من أحد المنتجات الحالية، بينما يعمل المؤسسون على إيجاد أسواق جديدة لحل المشاكل القائمة والتي تفتقر إلى الخدمات.
اختبر بذهنية رائد الأعمال (وليس بذهنية المهندس)
الخطوة الثانية هي الاختبار بذهنية رائد الأعمال، بعد العثور على "مشكلة إجمالية مستهدفة"، لا يمكنك فقط إطلاق منتج وانتظار حصول الأفضل. كما لا يمكنك أن تفكر بذهنية المهندس وتحاول التعامل مع أي خطر محتمل أو حالات عدم اليقين. بينما يتوجب عليك القيام بالاختبار للتحقق من المشكلة والحل ونموذج العمل للانطلاق في السوق.
أثناء إجراء الاختبار، من الضروري مراقبة ما نسميه "مسرح الابتكار" – أي إقناع نفسك والآخرين بأنك على المسار الصحيح وذلك لتبرر القرارات التي اتخذت في الماضي. كما عليك أن تكون صارماً في اختبارك للعثور على الحقيقة السوقية الفعلية، حتى تتمكن من الإعلان عن القرارات الواجب اتخاذها في الحاضر والمستقبل.
على سبيل المثال، كانت إحدى مؤسسات الخدمات المالية تسعى لخلق حلول جديدة ضمن برنامج الإقراض الخاص بها، وكما هو حال المؤسسات المشابهة الأخرى بعد الأزمة الاقتصادية، أصبحت المؤسسة حذرة متحفظة في إجراءات منح القروض. ولكن من خلال سلسلة من التجارب السريعة والمنخفضة التكاليف، تمكنت من تحديد تخصص مربح على صعيد الإقراض الشخصي ومنتج مبتكر ذي قيمة عالية للمستهلكين وعوائد ممتازة معدلة المخاطر للمؤسسة.
استغرقت العملية بأكملها بدءاً من الإعلان عن الخطة وحتى إطلاق المنتج في السوق أقل من 12 شهراً، أي أقل من ثلث الزمن الذي استغرقته عملية إطلاق المنتج الجديد السابق. كان من الأهمية بمكان لهذا الوقت السريع للانطلاق في السوق وجود ثقافة "الصراحة الحادة" ضمن الفريق، التي عملت على إبقائهم مركزين على ما كان يقوله السوق، عوضاً عن ما أرادوا تصديقه، أو ما يثبت صحة افتراضاتهم السابقة.
استثمر بذهنية صاحب رأس المال المغامر أو الجريء (وليس بذهنية مصرفي)
تتبنى معظم الشركات خلال استثمارها بفرص النمو الجديدة ذهنية المصرفي، إذ أنهم يريدون ضمان حصولهم على عائد الاستثمار، ويفضلون كسب العوائد التراكمية "المضمونة" على "احتمالية" كسب العوائد الهائلة. في المقابل، فإنّ أصحاب رؤوس الأموال الجريئة، يركزون على مبدأ المحفظة الاستثمارية، ويدركون أنه ليس بالضرورة أن يخلق كل استثمار يقومون به عوائد إيجابية، ويتطلعون إلى القيمة الإجمالية للمحفظة، ويضمنون أنهم سوف يكسبون خبرة من كل استثمار، ما سوف يساعدهم على تعظيم العائد على تلك المحفظة.
وتُعتبر إحدى الطرق التي تمكنت المؤسسة المالية آنفة الذكر من خلالها تسريع الوقت لدخول السوق؛ هي القيام بتجارب متعددة في زمن واحد. كانوا يعلمون أنّ معظم تلك التجارب سوف تفشل، وسوف يؤدي ذلك إلى خسائر متزايدة. لكن التجربة التي نجحت في النهاية خلقت مكاسب هائلة، وعوّضتهم عن تكاليف التجارب الأخرى.
نحن ندرك تماماً بأنّ هذا أسلوب مختلف جداً من ناحية طريقة التفكير والعمل لدى الشركات القائمة، لكنه في نفس الوقت يخلق، بعد فترة وجيزة من عدم الاستقرار وعدم اليقين، قدراً كبيراً من الطاقة والحماس والإبداع.
وهناك ميزة أخرى لا بدّ من ذكرها؛ ففي تجربتنا هذه نؤكد على أنّ العامل الأكثر أهمية في نجاح أي عملية استحواذ هو التوقيت، إذ حتى أفضل الصفقات سوف تفشل إذا كان التوقيت مبكراً جداً أو متأخراً جداً. يمكن أن يكون البحث عن الشركات التي تحقق نمواً طبيعياً باستمرار، يمكّن من خلق أرضية اختبار ملائمة لاستراتيجيات الاندماج والاستحواذ المحتملة، وإنّ التعلم الواقعي والتجارب التي تُقام ضمن الأسواق الحقيقية تعني أنك لا تحصل على الفرصة الصحيحة فحسب، بل تُعلمك أيضاً متى يكون أفضل توقيت، وتكون النتيجة نمواً طبيعياً أفضل ونسبة نجاح أعلى لعمليات الاندماج والاستحواذ.