إليك هذا المقال الذي يتناول دعم صحة الموظفين النفسية تحديداً. حالة الغموض التي نشهدها في الوقت الحالي تتسبب في شعورنا بالقلق. فما بين تزايد حالات المصابين بمرض "كوفيد-19" والتساؤلات عما إذا كان ينبغي إعادة فتح الاقتصادات والشركات والاحتجاجات المستمرة في أعقاب مقتل جورج فلويد والتداعيات الاقتصادية للجائحة، لا نعلم ما يخبئه لنا المستقبل. وهذا يؤثر سلباً على صحتنا النفسية، بما في ذلك أثناء العمل. ولذلك يجب على المدراء في أماكن العمل أخذ موضوع دعم صحة الموظفين النفسية بعين الاعتبار.
وقد شهدنا أثراً مبكراً أثناء الجائحة. ففي نهاية شهر مارس/آذار وبداية أبريل/نيسان، أجرت منظمتنا غير الربحية "مايند شير بارتنرز" (Mind Share Partners) دراسة على الموظفين حول العالم بالاشتراك مع شركة "كوالتريكس" (Qualtrics) وشركة "إس أيه بي" (SAP). وقد وجدنا أن الصحة النفسية لما يقرب من 42% من المشاركين تدهورت منذ بدء تفشي الوباء. وبالنظر إلى كل ما حدث منذ ذلك الحين حتى الآن، لا يمكننا أن نتصور سوى أن هذه النسبة قد ارتفعت بالتأكيد. لقد قيل الكثير حول هذا التأثير قصير المدى على الصحة النفسية، ومن المرجح أن تكون التأثيرات طويلة الأمد أوسع نطاقاً.
ضاعفت الكثير من الشركات قبل جائحة كورونا تركيزها على الصحة النفسية في مكان العمل (غالباً استجابة لضغوط الموظفين). وقد أصبحت هذه الجهود ضرورية بشكل أكبر في الوقت الحالي.
ونظراً إلى أننا سنمر بالعديد من التحولات على مدار الأشهر والسنوات القادمة، فمن المرجح أن يرى القادة الموظفين يعانون من القلق والاكتئاب والاحتراق الوظيفي والصدمات النفسية واضطراب ما بعد الصدمة. وهذه التجارب المتعلقة بالصحة النفسية ستختلف وفقاً للعِرق والإمكانات الاقتصادية ووضع المواطنة ونوع الوظيفة والمسؤوليات المتعلقة بتربية الأطفال وتقديم الرعاية، والعديد من المتغيرات الأخرى. إذن، ما الذي يمكن للمدراء والقادة فعله لدعم الموظفين وهم يواجهون ضغوطاً جديدة وشواغل تتعلق بالسلامة واضطرابات اقتصادية. إليكم نصائحنا.
دعم صحة الموظفين النفسية
حتى في أكثر الأوقات غموضاً، يظل دور المدير كما هو: دعم أعضاء فريقه. وهذا يتضمن دعم صحتهم النفسية. الأمر الجيد هو أن الكثير من الأدوات التي تحتاج إليها لفعل ذلك هي نفسها الأدوات التي تجعلك مديراً فاعلاً.
تقبَّل ضعفك. من الجوانب الإيجابية للجائحة أنها جعلت التحديات المتعلقة بالصحة النفسية شيئاً طبيعياً. فقد عانى الجميع تقريباً من مستوى معين من الشعور بعدم الراحة. ولكن العالمية التي تتسم بها التجربة ستحد من الوصم فقط إذا شارك الأشخاص، وخاصة مَن هم في السلطة، تجاربهم. فالتحلي بالصدق حيال مشكلات الصحة النفسية التي تواجهها بوصفك قائداً يفتح الباب أمام شعور الموظفين بالراحة تجاه التحدث معك حول تحدياتهم المتعلقة بالصحة النفسية.
قبل جائحة كورونا، أنتجت شركة "روش جينينتيك" (Roche Genentech) المتخصصة في التقنية الحيوية فيديوهات يتحدث فيها كبار القادة عن صحتهم النفسية. وتم مشاركتها عبر الشبكة الداخلية للشركة باعتبارها جزءاً من حملة بعنوان "لنتحدث" (#Let’sTalk). وبعد ذلك فوضت الشركة "أبطال الصحة النفسية"، وهي شبكة من الموظفين المدربين على المساعدة في بناء الوعي بالصحة النفسية، لإعداد فيديوهات حول تجاربهم، وقد استُخدمت هذه الفيديوهات في حملات الشركة المتعددة للتوعية بالصحة النفسية. (اطلع على الملاحظة التي أوردها المحرر أدناه حول علاقتنا بهذه الشركة والشركات الأخرى التي ورد ذكرها في هذه المقالة).
