مع توجه أنظار العالم نحو أجندة العمل المناخي، فإن ريادة المسار نحو المستقبل المستدام تتطلب مشاركة وتعاون أنظمة الطاقة الحالية والمستقبلية. وبينما يكافح العالم للتعامل مع الأزمة الثلاثية للطاقة المتمثلة في ضمان أمن الإمدادات، والقدرة على تحمل التكاليف، وتعزيز ممارسات الاستدامة، تجد دول مجلس التعاون الخليجي نفسها عند لحظة حاسمة. ونظراً لإرثها الطويل في مجال النفط والغاز، تتمتع دول المنطقة بمكانة فريدة لقيادة الانتقال نحو المستقبل المستدام الذي يطمح إليه العالم. ومع ذلك، فإن هذا المسار لا يقتصر فقط على التقدم التقني؛ فهو يتطلب جهداً منسقاً يشمل قطاعات متعددة.
ولا يمكن إنكار أهمية الترابط بين القطاعات المختلفة في تحقيق الحياد المناخي والوصول إلى صافي الصفر من الانبعاثات الكربونية. ويمكن للتدابير التي يتم اتخاذها في أحد القطاعات أن يكون لها آثار مضاعفة على القطاعات الأخرى. على سبيل المثال، ستتطلب عملية اعتماد وسائل النقل الكهربائية زيادة توليد الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة، ما يؤثر بشكل مباشر على كل من قطاع الطاقة والصناعات المنخرطة في عمليات إنتاج المركبات الكهربائية والبطاريات. وبالمثل، فإن الأهمية المتزايدة للهيدروجين كوقود نظيف سوف تتطلب تطوير البنية التحتية الجديدة لعمليات الإنتاج والتوزيع، الأمر الذي يعني مشاركة قطاعات متعددة من النقل إلى الصناعة.
لقد أسهمت الأسس التاريخية لدول مجلس التعاون الخليجي في مجال النفط والغاز في تشكيل نسيجها الاقتصادي وتزويده ببنية تحتية قوية وجاهزة ليتم استخدامها في عصر الطاقة المستدامة، إضافة إلى أن الفرص والإمكانات الرئيسية، مثل كفاءة الطاقة، في متناول اليد، نظراً للأصول المتقدمة الموجودة في المنطقة. ومع ذلك، فإن الرحلة المقبلة لا تنحصر فقط في الاستفادة من نقاط القوة الحالية، حيث تمثل رؤية دول مجلس التعاون الخليجي لترسيخ مكانتها كمركز صناعي إقليمي وعالمي، أمراً محورياً في جذب المستثمرين العالميين. وبفضل الإدارة المبسّطة والنهج الاستباقي للابتكار، تتمتع المنطقة بوضع جيد يسمح لها باتخاذ خطوات كبيرة في مشاريع مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ويتطلب المستقبل اتباع نهج تحولي، مع التأكيد على أهمية توسيع نطاق الإمكانات والموارد وتعزيز التعاون عبر القطاعات المتعددة وسلاسل التوريد.
وبهدف تعزيز المستقبل المستدام، تم تحديد خمس توصيات رئيسية لدعم صنّاع القرار:
- بناء نموذج ديناميكي خاص بكل دولة لتحقيق الحياد المناخي: يجب على كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي صياغة نموذج متعدد القطاعات بما ينسجم مع خصائصها الفريدة والعمل في الوقت ذاته على تعزيز نمو اقتصادها.
- اختيار المسار الصحيح لتحقيق الحياد المناخي: يُعد وضع نماذج لخيارات متعددة أمراً بالغ الأهمية، مع الأخذ بعين الاعتبار التأثيرات المالية والفوائد الاجتماعية والاقتصادية على نطاق أوسع.
- فرص النمو الاقتصادي الأخضر: توفر الإمكانات الهائلة للطاقة الشمسية في دول مجلس التعاون الخليجي والمبادرات المزدهرة في مجال الهيدروجين الأخضر فرصاً مثمرة لدفع عجلة النمو الاقتصادي.
- مشاركة أصحاب المصلحة وتعزيز الحوكمة: تُعد المشاركة الواسعة والعميقة لمختلف الجهات المعنية وأصحاب المصلحة، إلى جانب آليات الحوكمة الواضحة، أمراً محورياً في دفع هذا التحول.
- صياغة سياسات فعّالة: ستكون السياسات الشاملة والفعّالة مفيدة في تحقيق هذه الطموحات، جنباً إلى جنب النماذج التقنية الاقتصادية.
