كان يعقوب شريكاً في شركة استشارات معروفة ووالداً مرتقباً في الوقت ذاته، الأمر الذي أدخل البهجة إلى قلبه. ولكن مع دنو موعد قدوم مولوده، بات يشعر بالخوف بشكل متنام. فكيف له ولزوجته التي تعمل لساعات طوال كطبيبة أن يجدا الرعاية المثلى لطفلتهما المنتظرة؟ وهل بمقدوره الاستفادة من إجازة الأبوة السخية المتوفرة في شركته من دون أن يحصد انتقادات وأحكاماً سلبية من قبل زملائه وزبائنه؟ وإزاء جدول أعماله المكتظ والمليء بأسفار العمل، كيف له أن يكون أباً حاضراً ومحباً لمولودته الجديدة؟
بذلت غاليا، التي كانت تعمل في مجال إدارة بعض صناديق رؤوس الأموال المغامرة (أو ما تسمى برؤوس الأموال الجريئة)، قصارى جهدها للتوفيق بين تلبية حاجات ورغبات مستثمريها وشركائها في العمل من جهة وطفليها الصغيرين من جهة أخرى. لكنها كانت في كثير من الأحيان تشعر بالإرهاق وتتساءل ما إذا كان مدراؤها مستائين من خروجها المتكرر من العمل لمراجعة روضة طفليها أو عيادة طبيبتهما. ولقد كانت تتفهم انزعاج بعض زملائها من خروجها المنتظم من العمل في الساعة 5:30 (معترفة بأنها "لم تكن من قبل تخرج في هذا الوقت المبكر")، وكان يقلقها أنها لم تعد تكلَّف بمهام صعبة المنال يخولها إنجازها الحصول على الترقية.
كانت كاتيا كبيرة مدراء تكنولوجيا المعلومات في شركة متخصصة بالمنتجات الاستهلاكية، وأماً وحيدة لابن في سن المراهقة. ولقد مرت بأوقات صعبة كانت تسعى فيها لمساعدة ابنها على إنجاز عملية قبوله في الجامعة وتجهد نفسها في الوقت ذاته لتقديم أفضل أداء ممكن في ظل ظروف تحول صعبة كانت تمر بها شركتها. ولقد كانت كلما عادت متأخرة إلى البيت تدرك أن ما تبقى لها من وقت لتقضيه مع ابنها قبل النوم غير كاف للتواصل معه وتلبية حاجاته بالشكل الأمثل. وبسبب هذه الضغوط لاحظت كاتيا أنها قد أصبحت فظة مع زملائها في مكان العمل – الأمر الذي بدأ كبار مدرائها يأخذونه عليها.
لقد كان يعقوب وغاليا وكاتيا – وهي أسماء مستعارة مع تغيير بعض تفاصيل قصصهم – أذكياء ومجتهدين في عملهم وملتزمين بمصلحة مؤسساتهم. بيد أنهم كانوا أيضاً على نفس الدرجة من الالتزام تجاه أطفالهم. وهكذا فجميعهم كان يتصدى لما أسميه مشكلة الآباء العاملين: أي إنجاز المهمة العظيمة الضاغطة لوجستياً وعاطفياً، والمتمثلة في كسب العيش وتحقيق مسار مهني مشرف من ناحية، وفي الوقت ذاته تأدية دور الأب (أو الأم) المحب والمتحمل للمسؤولية من ناحية أخرى.
هؤلاء النماذج ليسوا أمثلة منفردة، فأكثر من 50 مليون أميركي يحاولون الموازنة بين متطلبات العمل وتربية الأطفال – ويجدون صعوبة كبيرة في ذلك. وفي الواقع بحسب دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) في العام 2015، فإن 65% من الآباء العاملين الذين يحملون شهادات جامعية – وبالتالي يحصلون على مناصب وأجور أفضل من الآباء ذوي سويات التعليم الأدنى – قد أفادوا أن تلبية متطلبات العمل والأسرة في الوقت نفسه أمر "صعب إلى حد ما" أو "صعب جداً". وبالطبع لا تقتصر هذه الحال على الولايات المتحدة فقط؛ حيث إن الإحصاءات التي أجريت في البلدان الأخرى لا تقل دلالة وإثارة للدهشة عن مثيلاتها في الولايات المتحدة.