لم يكن لدى هؤلاء الذين يعملون منا من المنزل أي خيار إلا التحلي بالشفافية بشأن حياتنا، فأطفالنا يقتحمون اجتماعاتنا التي نحضرها عبر الفيديو ويرى زملاؤنا في العمل أجزاء من منازلنا. وعندما يصف المدراء تحدياتهم، سواء كانت متعلقة بالصحة النفسية أم لا، فهذا يجعلهم يبدون آدميين ومتفهمين وشجعان. وقد أظهرت البحوث أن القيادة الأصيلة يمكنها غرس الثقة وتحسين مستوى اندماج الموظفين وأدائهم.
أظهر لموظفيك أنك تمارس سلوكيات صحية. لا تقل أنك تدعم الصحة النفسية فحسب، ولكن أعرب عن ذلك لكي يشعر أعضاء فريقك أن بإمكانهم إيلاء الأولوية للرعاية الذاتية ووضع حدود. في أغلب الأحيان يركز المدراء بشدة على رفاهة موظفيهم وإنجاز العمل لدرجة أنهم ينسون الاعتناء بأنفسهم. اذكر لهم أنك تتنزه في وسط اليوم أو أنك تحدد موعداً للخضوع لعلاج نفسي أو أنك تعطي الأولوية للعطلات المنزلية (وتغلق بريدك الإلكتروني خلالها فعلياً) لكي لا تصاب بالاحتراق الوظيفي.
ابنِ ثقافة التواصل من خلال تفقّد أحوال الموظفين. أصبح التواصل عن قصد مع كل مرؤوس من مرؤوسيك المباشرين بصفة منتظمة أكثر أهمية من ذي قبل. وهذا الأمر كان مهماً ولكن في الغالب غير مستغَل فيما قبل الجائحة. ولكن الآن مع عمل الكثير من الأشخاص من المنزل، قد يكون من الصعب ملاحظة الدلائل التي تشير إلى أن شخصاً ما يعاني. في دراستنا التي أجريناها مع شركة "كوالتريكس" وشركة "إس أيه بي"، قال ما يقرب من 40% من الموظفين حول العالم أن لا أحد في شركاتهم سألهم ما إذا كانوا بخير، وقد كانوا أكثر احتمالاً بنسبة 38% من غيرهم لأن يقولوا أن صحتهم النفسية تدهورت منذ تفشي الوباء.
لا تطرح السؤال العام "كيف حالك؟"، بل اطرح أسئلة محددة حول الدعم الذي سيكون مفيداً للموظف. وانتظر حتى تحصل على إجابة كاملة. وحاول الإصغاء باهتمام وحثهم على طرح أسئلتهم وشواغلهم. وبالطبع احذر من أن تكون متعجرفاً، ما يُعد علامة على انعدام الثقة أو رغبة في ممارسة الإدارة التفصيلية.
عندما يذكر شخص ما أنه يعاني، لن تكون دائماً على علم بما ينبغي لك قوله أو فعله. ولكن ما يهم هو توفير مساحة للاستماع إلى أعضاء فريقك وتفقُّد أحوالهم وأن تكون متعاطفاً. وقد لا يرغبون في مشاركة الكثير من التفاصيل معك، وهو أمر مقبول تماماً. ولكن معرفة أن بمقدورهم فعل ذلك هو ما يهم.
وفّر المرونة في العمل وحاول أن تشمل الجميع. توقع أن الموقف واحتياجات فريقك واحتياجاتك الخاصة ستستمر جميعها في التغير. لذلك تحقق من ذلك بصفة منتظمة وخاصة عند الفترات الانتقالية، حيث إنك لن تتمكن من حل المشكلات التي تطرأ ما لم تكن على علم بما يحدث. وهذه المحادثات ستمنحك أيضاً الفرصة للتأكيد مجدداً على القواعد والممارسات التي تدعم الصحة النفسية. فهذه المرونة الشاملة للجميع تتعلق بالتواصل الاستباقي ووضع معايير تساعد الموظفين على تصميم وصون الحدود التي يحتاجون إليها.
