حينما كنت في سن الخامسة والعشرين، فكّرت في تعلم قيادة الطائرات، حلمت بالطيران تحت سماء مدينة بيرث الخالية من السُحب، وبالفعل حضرت درساً في الطيران الانفرادي. كل ما أتذكره عن هذه التجربة، أنني كرهتها تماماً، وتحديداً، كرهت شعوري بعدم الأمان في أثناء وجودي في الجو من دون حدود واضحة؛ أنا وحدي ضمن محيط ثلاثي الأبعاد.
بعد مرور 21 عاماً سريعاً، وحينما أصبحت في سن السادسة والأربعين، فكّرت في إعادة محاولة التعلُّم، والتحقت بأحد دروس تعليم الطيران المدني، لكن هذه المرّة ثابرت، إلى أن قدت أول طائرة وحدي في عام 2008، لأحصل في أقل من عام على رخصتي. هذا الوقت القصير بين قيادتي للطائرة وحصولي على الرخصة يعني أن العمل في الأبعاد المتعددة لم يعد يزعجني كما كانت الحال قبل نحو 21 عاماً. لم أعد أشعر بالأمان فحسب، إنما شعر به أطفالي أيضاً، لدرجة أن ابني الصغير كان يغفو كثيراً في أثناء وجوده على متن طائرة تقودها والدته، واثقاً من أنها ستصل بهما إلى وجهتهما من دون أي مكروه.
هناك العديد من دروس القيادة التي تعلمتها من قيادة الطائرة، لكن أستطيع القول إن أكثر ما تأثرت به هو أن الأبعاد المتعددة لم تعد تخيفني، والأهم من ذلك، أنها ليست أقل خطورة مما كنت أعتقد فحسب، ولكنها تساعد في تقدمي. فعلى سبيل المثال، تُعد قيادة الطائرة في الحقيقة أقل تقييداً بكثير من قيادة السيارات؛ ففي السماء، لا وجود لإشارات المرور، أو الازدحامات المرورية التي قد تؤخرك، لكن إذا أُغلق المجال الجوي، فما عليك سوى التحليق حوله.
بصفتي رائدة أعمال وامرأة تشغل مناصب قيادية في الوقت نفسه وطالبة في أغلب فترات حياتي، أدركت أن الأبعاد المتعددة تعني خيارات متعددة، وقد أشرت إلى ذلك خلال مشاركتي في الجلسة الحوارية التي نظّمتها هارفارد بزنس ريفيو بعنوان "كيف تنتقل من عقلية الموظف إلى عقلية رائد الأعمال". لذلك، هناك 5 دروس في القيادة تعلمتها من قيادة الطائرة وأود أن أذكرها هنا:
يتناقص حِمل قمرة القيادة بمرور الوقت
عندما تتعلم قيادة الطائرة لأول مرة، هناك الكثير من الفحوصات التي يتعين عليك إجراؤها للبقاء آمناً. ففي البداية، يستغرق الأمر وقتاً طويلاً جداً لإجراء هذه الفحوصات، وكذلك يتطلب العثور على مكان وجود بعض الأدوات التي تحتاج إلى التحقق منها وقتاً. ولكن، بمرور الوقت، عندما تعتاد على قمرة القيادة والأدوات، وتتدرب أكثر على ذلك، ينتهي الأمر بأخذ بضع ثوانٍ، ما يتيح لك الاسترخاء والاستمتاع بالمناظر الطبيعية (والأهم من ذلك مراقبة الطائرات الأخرى). الممارسة تجعلك تقترب من الكمال، أو على أقل تقدير، ستوفر لك الوقت.
ينطبق الأمر نفسه في مجال الأعمال، سيأخذ الأمر منك في البداية وقتاً لتعتاد على ممارسات القيادة، وطرق التعامل مع الأزمات، حتى يصبح الأمر أشبه بالارتجال، فحتى الارتجال يتطلب تدريباً طويلاً. وكما يقول المدير الفني لمسرح الارتجال الشهير جوشوا فونك، فإنك "لن تجيد الارتجال إلا بعد سنوات من العمل الجاد". سوف تتحسن في الوظيفة التي تزاولها كلما عملت بها فترة أطول. وربما تكون الممارسة هي السبب في أن أداء القادة يشهد تحسناً بزيادة عدد المرؤوسين على مدار الوقت، وفقاً لدراسة حديثة.
قياس الأمور ومشاركتها كل مرة مع الآخرين
أحد أهم الأشياء التي يجب أن تعرفها في الطائرة هو مدى ارتفاعك عن الأرض؛ فعدم معرفة ذلك قد يتسبب في وقوع حوادث، وحتى وفيات. كيف يُقاس هذا؟ عن طريق قياس ضغط الهواء خارج الطائرة. جميع الطائرات من جميع الأحجام والمستويات المتطورة تفعل ذلك، لأن ضغط الهواء يتناقص تناقصاً موحداً مع الارتفاع، وبالتالي، فإن معرفة كل من ضغط الهواء في الخارج -والأهم من ذلك ضغط الهواء على الأرض- ستخبرك بمدى ارتفاعك. لذلك، فإن التواصل المتكرر مهم أيضاً. إذا لم تُحدّث معرفتك بانتظام (عن طريق اللاسلكي) بقياس ضغط الهواء على الأرض، فلن تعرف مدى ارتفاعك.