إن هذه المشكلة حقيقية وواسعة الانتشار وتشكل بالنسبة للأمهات والآباء الذين يتعين عليهم تدبرها يوماً بعد يوم تحدياً مرهقاً. فأن تكون من الآباء العاملين يتطلب منك تأدية سلسلة غير منتهية من الواجبات والتعامل مع المشاكل والظروف المحرجة. وليس هنالك من قواعد ومقاييس واضحة تسترشد بها للنجاح في هذه الحال، وقد لا يتاح لك إجراء مناقشة صريحة مع مدرائك، لأنك قد تخاف من أن توسم بانعدام التركيز وبكثرة الشكوى والتذمر وبما هو أسوأ من ذلك. وعلاوة على ذلك قد تستمر المشكلة لأكثر من 18 عاماً من دون أي تراجع في حدتها، فبرغم مرور السنين قد تشعر بنفس سوية الضغط التي شعرت بها بعد عودتك من إجازة الأبوة.
وفي ظل هذه الظروف الصعبة من الطبيعي أن تشعر بالتعب وأن يساورك الشك بخياراتك وأدائك وأن تنظر إلى حياتك بوصفها ارتجالاً ومجازفات مستمرة. ولكن ليس من الضروري أن تكون الأمور على هذه الحال. فبمقدورنا جميعاً أن نكسب المزيد من الهدوء والثقة والسيطرة، وبالتالي نقوي قدراتنا على النجاح وحتى الاستمتاع بأدوارنا كآباء وأمهات عاملين وعاملات.
ما يمكن أن يفعله المدراء
هل تتساءلون عن أعظم قوة للاحتفاظ بالآباء العاملين وتنشيطهم؟ إنهم المدراء العاملون في الخطوط الأمامية. فيما يلي عرض موجز لما يتعين على القادة معرفته والقيام به لدعم الأمهات والآباء العاملين وتحويلهم إلى قوة دفع لأداء الفريق.
استوعب التنوع الديموغرافي للآباء العاملين. هنالك طيف متنوع جداً من الآباء العاملين: ذكور وإناث وآباء لأطفال من مختلف الأعمار. وهؤلاء جميعاً يحتاجون – ويستحقون – نفس الدعم المؤسسي والإداري.
أظهر التزامك الشخصي بأسرتك وأولادك. علق صوراً شخصية لك مع أسرتك وأولادك، إذا كان لك أولاد، بشكل ظاهر في مكتبك. واسمح لأفراد فريقك بالاطلاع على مفكرتك وما تتضمنه من التزامات شخصية وعائلية. وأرسل رسالة واضحة إليهم بأنه من المقبول أن يكون الإنسان العامل مهتماً بأسرته وبأنك أنت شخصياً تفتخر بانتمائك إلى أسرتك.
أعلن عن الميزات التي تقدمها شركتك. إن برنامج الرعاية الاحتياطية للطوارئ الذي تدعمه مؤسستك لن يفيدك في الحفاظ على موظفيك ما لم يعرفوا بشأنه ويعرفوا كيف يستفيدوا منه. ولذلك يتعين عليك أن تظل دائماً على علم بالموارد المتاحة للآباء العاملين في مجموعتك وأن تعلمهم بكل جديد في هذا الشأن.
درب الآباء العاملين ووجههم من خلال طرح الأسئلة المفتوحة. إن سؤالاً بسيطاً من نمط "كيف تتصور سير الأمور عندما تعود من الإجازة؟" أو "كيف تسير الأمور؟" من شأنه أن يطلق حواراً بناءً وموجهاً نحو إيجاد الحلول.
