ربما يكون الحجم هو أداة التسويق الأكثر إهمالاً. في عملية بحث أجريتها على محرك البحث "إيبسكو" (EBSCO)، ضمن المقالات العلمية في مجال الأعمال، وجدت ما لا يقلّ عن 1,890 مقالة نشرت في المجلات الأكاديمية المتخصصة بالتسويق خلال السنوات العشر الماضية حول السعر، ولكنني لم أجد إلا 22 مقالة تتطرق إلى قضايا متعلقة بحجم العبوات أو الخدمات. على ما يبدو نادراً ما يشكك مدراء التسويق بأحجام المنتج التي ورثوها من قبل، ولا يخضعون هذه الأحجام لأي مساءلة.
في بعض الأحيان، ربما تكون هذه الأحجام قد فرضت فيما مضى بموجب القوانين، ولكن في معظم فئات المنتجات، أصبحت هذه القوانين على الأغلب متقادمة وغير سارية المفعول منذ زمن بعيد (إلا في بعض الحالات الخاصة). فعبوات الزبدة في الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، كان من المفروض أن يكون الحد الأدنى لوزنها هو 225 غراماً (8 أونصات)، ما يعني أن أحجام عبوات الزبدة في أميركا كانت مختلفة عن أحجام عبوات الزبدة المباعة في أوروبا، أي 125 غراماً أو250 غراماً أو 500 غرام. وعلى الرغم من إلغاء هذه القوانين، حافظت شركات تصنيع الزبدة على هذه الأحجام في كلتا المنطقتين.
وعندما يغير المسوقون أحجام المنتج، فإن هذا التغيير يكون دائماً في اتجاه واحد تقريباً: أي أنهم يزيدون حجم المنتج. وهذا الأمر منطقي من الناحية المالية في الصناعات ذات النفقات الثابتة العالية والنفقات المتغيرة المنخفضة: تمكّن الأحجام الأكبر الشركة من تقاضي أسعار أعلى، حتى لو كانت هذه الأحجام أكبر قليلاً، وتمتص نسبة أعلى من التكاليف الثابتة، وتقلل في نفس الوقت تكاليف التعبئة والتغليف لكل وحدة، وتستقطب الزبائن المهتمين بالقيمة. ومن هنا تأتي العروض الضخمة والمغرية على علب الفشار والمشروبات الغازية في صالات السينما، حيث إن كوباً ضخماً من المشروبات الغازية سعة 51 أونصة لا يكلف دولاراً إضافياً واحداً زيادة عن الكوب الصغير سعة 30 أونصة، حيث يبلغ ثمنه 4.75 دولاراً. ومع ذلك، أظهرت ماريون نيستل (Marion Nestle)، في كتابها الجديد "المشروبات الغازية – سياسات الأغذية" (Soda Politics)، أن هذه الصفقة أقل كرماً مما تبدو عندما ندرك بأن الكوب الأكبر حجماً لا يكلف صالة السينما سوى 21 سنتاً إضافياً مقارنة مع الكوب الصغير.
ولكن هل يعتبر تكبير الحجم أمراً منطقياً ضمن السياقات الأخرى الاعتيادية؟ الجواب عملياً هو لا. فقد تبين بأن الاستراتيجية الذكية تتمثل في فعل العكس تماماً.
بداية، يمكن أن يكون لتقليل حجم المنتج مقابل سعر معين (أو حتى مقابل سعر أخفض وأقل تناسباً مع التخفيض في حجم المنتج) استراتيجية عظيمة لخفض التكاليف عندما تكون معظم التكاليف متغيرة وليست ثابتة، وعندما تكون تكاليف الإنتاج والعمليات المرتبطة ببيع وحدات إضافية منخفضة، وعندما تتزايد التكلفة مع زيادة حجم المنتج. ضمن هذا السياق، يمكن أن يؤدي تقليص الحجم إلى زيادة المكاسب المتصورة للمنتج من خلال تلبية مطالب الزبائن التاليين:
الزبائن الذين يحتاجون إلى كميات أصغر، مثل الأسر المؤلفة من أشخاص عازبين والتي تشهد تزايداً في أعدادها أو الزبائن الذين يخشون من إمكانية فساد المنتجات ومن تكاليف التخزين.