ستكون في حاجة إلى قياس بعض المؤشرات في عملك، ليس مرة واحدة فقط، بل بانتظام، معتمداً على مصادر متعددة، سواء كانت الموظفين أو البيانات أو الأدوات التقنية المخصصة للقياس، وسيتعين عليك مشاركتها أيضاً مع الأطراف المعنية، فكما يُقال دائماً: "ما لا يمكن قياسه، لا يمكن تحقيقه".
يجب أن يكون لديك مدرج كافٍ أمامك
عند الإقلاع أو الهبوط، كلما زادت مساحة المدرج أمامك، زاد هامش الأمان. (المدرج هو المساحة التي تحتاج الطائرة إلى قطعها قبل الإقلاع في الهواء، وكذلك الأمر عند الهبوط). ولكن، إذا لم يسر شيء ما كما هو مخطط له، فستكون هناك خيارات أمام الطيار، في هذه المساحة الواسعة للمدرج.
ينطبق الأمر نفسه على القادة، إذ يحتاج القادة إلى مدرج أمامهم؛ أي مساحة للخيارات المتعددة. بمعنى أنه يجب على القائد التأكد من أنه قد نظر في جميع الخيارات المتاحة لشركته في كل مرحلة من مراحل تطورها، ثم إذا حدث خطأ ما، يتعين أن تكون لديه المساحة لتغيير خططه.
يجب أن يكون لديك ما يكفي من الوقود في الخزان
يجب عليك تزويد الطائرة بالوقود في كل فرصة، فلا يمكنك دائماً الحصول على ما يكفي، ولكن كلما سنحت لك الفرصة لتزويد الخزان بالوقود، فسوف تفعل ذلك. لأنك إذا وصلت إلى وجهة ما ولم تتمكن من الهبوط، فقد يكون البديل الأقرب بعيداً عنك.
ينطبق هذا الأمر على استثمار القادة في أنفسهم، فإذا لم تستثمر في نموك الشخصي، فلن يكون لديك الطاقة اللازمة لقيادة شركتك خلال الأحداث التي قد تستغرق وقتاً طويلاً. قد يبدو الأمر أنانياً ولكنه استثمار حيوي في قيادتك لتوفير الوقت للراحة والتعافي، والتأكد من أنك تستثمر في التعلم مدى الحياة. إذ تظهر نتيجة أحد الأبحاث حول تطوير القيادة أن القادة الذين هم في وضع التعلم يطورون مهارات قيادية أقوى من أقرانهم. وقد كنت، كما أشرت، لفترة طويلة طالبة بالتزامن مع عملي موظفة، أو مديرة، أو حتى رائدة أعمال، فرحلة التعلم لا بد أن تكون مستمرة مدى الحياة.
لا يمكنك أبداً الحصول على ارتفاع كافٍ تحتك
يمكن للطائرات ذات الأجنحة الثابتة أن تنزلق لمسافات طويلة جداً في حالة تعطل المحرك، لذا فإن أحد أكثر الأشياء أماناً التي يمكنك فعلها هو أن تكون على أعلى مستوى يمكنك التحكم فيه، مثلما حدث في 1982، تعطلت محركات طائرة الخطوط الجوية البريطانية 747 جميعها على ارتفاع 37,000 قدم، ولكنها استطاعت الهبوط بسلام. لأنه دون دفع المحرك، يمكن لطائرة من هذا الطراز أن تنزلق للأمام مسافة 15 كيلومتراً مقابل كل كيلومتر تسقطه، وعندما تعطلت المحركات، قرر طاقم الرحلة بسرعة أن الطائرة قادرة على التحليق مدة 23 دقيقة وتغطية 91 ميلاً بحرياً (169 كم).
وفي عالم الأعمال، كلما امتلكت نظرة أكثر شمولاً، اتسع لديك الوقت للخروج من المشاكل، فكلما زاد المنظور العام لديك، أصبح من الأسهل تجنب الكارثة. لذلك، خذ وقتاً للتراجع عن عملك اليومي وانظر إليه من منظور أبعد. وهذه النصيحة التي يُجمع عليها أغلب خبراء الإدارة، إذ يجب ألا ينغمس القادة في أدق التفاصيل، بل إنهم سيتمكنون من التوصل إلى أفضل نتيجة من خلال الرجوع خطوة إلى الوراء كل حين، لرؤية الصورة من الخارج.
ساعدتني هذه الدروس في تحويل قيادة الطائرة إلى تجربة سهلة بل وممتعة، ويمكنها أن تساعدك أنت أيضاً في تحويل تجربتك في القيادة في عالم الأعمال إلى واحدة أكثر كفاءة وسلاسة. تذكرّ أن الممارسة والوقت سيجعلون مهامك أسهل، وأن استخدام مؤشرات القياس سيساعدك في تتبع التطور، ولا تنس أن تترك لنفسك مساحة للخيارات البديلة إذ من المحتمل ألا يسير كل شيء كما هو مخطط له، واجعل التعلُم رفيقاً لرحلتك مدى الحياة، وأخيراً خذ خطوة للخلف كل فترة لترى الصورة من الخارج كي تملك نظرة أكثر موضوعية. فهل أنت مستعد للإقلاع؟