خفض التزامات بداية يوم العمل ونهايته قدر المستطاع. حاول تحديد مواعيد الاجتماعات الداخلية والانتقائية خارج الأوقات التي قد يكون فيها الآباء العاملون بحاجة للتعامل مع إجراءات انتقال رعاية أطفالهم. (وهذا لا يعني خفض سوية الالتزام بحضور تلك الاجتماعات، بل مجرد تغيير مواعيدها).
كن صلة وصل غير رسمية. عرّف الآباء المرتقبين في فريقك على زملاء سبق لهم أن مروا بتلك التجربة وذهبوا في إجازة أبوة على سبيل المثال. وادع الآباء العاملين في قسمك إلى اجتماع غداء لتبادل الخبرات حول رحلات العمل وتنظيمها في ظل الالتزامات الأسرية. فمن شأن ذلك أن يشعر الآباء العاملين بالدعم ويزودهم بمعلومات عملية مفيدة حول ما ينجح وما لا ينجح في هذا الصدد.
على مدار الـ 15 سنة المنصرمة التي قضيتها أولاً كرئيسة فريق تطوير القيادة في اثنتين من مؤسسات قائمة "فورتشن 500"، والآن كمدربة مستقلة للمدراء التنفيذيين وكمتخصصة بموضوع مخاوف الآباء العاملين حصرياً، قمت بتعليم مئات الرجال والسيدات وتدريبهم، بما فيهم النماذج الثلاث التي ذكرتها أعلاه، الذين يبذلون قصارى جهدهم للتوفيق بين تطوير مسارهم المهني وتربية أطفالهم – ولقد خضت بنفسي هذا التحدي بصفتي أماً عاملة. وبينما نجد التحديات التي نواجهها متعددة ومتنوعة من حيث تفاصيلها، فإن غالبية الحالات يمكن وضعها ضمن 5 تصنيفات أساسية: مراحل التحول، وإجراءات العمل، والتواصل، والخسارة، والهوية. ولقد وجدت أن استيعاب الأشخاص الذين عملت معهم لهذه المسألة وتعلّمهم كيف يتعرفون على أنماط التحديات التي يواجهونها، يشعرهم مباشرة بالثقة والقوة والسيطرة، الأمر الذي يفسح المجال أمام اتخاذ بعض إجراءات المعالجة الملموسة والقابلة للتطبيق.
سننظر في هذه المقالة نظرة قريبة إلى التحديات الأساسية التي يواجهها الآباء العاملون، ومن ثم سنناقش بعض الطرق الفعالة لمواجهة تلك التحديات. كما إننا سنرى كيف طبق كل من يعقوب وغاليا وكاتيا هذه الأفكار على أرض الواقع – وكيف بمقدوركم أنتم أيضاً أن تستفيدوا منها.
قد تستمر مشكلة الآباء العاملين لأكثر من 18 عاماً من دون أي تراجع في حدتها.
فهم التحديات الخمس الأساسية
وأنت تواجه الضغوط الناجمة عن دورك كأحد الآباء العاملين، اسأل نفسك السؤال التالي: ما هو نوع الصعوبات التي أواجهها؟ في الغالب سيكون الجواب واحدة أو أكثر من الصعوبات التالية:
مراحل التحول. يحدث هذا التحدي عندما يكون وضعك الراهن قد تغير، فتجد نفسك تكافح للتأقلم مع الوضع الجديد. ولعل العودة إلى العمل بعد إجازة الأمومة أو الأبوة، هو المثال الكلاسيكي الواضح لهذا التحدي. بيد أن مراحل التحول بالنسبة للآباء العاملين تحدث على الدوام وبأشكال مختلفة. فعندما ينتهي العام الدراسي ويخرج الأطفال في العطلة الصيفية، تتغير جميع مواعيدك؛ وعندما توظف مربية جديدة لطفلك، عليك أن تدمجها في روتين الأسرة اليومي؛ وعندما تعود من رحلة عمل، عليك أن تنقل نظام تفكيرك وسلوكك من المهني إلى الأسري.