لا تضع افتراضات حول ما يحتاج إليه مرؤوسوك المباشرون؛ فهم على الأرجح سيحتاجون إلى أشياء مختلفة في أوقات مختلفة. ولكن ينبغي أن تتبع نهجاً مخصصاً لمعالجة الضغوط التي يتعرضون لها كالتحديات المتعلقة برعاية الأطفال أو الشعور بأن عليهم العمل طوال الوقت. لذلك امنحهم المرونة في العمل على نحو استباقي. وكن كريماً وعملياً قدر الإمكان. على سبيل المثال، أعلن جايسون فريد، الرئيس التنفيذي لشركة "بيسكامب" (Basecamp)، مؤخراً أن الموظفين الذين لديهم أي نوع من مسؤوليات تقديم الرعاية يمكنهم تحديد جدول مواعيدهم بأنفسهم حتى إن كان ذلك يعني العمل لساعات أقل. وهذه المراعاة لا تعني بالضرورة أن تخفض معاييرك. فالتحلي بالمرونة يمكن أن يساعد فريقك على النجاح والازدهار في ظل حالة القلق المستمرة التي نعيشها.
اجعل هذه المرونة أمراً طبيعياً وأظهرها من خلال تسليط الضوء على الطريقة التي غيرت بها سلوكك. على سبيل المثال، بادرت ستايسي سبرينكل، الشريكة في شركة المحاماة "موريسون آند فورستر" (Morrison & Foerster)، بإخبار فِرقها أنها تعمل في أوقات تختلف عن أوقات العمل المعتادة لرعاية أطفالها ودعتهم إلى مشاركة ما يحتاجون إليه للعمل على أفضل وجه أثناء فترة الجائحة.
اطلب من أعضاء الفريق أن يكونوا صبورين ومتفاهمين مع بعضهم البعض أثناء محاولتهم التكيف مع الوضع. ثق بهم وافترض حُسن النية. فهم يعتمدون عليك وسيتذكرون كيف عاملتهم أثناء هذه الفترة التي لم يسبق لها مثيل.
تواصَل بقدر أكبر مما تعتقد أنك بحاجة إليه. أظهرت دراستنا التي أجريناها مع شركة "كوالتريكس" وشركة "إس أيه بي" أن الموظفين الذين شعروا أن مدراءهم لم يكونوا جيدين في التواصل كانوا أكثر احتمالاً بنسبة 23% من غيرهم لأن تتدهور صحتهم النفسية منذ تفشي الوباء. لذلك احرص على إعلام فريقك بأي تغييرات مؤسسية أو مستجدات. ووضح أي تعديلات تُجرى على ساعات أو قواعد العمل. حاول القضاء على شعور الموظفين بالضغط قدر الإمكان من خلال وضع توقعات حول أعباء العمل وإعطاء الأولوية لما يجب إنجازه وتحديد ما يمكن إرجاء العمل عليه إن لزم الأمر.
اجعل فريقك على دراية بموارد الصحة النفسية المتاحة وشجعهم على استخدامها. فقد قال ما يقرب من 46% من جميع العاملين المشاركين في دراستنا إن شركاتهم لم تشارك معهم هذه الموارد على نحو استباقي. ولا تكتفِ بمشاركتها معهم مرة واحدة، بل شاركها مجدداً. واعلم أن الشعور بالخزي والخوف من الوصم يمنعان العديد من الموظفين من استخدام مزايا الصحة النفسية لالتماس العلاج، لذلك اجعل استخدام هذه الخدمات أمراً طبيعياً.
على الرغم من أن المدراء سيكونون في الخطوط الأمامية لمعالجة المشكلات المتعلقة بالصحة النفسية، فإن معظم كبار القادة في شركتك يقع على عاتقهم اتخاذ إجراءات في هذا الصدد أيضاً.
ما الذي يمكن لقادة المؤسسات فعله أيضاً؟
في تقريرنا "الصحة النفسية في العمل" لعام 2019، الذي صدر بالاشتراك مع شركة "كوالتريكس" وشركة "إس أيه بي"، كانت موارد الصحة النفسية المطلوبة بشكل عام في العمل هي بناء ثقافة أكثر انفتاحاً وتقبلاً وتوفير معلومات أكثر وضوحاً حول المكان أو الشخص الذي يمكن الذهاب إليه لطلب الدعم والتدريب.