مبادرات واعدة في مجلس التعاون الخليجي
تقدم العديد من دول مجلس التعاون الخليجي أمثلة يحتذى بها في ما يتعلق بمبادرات الاستدامة. وتعمل عُمان، التي حددت هدفها المتمثل في تحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2050، على تسخير مقوماتها الطبيعية، مثل الإشعاع الشمسي العالي وسرعات الرياح، لدعم تطلعاتها للمستقبل المستدام. وقد حددت السلطنة أهدافاً واضحة بزيادة الطاقة التي يتم توليدها من المصادر المتجددة إلى 20٪ من إجمالي مصادر الطاقة بحلول عام 2030، فضلاً عن توجهها بشكل كبير نحو اعتماد الهيدروجين الأخضر في توليد الطاقة، بهدف إنتاج 1 إلى 1.25 مليون طن سنوياً من الهيدروجين الأخضر بحلول عام 2030. ويسلّط إنشاء شركة هيدروم (هيدروجين عمان) للإشراف على القطاع، إضافة إلى خطط السلطنة للتركيز على إنتاج الصلب الأخضر محلياً، الضوء على جهود عمان في هذا الاتجاه. إضافة إلى ذلك، فإن التأثيرات الاقتصادية المتوقعة جديرة بالملاحظة، حيث من المتوقع أن تساهم مبادرات الهيدروجين الأخضر بما يصل إلى 50% في الناتج المحلي الإجمالي للسلطنة بحلول عام 2050.
وفي السياق نفسه، تهدف المملكة العربية السعودية إلى تحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2060. وتعمل المملكة على تسخير مجموعاتها ومقوماتها الصناعية الضخمة وإمكانات تخزين ثاني أكسيد الكربون في طيات التكوينات الجيولوجية. ويعد مركز الجبيل لالتقاط الكربون واستخدامه وتخزينه، والذي يهدف إلى التقاط ما يصل إلى 9 ملايين طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً اعتباراً من عام 2027، دليلاً على التزام المملكة العربية السعودية. وإلى جانب الفوائد البيئية، من المتوقع أن تؤدي مبادرات التقاط الكربون واستخدامه وتخزينه في المملكة العربية السعودية إلى خلق عشرات الآلاف من فرص العمل، ما يسلّط الضوء على التأثيرات والفوائد الاقتصادية المحتملة لمثل هذه المساعي.
تحديات واستراتيجيات التحول الأخضر
وتظل قضية تمويل مشاريع التحول إلى الاقتصاد الأخضر من التحديات البارزة، حيث يتطلب الأمر ضح استثمارات كبيرة في قطاع الطاقة المتجددة وتبني التقنيات المستدامة. ومن الضروري ضمان تقاسم ازدهار الاقتصاد الأخضر بين الجميع، ولا سيّما بالنظر إلى القوى العاملة الكبيرة في قطاعي النفط والغاز. ومن الضروري أيضاً وجود إطار سياسي قوي يدعم هذا التحول، بما في ذلك تسعير الكربون، ودعم الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتقديم حوافز لاعتماد مصادر الطاقة النظيفة. على سبيل المثال، من الممكن أن يساهم إرساء معايير واضحة، من خلال قوانين البناء وتدابير كفاءة استهلاك الوقود، جنباً إلى جنب مع الاستثمارات العامة الاستراتيجية في مصادر الطاقة المتجددة والنقل، إلى تسريع وتيرة التحول. ويشكّل الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى إجراءات الحوكمة المبسّطة، والتقدم التكنولوجي، مجموعة من العوامل التي تجعل من دول الخليج وجهة جذابة للمستثمرين العالميين.
وتتجلّى جهود دول مجلس التعاون الخليجي ومساعيها لدعم الأهداف العالمية لمكافحة التغير المناخي في طموحاتها الاستراتيجية نحو المستقبل المستدام. وتشكل التحديات جزءاً طبيعياً في مسار التحول نحو الاستدامة، ولكن المبادرات التعاونية في المنطقة والتركيز على العمل عبر القطاعات تظهر تقدماً ملموساً وشاملاً. ومن خلال التركيز على النهج الدائري مع أصحاب المصلحة والجهات المعنية، تدرك دول مجلس التعاون الخليجي أهمية وجود سياسات وخرائط طريق واضحة لتسريع عملية التخلص من الانبعاثات الكربونية. ومع شروعها مسبقاً في تنفيذ مشاريع واسعة النطاق، تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بوضع جيد لقيادة مسار تحول الطاقة، ما يضمن لها مستقبل أكثر استدامة وإنصافاً للجميع.
يمكن الاطلاع على مزيد من الرؤى هنا.