إجراءات العمل. يشمل هذا التحدي كل قوائم مهامك وواجباتك وإجراءاتك اللوجستية وكل ما يرتبط بها من مسائل كبيرة وصغيرة تستهلك جزءاً كبيراً من أيامك ولياليك. ومن الأمثلة على ذلك البحث عن الروضة المناسبة لطفلك، والوصول في الوقت المحدد إلى عيادة طبيبة الأطفال (ومن ثم الإسراع إلى الصيدلية وشراء المضادات الحيوية)، وإطعام طفلك كل مساء، وإجراء مكالمة عمل مهمة انطلاقاً من المنزل بينما يشاغب طفلك في خلفية الحديث الجدي.
التواصل. تواجهين هذا التحدي عندما يتعين عليك مناقشة أمور متعلقة بالآباء العاملين فتجدين نفسك عاجزة عن الكلام أو تخشين أن يساء فهمك. فربما ترغبين بإبلاغ زملائك أنك حامل، أو تطلبين من رئيسك أن يمنحك مرونة في اختيار أوقات العمل التي تناسبك، وربما تحتاجين للتفاوض مع زوجك حول جدول توصيل طفلكما إلى الروضة وإعادته منها إلى البيت، وربما ترغبين في إخبار طفلك ذي السنوات الخمس أنك ستسافرين مجدداً في رحلة عمل لبعض الوقت. ومع أن هذه المواضيع على درجة كبيرة من الأهمية ومع أنك ترغبين فعلاً في مناقشتها بحسن نية، إلا أن الحوار الصريح والبناء الذي تتمنينه يبقى بعيد المنال إلى حد الإحباط.
الخسارة. ينطوي هذا التحدي على شكل من أشكال الأسى. فربما يخطو مولودك الصغير أولى خطواته وأنتِ بعيدة عنه في مكان العمل؛ وربما لم يُرشَّح اسمك للمشاركة بمشروع عمل من شأنه أن يؤدي إلى ترقيتك لأنك اتخذت قراراً مقصوداً بتخفيض عدد ساعات عملك. والآن يساورك القلق من أن تخسري أموراً مهمة حقاً عندما تحاولين التوفيق بين العمل والأسرة.
الهوية. تختبرين هذا التحدي عندما تتصدين للصراع الداخلي في شخصيتك ولنمط تفكير إما/أو الذي لا يمكن تفاديه عندما تكونين من الأمهات العاملات. فهل ستؤدين يوم الخميس دور الأم وتحضرين مباراة كرة القدم التي سيشارك فيها ابنك، أم ستكونين مندوبة مبيعات وتشاركين في لقاء البيع الحاسم مع أحد الزبائن الجدد؟ وهل أنت موظفة تأخذ على عاتقها المهام الشاقة، أم أنك أم حنون وعطوف على طفلك؟ ما هي الحالة الصحيحة والواجبة، وما هي حالتك على أرض الواقع؟ لا شك أنك تتمنين لو كانت لديك أجوبة أكثر وضوحاً عن كل الأسئلة السابقة.
الحلول والوقاية
كما يعلم جميع الآباء العاملين، فإنه لا يمكن حسم التحديات الخمس السابقة بشكل تام 100%. ولكن يمكن معالجتها استباقياً والتخفيف منها وإدارتها؛ ومن بين الطرق الأقوى والأكثر قدرة على المساعدة التدرب على إنجاز مراحل التحول؛ ومراجعة التزاماتك وتخطيط مفكرتك؛ وتحديد إطار لدورك كأحد الآباء العاملين؛ واتباع نهج التفكير بالمستقبل بعد 20 سنة من الآن؛ وإعادة صياغة هويتك المهنية باستمرار. والآن لنستكشف كل طريقة من الطرق الخمس السابقة على حدة.
