"عزيزي صالح،
يسعدني إبلاغك، أنه تم استقبال أطروحتك البحثية لمرحلة الدكتوراة من قبل اللجنة، وتم الإعجاب بها.
في حال وجود خيار لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي) لإعطاء توصية خاصة، ستكون هذه التوصية من نصيبك.
ولكن بسبب عدم وجود خيار رسمي، يسعدني إبلاغك باستحقاقك للحصول على الدكتوراة بتميز وجدارة.
استمتعنا جميعاً بالعمل معك واستفدنا من خبرتك وعملك".
بهذه الكلمات كتب ستانفورد أندرسون، أستاذ التاريخ والعمارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، رأيه هذا وتوصيته لصالح الهذلول.
بعد مسيرة امتدت لأكثر من عقدين من الزمن لأستاذ العمارة صالح الهذلول وكيلاً لتخطيط المدن في السعودية، توقف السير لا المسير، وبدأ يقدّم خلاصات المعارف والتجارب في عدد من المحافل، وتوّجها أخيراً بسيرته الذاتية "تيسرت".
يرى الهذلول في الجرأة قيمة يدعم بها ثقته تجاه ما يعرف، وما يعتقد صوابه، امتدت هذه الجرأة لتقدم لنا سيرة شارحة لكل مراحل حياته، مبرزاً فيها الألم والأمل وموضحاً بها نقاط تقدمه وبعض مواضع تعثره، متجاسراً على بعض ما يتردد البعض في ذكره من مشاهد البدايات وتعثراتها الطبيعية.
"أراني في الماضي أنا وأسرتي على بساط الرمل العتيق وأنياب الحصير تلتهم أجسادهم، تأكلهم ألسنة البرد وفوقهم سحابة يأس قاتمة. يشعلون النيران في الحطب فيجلس الجميع حول النار ينعمون بدفئها، ويرمون في داخلها كل آلامهم وأوجاعهم، تغوص أصابعهم داخل النار صوب قطعة خبز تكاد تحترق فيفشلون في إنقاذها.
أهلي وعشيرتي يرتحلون منذ الأزل في صحراء شاسعة جرداء يعز فيها الماء، وجوع يأكل الأحشاء والأمعاء. أحياناً كثيرة يفترشون الغبراء، يلتحفون برد الشتاء. كل مكان كنا نقطنه كان بمثابة وطن لنا، وله منا إخلاص بمنزلة إيمان.
أسرتي كبيرة العدد ذائعة الصيت، لكنها تنزع دائماً إلى الرحيل سعياً إلى السكن أو طلباً للعلم أو العمل. أسلافي دائماً يلوذون بالفرار، يموتون مبكراً ويرحلون إلى رب رحيم غفار.
نعيش حياة كصحرائنا، قاسية صلبة شديدة، لكن من سماتنا الجميلة قيم القبيلة والعشيرة الوفاء ونجدة الجار وإغاثة الملهوف وكرم الضيوف ونبذ الضيم والعار".
افتتح سيرته بهذا المشهد العتيق، معلناً للقارئ أن المشاهد المقبلة مقاربة للواقع أو مطابقة له، وتُروى كما كانت، ليراها مثلما وقعت.
ومن قراءتي لـ "تيسرت" استخلص لكم ثلاثة دروس إدارية مهمة:
1. التشابه بين الفكرة المعمارية والمنهجية الإدارية
عند قراءة المواقف الإدارية، وبعض مشاهد الحياة العملية لأستاذ العمارة الهذلول، أجد بوضوح كيف انعكست الفكرة المعمارية بمنطلقاتها الثلاثة، على البرمجة الإدارية في حياته المهنية، وكيف استقى الفسلفة المعمارية، لتكون رافداً لتصورات إدارية عملية وعلمية، وهنا نرى كيف انعكست الفكرة المعمارية بقواعدها الثلاث على الجوانب الإدارية لديه، فالفكرة المعمارية أسسها ثلاثة:
أولاً: الشكل العام وتخيله، وتوزيع الكتل، وتأمل الفراغات، والتأكد من وجود علاقة واضحة بينها، كما يتم التأكد والتأكيد على ضرورة تشابك المعنى بينها.
وهذا المنطلق يعتبره أستاذ العمارة هو مرحلة الاستراتيجية في الأعمال، فكما أنه يصعب تصور فكرة الحصول على عمارة مميزة دون تصور عام للشكل، والكتل والفراغات، والعلاقة بينها في المرحلة الأولى، كذلك في الإدارة يصعب الحصول على تصميم واضح لعمليات إدارية ومهنية مميزة دون استراتيجية عامة واضحة، وشارحة للمستهدفات العامة. وعلى نطاق أوسع، تتشكل هذه المنهجية المعمارية على عمله وكيلاً لتخطيط المدن في السعودية، إذ يعتبر خطة التنمية ومنهجيتها هي الشكل العام، وهو وفريقه يمثلون الكتل، وباقي مدن السعودية تمثل المساحات، فهو يستشعر بُعد العمارة في حياكته لتشابكية المعنى بين الشكل العام والكتلة والفراغات، ليصل بينها بالمعرفة والعمل الجاد.