الزبائن الذين يعانون نقصاً في السيولة، والذين يحتاجون إلى أحجام تناسب موازناتهم المحدودة، سواء كان الأمر على شكل مواد تستعمل لمرة واحدة أو خدمات هاتفية تحتسب فيها الأسعار بالثانية.
الزبائن الذين يريدون تحسين طريقة تحكمهم باستهلاكهم الشخصي والذين يدركون أن إرادتهم ضعيفة وهم مستعدون لدفع مبلغ إضافي لتقليل حجم الإغراءات التي يتعرضون لها، سواء كانت تلك الإغراءات هي قطع مع الشوكولاته أو الدخول إلى الإنترنت.
الزبائن الذين يختلف منظورهم للقيمة عن منظور المنتجين. على سبيل المثال، عندما يشتري المستهلكون ورق الحمام فإنهم يعتبرون بأن الوحدة الأساسية هي "لفة الورق"، ولا يهتمون عادة بحجم كل "لفة ورق"، فضلاً عن حجم الورق نفسه. ولكن من وجهة نظر الشركة المصنعة القضية ببساطة هي حجم الورق الذي تستطيع بيعه. وبالتالي، فإن هناك فرصة لبيع كمية أقل من الورق مقابل سعر معين ببساطة من خلال تقديم عدد أكبر من اللفائف ولكن بحجم أصغر وبورق أصغر حجماً، وهذا ما يفسر سبب التراجع الكبير في أحجام اللفائف والأوراق مع مرور السنين.
الزبائن الذين يعتبرون الأحجام الصغيرة بوصفها إشارات تدل على الجودة والندرة، وهذا أمر شائع في البضائع الفاخرة.
هناك العديد من الأمثلة على عمليات ناجحة لتقليص الحجم. ففي أحدث كتاب قمت بتأليفه أنا وبريان وانزينك، وحمل عنوان "تصميم منتجات رشيقة" (Slim by Design)، يشير برايان إلى أن 57% من الأميركين تقريباً مستعدون لدفع ما يصل إلى 15% زيادة كثمن لمنتجات بحجم معين مضبوط. في تجربة أجراها في المطاعم، وجد بأن تسعير وجبة بنصف حجم الوجبة المعتادة بـ 70% من سعر الوجبة المعتادة الكاملة كان أكثر من كافٍ لتعويض انخفاض هوامش الأرباح نتيجة استقطاب زبائن إضافيين.
إذا كنتم تعتقدون أن هذه الأمثلة مجرد أمثلة نظرية، فإليكم المثال التالي من "كوكاكولا": بعد الاعتماد على حجم وحيد، وهو الزجاجات ذات سعة 6.5 أونصة (190 سل) لأكثر من 50 عاماً، طرحت "كوكاكولا" العلب المعدنية سعة 12 أونصة في ثمانينيات القرن العشرين، وأتبعتها بعدد مذهل ومتنوع من الأحجام والأشكال. أما اليوم، فإن مبيعات العبوات التقليدية سعة 12 أونصة و20 أونصة في تراجع، بينما ارتفعت مبيعات العلب المعدنية والزجاجات الجديدة سعة 8 أونصات 17% خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام 2015. والأهم من ذلك، أن الشركة لم تعد تركز على عدد الجالونات التي تبيعها كل عام، وإنما على تلبية ما يطلبه زبائنها من أحجام مناسبة.
الخلاصة الأساسية هنا وزبدة القول هي أن العديد من المسوقين يتجاهلون أداة قوية وبسيطة لتحسين هوامش أرباحهم. من خلال التفكير بالحجم والسعر بطريقة استراتيجية، ومن خلال الموازنة بين تأثير كفتي الميزان هاتين، سيجدون طرقاً عديدة لتحقيق أرباح أكبر من خلال بيع منتجات أقل.