التدرّب. لا يمكن تفادي مراحل التحول في الحياة العملية، ولكن يمكن التخفيف من متاعبها من خلال التدريب. فإذا كنت ستعودين قريباً إلى العمل بعد انقضاء إجازة الأمومة على سبيل المثال، حاولي التدرب على العودة قبل حلولها بأيام قليلة: استيقظي باكراً، وهيئي طفلك لتسليمه للمربية، واذهبي إلى مكان عملك وكأنك ستداومين حقاً. وإذا كنت تخططين لتبديل المربية حاولي أن يكون اليوم الأول للمربية الجديدة يوماً تدريبياً بوجودك وانجزي ما هو ضروري من مهامك الوظيفية وأنت في المنزل وكوني على استعداد للإجابة عن الأسئلة. وإذا كنت في طريقك إلى البيت بعد رحلة عمل خارجية أو فترة عمل طويلة، فكري للحظة في كيفية الانتقال إلى حالة الأم: تصوري كيف تستقبلين الأولاد بالترحاب وكيف ستقضون المساء سوياً.
من شأن مثل تلك التدريبات أن تكشف الأخطاء المحتملة، الأمر الذي يسمح بتفاديها (كأن تتطلب عملية تسليم طفلك للمربية وقتاً أطول مما توقعتِ؛ أو تكتشفي أن المربية الجديدة لا تعرف أين تجد الحفاضات الاحتياطية؛ أو تجدي نفسك غارقة في التفكير في مراجعة أدائك في العمل بينما ترافقي ابنك الملتحق بالصف الأول الابتدائي هذا اليوم إلى السرير). والأهم من ذلك أن التدرب يمنحك فرصة لتعزيز الثقة بالنفس. إنه يخرجك من الذهنية السائدة لدى الآباء العاملين بأن عليهم "الاجتهاد أكثر لتحسين صورتهم"، إلى ذهنية الرضا عن الذات التي تنطلق من مقولة "لقد سبق لي أن تدربت على تلك المهمة؛ وأنا على ثقة بأنني سأنجح في إنجازها".
المراجعة والتخطيط. بوصفك من الآباء العاملين، لا شك في أنك تقوم بحجم من المهام وطيف من الواجبات أكبر وأوسع من أي وقت مضى. وهذا يعني أن عليك التفكير بذهن صاف ووعي متقد قدر المستطاع حيال كيفية قضاء وقتك واستثمار جهدك – وإلا أنهكتك التحديات وفقدْت السيطرة العملية.
حاول أن تجلس وأمامك مفكرتك وقوائم واجباتك ممسكاً بيدك قلماً أحمر. أشر بقلمك إلى الالتزامات والمهمات والواجبات التي أنجزتها خلال الأسبوع المنصرم والتي كان بإمكانك إما تأجيلها، وإما معالجتها بفاعلية أكبر، وإما تفويض الآخرين بها، وإما أتمتتها، وإما رفضها – ومن ثم قم بالأمر ذاته بالنسبة للأسبوع التالي. فإذا كان من غير الضروري أن تحضر الاجتماع القادم على سبيل المثال، اعتذر عن الحضور واربح ساعة من الزمن؛ وإذا كنت تطلب نفس المنتجات الاستهلاكية كل أسبوع، اطلب تزويدك بها بشكل منتظم. كن صارماً ولا تتهاون – واعمل بشكل منهجي تبعاً لمواضيع واجباتك ومهماتك. فربما تستصعب عموماً رفض طلبات مدرسة أطفالك فيما يخص الأعمال التطوعية، أو ربما تبالغ في تجهيز نسخ منقحة من بيانات أرقام الموازنة الربعية.
من شأن هذا الإجراء أن يقصر قائمة مهماتك وواجباتك ويوفر وقت فراغ في مفكرتك أنت بأمس الحاجة إليه. كما إنه يمنحك من الناحية العاطفية شعوراً بالقوة والتحكم لأنك تتصرف بشكل مبادر ومسؤول. كما إن الرؤى الشخصية التي تكتسبها من مراجعة مفكرتك وقوائم مهماتك (مثل "إنني أبالغ في قبول طلبات الآخرين"، أو "قد أكون ممن ينشدون الكمال") يمكن أن تساعدك على إطلاق أحكام أكثر وعياً بشأن وقتك والتزاماتك المستقبلية.