ثانياً: تصميم الحركة، سواء أفقية أو عمودية، والتأكد من توافقها مع النقطة الأولى للشكل، وهو المنطلق الذي يوضح كيف تخطو الفلسفة المعمارية لمرحلتها الثانية، التي لا تقوم دون وضوح المرحلة الأولى وفهمها. كذلك في الإدارة يمكن اعتبار هذه المرحلة هي مرحلة الخطة التنفيذية، والتصور التشغيلي للاستراتيجية. في العمارة، لا يمكن الحصول على تصميم للحركة دون وضوح أهداف الشكل العام وتخيل الكتل فيه، وكذلك الإدارة، قد يحصل الكثير من الارتجالات والأخطاء الإدارية التنفيذية بسبب عدم وضوح الاستراتيجية والمستهدفات الكبرى. فالاستراتيجية الحقيقية يجب أن تتضمن مجموعة واضحة من القرارات التي تحدد ما تنوي الشركة القيام به وما سوف تتجنبه.
ثالثاً: يبدأ المعماري في المرحلة الثالثة بتوزيع الخدمات، والتأكد من توافرها لتكون الكتلة المعمارية -المستهدف الوصول إليها- صالحة لخدمة الإنسان وسعادته، ومن هنا استقى الدكتور الهذلول معنى مهماً في الإدارة، وكيف يمكن أن تجعل هناك نقاط دعم مادية ومعنوية موزعة بين فِرق العمل، وضرورة أن تلبي متطلباتهم، ولو كان في بعضها تحقيقاً لرفاهيتهم، فتزايد الضغوط على الموظفين يشكل مخاطر مؤسسية يجب على القادة مواجهتها حتى لا تزداد معدلات الاستقالة وحالات الاحتراق الوظيفي، وبالتالي توزيع هذه الدعائم لا يقل أهمية عن توزيع الخدمات في العمارة.
هذه المنطلقات الثلاثة والمتعلقة بما يسمى بالفكرة المعمارية، تقدمت أكثر في حياته، لتكون كذلك أسساً إدارية رئيسية في حياته المهنية.
2. معرفة التفاصيل المرتبطة بالمستهلكين
في العمارة، ما لم يدرك المعماري بعض التفاصيل عن نمط حياة العميل، فلن يتمكن من تحقيق الغاية المطلوبة منه. أحياناً يسأل المعماري عن تفاصيل قد تبدو أنها بسيطة، فمثلاً يستفسر من العميل عن مواعيد نومه وروتينه الصباحي، ونمط حياته الاجتماعية وهل يميل إلى التصاميم الكلاسيكية أم الحديثة (Modern). كلما تعرف المعماري أكثر على العميل وأهدافه ونمط حياته الشخصية، استطاع تقديم منتج مقبول للعميل وكسب رضاه. حين تشاهد بعض الجوانب المهنية في سيرة الهذلول تجد انعكاساً واضحاً لهذا المفهوم، إذ يحرص على معرفة بعض التفاصيل والخصائص النفسية لمن يعمل معهم، ليكون بمنطقة قريبة من قرارتهم الصائبة المستهدفة.
3. البساطة والنضج
تعتبر العمارة المخططة بفراغات جيدة، وبهرجة أقل، وتوزيع منطقي، وتشكيلات مريحة، عمارة راشدة وناضجة، كذلك العمليات الإدارية، إذ يستمد أستاذ العمارة من هذه المنطلقات أسلوباً في التعامل المهني، ويفترض أن يكون توزيع المهام والمسؤوليات منطقياً ويتناسب مع الشخص المسؤول عنها والوقت المتاح لها، كذلك الحديث عن المنجزات، يفترض أن يكون قائماً على النتائج الفعلية أكثر من التكلف في إبرازها، كما أن العملية الإدارية الناضجة لا يمكن أن تكون مؤذية لنفسية القائم بها.
ثمة ارتباط بين مفاهيم العمارة والإدارة، ويدرك الهذلول أن العقلية الهندسية في العمارة التي تبحث دوماً عن الحلول وتكتشفها بنفسها، وتسعى باستمرار نحو الأفضل، يمكن الاستفادة منها وتطبيقها في إدارة الشركات والمؤسسات لمساعدتها على الوصول إلى أهدافها.