تُعد الإصابة باضطرابات الصحة النفسية شائعة لدى أصحاب المناصب التنفيذية العليا كما هو الحال لدى فرادى المساهمين. ومشاركة التحديات المتعلقة بالصحة النفسية وإظهار السلوكيات الصحية تُعد من الخطوات الأكثر أهمية التي يمكنك اتخاذها. فيما يلي بعض الأشياء الإضافية التي يمكن للقادة فعلها لجعل الحفاظ على الصحة النفسية ودعمها أمراً طبيعياً في العمل.
استثمر في التدريب. ينبغي لك الآن أكثر من أي وقت مضى إعطاء الأولوية لتقديم تدريب استباقي ووقائي حول الصحة النفسية في مكان العمل للقادة والمدراء وفرادى المساهمين. قبل جائحة كورونا عقدت شركة "موريسون آند فورستر" وشركة "فيرايزون ميديا" (Verizon Media) اجتماعات مع كبار القادة لمناقشة دورهم في خلق ثقافة الحفاظ على الصحة النفسية. وقد جعلهما ذلك في وضع جيد يتيح لهما اجتياز هذه الفترة المثيرة للقلق. ونظراً إلى أن الكثير من الموظفين يعانون من اضطرابات في الصحة النفسية، من المهم دحض الخرافات الشائعة والحد من الوصم وبناء المهارات اللازمة لإجراء محادثات مثمرة حول الصحة النفسية في العمل. وإذا لم تكن لديك الميزانية اللازمة للاستثمار في التدريب، تُعد مجموعات موارد الموظفين لدعم الصحة النفسية طريقة منخفضة التكلفة لزيادة الوعي والمشاركة وتقديم الدعم للأقران.
عدِّل السياسات والممارسات. من أجل دعم صحة الموظفين النفسية ولتقليل الضغط الواقع على الجميع، كن كريماً ومرناً قدر الإمكان في تحديث السياسات والممارسات استجابة للوضع الذي سببته جائحة كورونا والاضطرابات المدنية. على سبيل المثال، قد تحتاج إلى إمعان النظر في القواعد والمعايير المتعلقة بساعات العمل المرنة والإجازات السنوية الممنوحة والبريد الإلكتروني ووسائل التواصل الأخرى والإجازات المدفوعة وغير المدفوعة. حاول التفكير في مراجعات الأداء بشكل مختلف بوصفها فرصاً للتعلم وتقديم الملاحظات بتعاطف وليس بوصفها تقييمات مقابل أهداف صارمة. في منتصف شهر مارس/آذار، أرسلت الرئيسة التنفيذية لمؤسسة "ويكيميديا فاونديشن" (Wikimedia Foundation) بريداً إلكترونياً إلى الموظفين في مؤسستها توضح التغييرات التي أُجريت لتخفيف الضغط الواقع عليهم، حيث قالت (من بين أشياء أخرى): "إذا كنتم بحاجة إلى تقليل [ساعات العمل]، فلا بأس بذلك". كما أنها التزمت بدفع أجور الموظفين بعقود والعاملين بالساعة على أساس ساعات عملهم المعتادة بغض النظر عن قدرتهم على العمل. عندما تجري تغييرات، اذكر صراحة أنك تفعل ذلك لدعم صحة موظفيك النفسية، إذا كان هذا هو هدفك بالفعل.
استطلع الآراء دائماً. لا يجب أن يكون ضمان المساءلة أمراً معقداً، ويمكن التعامل معه من خلال إجراء استقصاء بسيط لنبض الشركة بصفة منتظمة لمعرفة أحوال الموظفين في الوقت الحالي وبمرور الوقت. تُعد شركة "بلاك روك" (BlackRock) لإدارة الاستثمارات العالمية واحدة من الشركات التي أجرت استقصاءات نبض الشركة أثناء فترة الجائحة للتعرف على الضغوط الرئيسية التي تواجه العاملين وكذلك احتياجاتهم. وقد ساعدت إسهامات الموظفين المباشرة هذه في تصميم برامج جديدة، بما في ذلك بناء مهارات الإدارة عن بُعد لدى المدراء وتعزيز دعم صحة الموظفين النفسية وزيادة المرونة وفترات الراحة في العمل.
* * *
نرغب بالتأكيد في العودة إلى ما كانت عليه الحياة قبل الجائحة، إلا أن الأمور لن تعود كما كانت. لذلك دعونا نغتنم هذه الفرصة لبناء ثقافة مكان العمل الذي يحافظ على صحة الموظفين النفسية؛ وهي ثقافة من المفترض أن تكون مرسَّخة على الدوام.