تحديد إطار. لتسهيل تواصل الآباء العاملين وجعله أكثر فاعلية، يتعين عليك التفكير في نفسك وكأنك تضع ذلك التواصل ضمن إطار محدد بأربعة أوجه تمثل أولوياتك، والخطوات التالية، والالتزامات، والحماسة.
لنفترض أن ضغط العمل كبير بشكل خاص في هذا اليوم، بيد أنك بحاجة ماسة لمغادرة مكان عملك بعد الظهر بهدف حضور مسرحية ستشارك فيها ابنتك. أخبر زملاءك: "أنا ذاهب الآن لحضور مسرحية ابنتي، وسأعود في الساعة 3:30، ومن ثم سأراجع موجز أنشطة التسويق وأعد نسخة جديدة منقحة منه بحيث يمكننا مناقشتها غداً. أتطلع إلى عرض الموجز بشكله النهائي على الزبون قريباً!" ولا شك في أن تصريحاً كهذا على سبيل المثال أفضل بكثير من القول باقتضاب وخجل: "سأخرج لبضع ساعات"، لأن التصريح الأول يشرك المستمعين بتفاصيل خططك المهنية والشخصية، ويبدد أي مخاوف حيال تعطل إنجاز المهمات الضاغطة، ويظهر التزامك وتفانيك في العمل لمصلحة الفريق. وبهذه الطريقة تكون قد وضعت ما تقوم به ضمن إطار وجهة نظرك الخاصة الصادقة والإيجابية وتفاديت احتمال سوء الفهم قدر المستطاع.
نهج التفكير "بالمستقبل بعد 20 سنة من الآن". قد تكون لديك في مهنتك حوافز تدفعك لتركيز اهتمامك على المدى الزمني المتوسط. فقد تُكافَأ على إكمال ذاك المشروع الذي مدته ستة أشهر، أو على تحقيق الإيرادات السنوية المستهدفة، أو تنفيذ تلك الخطة الاستراتيجية الطموحة الممتدة على مدار ثلاث سنوات. ولكن بوصفك من الآباء العاملين، فإن هذه الآجال الزمنية تشكل ضغوطاً عاطفية كبيرة، لأنها تنطوي على سلبيات وخسارة محتملة كبيرة بالنسبة لغالبية الآباء العاملين. فعندما تكون قد عدت لتوك من إجازة الأبوة على سبيل المثال وتجلس في مكتبك حزيناً لأنك تفتقد طفلك فإنك ستجد صعوبة كبيرة في التفكير على المدى المتوسط الممتد على مدار ستة أشهر أو سنة.
جرب الاستراتيجية البديلة التالية عندما تجد نفسك في مواجهة تحدي الخسارة: فكر ضمن إطار المدى القصير جداً والمدى الطويل جداً في الوقت نفسه. فصحيح أنك تفتقد طفلك كثيراً في اللحظة الراهنة لكنك ستعود قريباً إلى المنزل وستراه في غضون ساعات، ولعلك تعلم جيداً أنك بعد عدد ليس بالقليل من السنوات ستكون قد أعطيت طفلك مثالاً رائعاً في الإصرار والالتزام والاجتهاد. وبعبارة أخرى، يتعين عليك الإقرار بالواقع واحترام عمق مشاعرك الراهنة، والبحث عن إمكانية لتهدئتها، ومن ثم التفكير في المستقبل البعيد نسبياً حيث تنتظرك نتائج نهائية إيجابية.
إعادة صياغة الهوية. نمتلك غالبيتنا رؤى وتصورات راسخة ومحفورة في مخيلتنا حول هويتنا المهنية والصورة التي نرغب في أن نظهر بها أمام الآخرين. ولكن من الضروري تعديل بعض تفاصيل تلك الهوية وإعادة صياغتها بعد أن نغدو آباء وأمهات. فإذا كان الاستعداد الدائم للاستجابة جزءاً أساسياً من هويتك وشخصيتك المهنية على سبيل المثال، فإنك من المرجح أن تشعر بالتشتت أثناء اجتماعك مع الأسرة لتناول طعام العشاء: فربما تنظر إلى نفسك كشخص غير مسؤول في حال تجاهلت رنين هاتفك الذكي أثناء العشاء، في حين قد تشعر كأب بتأنيب الضمير إن نظرت إلى شاشة الهاتف لترى من المتصل. لقد تحول ما كان في الماضي يعد مؤشراً إيجابياً على الالتزام وتحمل المسؤولية في العمل، إلى حالة كلاسيكية من انعدام الربح، فلقد خسرتَ اعتدادك بنفسك كشخص مسؤول وملتزم بقضايا العمل؛ كما خسرت اللحظات السعيدة كأب يحرص على تناول الطعام مع أولاده وتكريس الوقت لمشاركتهم.
وتجدر الإشارة إلى أن إعادة صياغة الهوية لا تعني تخفيض معاييرك، بل تعريف معايير جديدة مهمة؛ وللمساعدة في إنجاز ذلك حاول إكمال الجمل التالية بما يعبر عن هويتك الجديدة: "أنا من الآباء العاملين الذين يهمهم..."، و"أعطي الأولوية لمسؤولياتي المهنية عندما..."، و"أعطي الأولوية لأطفالي عندما...". فمن خلال هذا التمرين قد تقرر أنك بدلاً من إعطاء الأولوية لأن تكون متاحاً دائماً، ستختار النظر إلى نفسك بوصفك شخصاً يجيد التواصل مع الآخرين بفعالية وتعقل ووضوح – وقد تتعهد بأن تكون لأطفالك أولوية اهتمامك أثناء تناول العشاء معهم، ما لم يكن هنالك حالة طارئة في العمل.
خلاصة القول بعد أخذ كل ما سبق بالحسبان
أتذكرون يعقوب، الأب المرتقب؟ لقد كان يشعر، مثله مثل غالبية الآباء العاملين، بضغوط العديد من التحديات، وكان يرغب في احتواء آثارها السلبية على إجازة الأبوة التي كان يخطط لها وعند عودته إلى العمل بعد انتهاء تلك الإجازة. ولقد بدأ معالجة حالته تلك بوضع إطار لمحادثاته مع العملاء، من خلال الإعلان عن غيابه الوشيك، وتحديد فترة ذلك الغياب بدقة، والتأكيد على وفائه بجميع التزاماته، وشرح كيفية ضمان قيام فريق عمله بكل ما يلزم لتنفيذ المشاريع الاستشارية المهمة. ولقد تفاجأ يعقوب برد الفعل الإيجابي على إعلانه حتى إن ذلك أتاح له توثيق بعض علاقاته مع الزبائن ومنحها بعداً شخصياً إضافياً لم يكن متوفراً فيما سبق. وبعد مراجعة مفكرته بعد عودته من الإجازة، اختصر يعقوب عدداً من لقاءات العمل المقرر انعقادها أثناء رحلته إلى بعض المدن البعيدة ورأى أن بمقدوره عقدها من مكان عمله عن بعد، الأمر الذي وفر عليه وقتاً ثميناً سيتمكن من قضائه مع طفلته الصغيرة. (ولاحقاً عندما كان في طريقه من رحلته إلى المنزل، ذكر نفسه بأن الرحلة كانت قصيرة وأن العودة إلى المنزل ستكون مفرحة – وأن النجاح المهني الذي حققه أثناء الرحلة سيؤمن له مستقبلاً مالياً مستقراً يريح الأسرة برمتها). وخلال شهر إجازة الأبوة التي قضاها في المنزل، قام هو وزوجته بوضع خطة استباقية ومنقحة لرعاية طفلتهما وقررا الاستعانة ببعض أفراد أسرتيهما في الأيام التي تكون فيها زوجته الطبيبة مناوبة. وبعد عدة شهور من انتهاء إجازة الأبوة التي نفذها أفاد يعقوب أنه مشغول أكثر من أي وقت مضى لكنه يشعر أن كل شيء تحت السيطرة وعلى المسار الصحيح.
خلصت غاليا إلى أنها بمحاولتها إرضاء الجميع أخذت على عاتقها حجماً مبالغاً به من المهام والواجبات. ولذلك ساعدتها إعادة صياغة هويتها بوصفها "شريكاً مستقبلياً في ملكية الشركة وأماً حنون وملتزمة" على استبعاد بعض الالتزامات التي لا تتفق مع أي من الدورين الأساسيين في هويتها الجديدة. وهكذا احتفظت غاليا بجميع مسؤولياتها المرتبطة بالاستثمار، واستمرت بالخروج من المكتب في نفس الوقت وأصرت على أن تذهب لمراجعة عيادة طبيبة الأطفال متى اقتضت الحاجة؛ لكنها بدأت بالتخلي عن جزء من مهامها الداخلية – كتنظيم نشاط الاستراحة السنوية للشركة – وقلصت عدد أنشطتها التطوعية في مدرسة طفليها وحصرته بنشاط واحد في كل فصل دراسي. كما منحتها عملية إعادة صياغة هويتها المهنية قدراً كافياً من الوقت والوضوح والثقة للتحضير لمحادثات بناءة وفعالة مع مدرائها، تمكنت فيها من تأطير خطة طموحاتها وجدول رغباتها بشكل أفضل.
أما كاتيا، فلقد أدركت أن تراكم ضغط العمل وضغط الانتقال القريب لابنها إلى الجامعة قد شكل تحديات جديدة في حياتها كأم عاملة. ولقد تمكنا معاً من وضع خطة للتخفيف من آثار تلك التحديات عليها من الناحيتين الشخصية والمهنية. فبعد مراجعة مفكرتها وقوائم مهماتها، قامت بتفويض بعض المهام المتكررة إلى الأعضاء الجدد في فريق العمل وكرست الوقت الذي كسبته من جراء ذلك للخروج مع ابنها وحضور أحد الأنشطة الثقافية مرة في الأسبوع. وعندما كانت مواعيد تقديم طلبات التسجيل في الجامعة تتضارب مع مواعيد تسليم الأعمال، كانت تستخدم تقنيات التأطير لكي تشرح لزملائها بهدوء وروية غيابها الاضطراري والمؤقت عن مكان العمل، بدلاً من أن تفاجئهم وتزعجهم بذلك الغياب. كما استفادت أيضاً من نهج "التفكير بالمستقبل بعد 20 سنة من الآن" لكي تضع حالتها الراهنة ضمن الإطار الزمني الأوسع، وتدرك أن الأمور لن تدوم على هذا النحو. فضلاً عن ذلك، عندما كان ابنها يبيت خارج المنزل في زيارة لأحد زملائه كانت كاتيا تتدرب على قضاء الأمسيات وعطلة الأسبوع بمفردها، ومن خلال تطويرها لأنشطة وعادات جديدة تملأ بها وقت فراغها بدأ توترها يتلاشى رويداً رويداً.
ليس من السهل أن تكون أباً عاملاً (أو أماً عاملة). بل إن ذلك يمثل معركة كبرى مزمنة ومعقدة وضاغطة عاطفياً تستهلك جميع قوى الشخص الذي يخوضها. ولكن كما هي الحال مع جميع التحديات الأخرى، فإن هذا التحدي يغدو أقل صعوبة كلما جزأته إلى أجزاء أصغر. وإذا ما امتلكت رؤية أكثر وضوحاً للمشاكل التي تواجهها واستراتيجيات خاصة وفعالة للتعامل معها، فإنك ستكون أكثر قدرة على تحقيق النجاح في عملك – وفي الوقت ذاته تأدية دور الأب (أو الأم) الذي ترغب في تأديته في المنزل.